مواضيع اليوم

سطل دهان

عبدالكريم البليخ

2017-01-24 15:05:28

0

رحنا وزميلي خالد المفتول العضلات نبحث عن حل لمشكلة بسيطة، أشغلت مساحة من تفكيرنا، ونحن نركض بحثاً عن سطل دِهان لطلاء الجدران، لإصلاح مايحتاجه البيت الجديد الذي سبق وان استأجره صديقي من شابة صربية، نمساوية الجنسية.

وطوال الفترة التي امتدت لأكثر من ثمانية ساعات، بحثنا هنا وهناك في محال فِيْينّا الضخمة، ولم نعثر على ضالتنا، ما اضطررنا مجبرين إلى السؤال عن مكان تواجدها في أماكن ضيّقة جداً، وهذا ما تتطلب استمرارية البحث والعناء... أثناء تجوالنا عن سطل الطلاء الذي سنستخدمه في تبييض جدران المنزل الذي استأجره أخونا إبراهيم في الحي السابع في فِيْينّا.

سالت خالد: أظن أننا لايمكن بحال أن نصل إلى ما نبحث عنه. كما ترى، هناك صعوبةً بالغةً في الوصول إلى المكان الذي يُمكن أن تتوافر فيه هذه المادة للتخلّص من بعض البقع التي تزيّن جدران الغرفتين اللتين سنقيم بهما، ما يدعونا ذلك إلى أن نعود إلى البيت مكتفين بابقاء الجدران على وضعهما والاكتفاء بالطلاء القديم، والكف عن البحث بدون طائل بعد مرور ما يزيد عن ثلث النهار قضيناها بالاعتماد على حدسنا، ومشاهداتنا للأبنية التي تتسع لها شوارع أجمل مدن العالم الأوربي المتحضّر بإطلالتها الساحرة.

قال خالد: ما العمل؟!. سنستمر في البحث عن الدهان. جدران البيت من الداخل بحاجة إلى إعادة تبييض من جديد. أقل ما هنالك غسل الجدران بطلاء يريح النفس، ويوسّع حدقة العين، بدلاً من المناظر المؤذية التي تلفت النظر، ولم يبادر صاحب البيت بإزالتها، أو العمل على إعادة تحسينها للساكن الجديد!.

الإنارة في المنزل باهتة، وتوافرها يستأنس المقيم بها، وتثلج الصدر، ونستغني إلى حد ما عن ضوء الكهرباء في نهار فِيْينّا الطويل في فصل الصيف، في حال أنهينا ما نبحث عنه بإحضار سطل الطلاء الذي يغسل القلوب قبل الجدران! وكما تعرف، فانَّ أسعار الكهرباء في النمسا مرتفعة نسبياً، والضرورة تقتضي التقنين في استعمالها. الجيوب فارغة من عملة اليورو، ونحن، كما تعلم، ما يُمنح لنا من مساعدات مالية، بالكاد تكفي متطلباتنا المعيشية كلاجئين!

قلت: معك كل الحق ياصديقي. سنحاول الدخول إلى هذا السنتر الضخم، أظن أننا سنجد فيه ضالتنا. دخلنا أنا وصديقي خالد بهو المحل الضخم. بحثنا يمنةً ويسرى ولم نعثر على ما يوحي بوجود أية علامة على أن هذا هو المحال المزعوم، على الرغم من اتساع مساحته، يهتم بمواد البناء، أو ما يشير إلى ذلك.

قلت لخالد، تقدّم وأسأل هذا الشاب الوسيم علّه يرشدنا على ما نريد. تقدّم خالد من الشاب، بعد أن كتب بعض العبارات باللغة العربية، وترجمها إلى اللغة الألمانية، بالاعتماