سعاد والخريف - الجزء الثامن
لم تكُن تلكَ الكلماتُ لتطرأ على بالي، ولا أعتقدُ بأنني كنتُ لأفكرَ بها ذاتَ يوم، لكن عندما نطقت بها ليندا ظلت تدوي في أذني وتنساب إلى جوفي لتقتحم في إصرارٍ شديدٍ عُمقَ وجداني وخلجات نفسي، أليس الحب إعجاز من الله، فما أجملكَ أيها الإلهُ الذي خلقَ الحُبَّ وجعلهُ سكناً بين البشر.. يَطوفُ في عيونهم ويجولُ في قلوبهم ويغزو بصمتٍ شرايين دمائهم..
ما أن رأت سوزان أختها سارة وهي تبكي وتنتحبُ في حُضني حتى بدأت هي بالبكاء، وأقبلت تدنو من أختها لتضعَ يدها على ظهرها وكأنها تسألها عمَّا يبكيها، فيما التفتّ سارة ضاحكة لبكاءِ أختها وخوفها عليها وقامت برفعها بعد إحتضانها وهي تُقبلها من عنقها ونحرها ... وما هي إلآ هُنيهة حتى ضجّ الجميعُ بالضحكِ ... فيما كان الكلبُ منزوياً يراقبُ ما يدور في صمتٍ تحتَ الشجرة وهو يضعُ ذراعيه فوق رأسه وكأنه لا يريد أن يسمع ما تتلقفهُ أذناه.
لم تكن الساعة قد تجاوزت الرابعة عصراً حينما إنتهينا من تناول طعام الغداء وما تبعهُ من حلوياتٍ أبدعت ماغي في صُنعها وتزينيها وتقديمها، تتلقفُ من أفواهنا الممتلئة أياتَ الشُكرِ والثناء، فيما قامت ليندا وسارة تتبعهما سوزان بتنظيفِ المائدة وحمل الأطباق الفارغة تمهيداً لشُربِ القهوة ولفائف التبغ، كما انني لاحظتُ سارة وهي تُبادلُ ليندا بعضَ العبارات فيما كانتا مُتجهتان إلى المطبخ وهما يضحكان فسرني هذا لأسبابٍ لا أعلم كنهها.
أقبل المساء سريعاً فسويعات الفرح قصيرٌ عمرها وكأنها دقائقُ في عُمرِ أيامنا، وبدأت الشمس تميل غافية لتغوص في أفق الشمال المتوهج بألوان البرتقال وزهر الأقحوان الأرجواني، في مزيجٍ رائعٍ متكامل الألوان، فيما بدأت ماغي تلاعب بأناملها الرشيقة أوتار الغيتار وتقوم بعزفِ بعض المقطوعات الموسيقية التي تتقنها تُصاحبها ابنتاها في الغناء، كانت الأمسية رائعة فيما بدت ليندا سعيدة وهي تحاول مشاركة الفتيات بجولات الغناء بينما كان علي يحاول إقناعي بتدخين النارجيلة معه، وفيما نحن نتجاذب الرغبات في هذا الأمر دق جرس هاتفي النقال وإذ به أحمد يطمئن علينا ويتساءل عن موعد وصولنا إلى محطة القطار ليكون جاهزاً لإستقبالنا حين الوصول إلى فوجيشتا، لكن علي الذي تناهى إلى سمعه ما دار من حديث بيني وبين أحمد سألني مُستنكراً إن كنت سأغادرهم الليلة؟ فما كان منه إلآ أصرّ على بقائنا بعدما أخبرته بنيتي في العودة إلى فوجيشتا وراح كعادة أهل الشرق يقسم بالأيمان المغلظة وهو يحثُ ماغي على التدخل بهذا الموضوع، لم تكن ليندا لتعرف ماذا يجري وما أمر هذا التطور الذي نبا فجأة فما كان منها إلا أن جلست قربي تسألني عن الأمر، وعندما أوضحتُ لها المسألة أبدت إستغرابها كما إستعدادها للعودة وحيدة إلى فوجيشتا إن كنتُ أرى أن بقائي هنا ضروري، لكني اشرت لها بأن هذا ليس إسلوبي في التعامل وبأننا قد جئنا مترافقين في هذه الرحلة فإما أن نعود معاً وإما أن نبقى معاً، فما كان منها إلآ أن قالت لي أنا أحببت البقاء هنا ولا يوجد لدي ما أفعله في الغد لكنني حسبتك لا تريدني ان ابقى معك..هه (وهي تنظر في عينيَّ) إذن نبقى معاً .. نبقى معاً .. قالتها ماغي من وراء ظهري وهي تبتسم ملوحة بيدها لزوجها قائلة سيبقيان..
ماغي زوجة علي ورفيقة دربه منذ أن تعارفا، كان صغير السن عندما احبته، تقول عنه أنه طيب القلب صادق اللسان لا يعرف للخيانة طريق، هي مرحة محبة للحياة وربة بيت ممتازة، تعتقد بأن المطبخ هو المملكة الأولى للنساء اللواتي يردن كسب ود أزواجهن وبأن السرير هو المملكة الأخرى، هي جامعية تخرجت من كلية الفنون الجميلة فرع الموسيقى، تُحسن العزف على العديد من الآلات الموسيقية ومن ضمنها قلب زوجها، لديها صوت جهوري وهي مبدعة في الغناء طيبة القلب رقيقة المشاعر تكتب الشعر كلما تحين لها الوقت لذلك لديها ثلاث دواوين منشورة باللغة البولندية، جلست قربي بعدما أخلدت سوزان إبنتها الصغيرة للنوم فيما كانت سارة تعلم ليندا على أحد البرامج الخاصة بالرسومات بصالة الجلوس قائلة:
- ماغي: هل تحبها؟ ... أعني ليندا
- (فاجأتني بالسؤال كعادتها معي)... هي صديقة لهيلين زوجة أحمد .. تعرفتُ عليها منذ بعض الوقت.. مرحة تذكرني بك ومُحبة للحياة ... طيبة القلب
- ماغي: لم أرى لسؤالي إجابة.. واضح لي أنها كما ذكرت ولكن ... أجبني بصدق هل تحبها؟
- علي: أتركي الرجل يا ماغي ... يحبها لا يحبها هذا شأنه
- (وهي تشير له أن يصمت) ... لا أدري ماذا اقول لكِ .. فأنا مازلت لا أعلم حقيقة مشاعري تُجاه أمور عديدة.. لكنني أشعر بأنها قريبة مني .. أحبُ فيها الكثير من الأمور .. لا أستطيعُ أن أقول أكثر من هذا .. ولكن ... صباح هذا اليوم .. حينما استيقظتُ وكانت هي بجانبي (وهي تنظر لعلي بطرفها) أحسستُ بها كملاك نائم في حضني تلوذ بي .. لا أعلم .. صدقيني
- ماغي: ملاك ونائم وحضني ... وتقول لي لا أعلم ... (بصوت خافت) هل هناك شيء بينكما..
- .. ماذا تعنين؟ أهـ ... لا..لا لا يوجد هذا الأمر.
- ماغي: اصدقني القول ... أنت تقول إستيقظت وهي في...
- لا هذا أمر آخر ليس كما بدا لكِ ... أعرفُ بماذا تفكرين ...لا لا يوجد
- ماغي: لما لا ... هي جميلة وتقول بأنها طيبة القلب و الكثير من الأمور ..ويبدو بأنها متعلقة بكَ ..إذن!
- يا ماغي هذه الأمور .. كما تعلمين .. لا شأن للجمال بها.. وإنما هي صديقة لا أكثر
- ماغي: حسناً كما تريد ... لا تريد الإعتراف؟ ولكن يجب أن أكون أول من يعرف هه
- أنت كاتمة أسراري ... هل نسيتِ
- ماغي: المهم أن لا تنسى أنت ذلك (واخذت تضحك وهي تقبل رأسي)
- علي: دعكَ منها ... أخبرني يا صديقي بماذا تفكر؟ هل قررتَ الإقامة هنا أم أنك عائدٌ للكويتِ أم إلى اين ؟ بريطانيا ربما ...أو لبنان..
- هل تصدقني إن قلت لك لا أعلم؟ لم أقرر بعد ...
- علي: ولكن ماذا ستفعل بالشركة؟
- تركتُ لها كل شيء ... للأولاد أقصد .. حتى فرعنا في بريطانيا ... علي ..لا أريد اي شيء ..يذكرني بها
- علي: أنا ...آسف يا صديقي ... لم اقصد إيلامك.. دعنا من هذا الأمر
لم يمضي الكثير من الوقت حتى دق هاتفي النقال من جديد.. كانت سعاد هي المتصلة، لا أدري لماذ شعرت برغبة في عدم الإجابة على إتصالها لكنني أجبت لئلاً أدخل في سياق تحقيق جديد من قبل ماغي، إستأذنت للرد على الهاتف وأخذت أتجول في الحديقة فيما أكلمها
- سعاد: لم تتصل بي... اهـ... مساء الخير ..
- أهلاً سعاد .. لا لم أتصل ... لسبب أنني مازلت في فيسترأوس وسأنام لدى صديقي علي الليلة وفي الغ...
- سعاد: ولما تنام ...ماذا هناك ...؟ ألم تخبرني أنت عائدٌ اليوم وها هو اليوم قد مضى وستنام الليلة لدى علي .. هل هو لبناني؟
- ما بك يا سعاد؟ وما شأن هذا بذاك ..؟ لن استطيع القدوم الليلة حيث أن الوقت قد تأخر ليس إلآ وأنا أريد قضاء المزيد من الوقت مع صديقي هذا.. هل هناك مشكلة ولما؟
- سعاد: لا لم اقصد ... لكنك وعدت برؤيتي اليوم
- لا لم اعدك بهذا ... قلتُ لك من الممكن أن أتصل بكِ إن أردتِ
- سعاد: لكنكَ لم تأتي ولم تتصل بي... لم تتصل بي (واخذت تجهش بالبكاء)..
- سعاد ما هذا الذي تفعلينه؟ ... لماذا تبكين الآن؟ ألووووو ...ألوووووو
- سعاد: ... أرجوك ..لا تعذبني أكثر من هذا ..لا أفهم ما بي ..أنا .. أنا أحبك...نعم ....أحبك (وهي تبكي بحرقة)
الأمر اصبح خطيراً... أنا لا قدرة لي على تحمل هذا الأمر ما الذي يجري .. وما العمل؟ كنتُ اسمع كلماتها صريحة وواضحة في أذني لا لبس فيها ولا غموض وكأن أجراس الكنائس تدق مع كل كلمة تتفوه بها في رأسي ها هي تعلن لي عن حبها فيما تنتحب باكية صارخة بي ... تتوسل، أي ألم هذا الذي أعتراني؟ أي وجع أكابده... يكاد القلب يندفع من صدري .. يشق اضلعي يقتات من جسدي ويشرب من دمي وكأن الأشجار هائمة تدور فوق رأسي والنجوم .... وها هو الصمت أقبل بالسكون ينساب حولي ويأخذني إلى عالمه المخيف ..وكأن السماء تتباعد أمام ناظريَّ .... وأقبلت الأرض من تحتي تميد... يتبع
التعليقات (0)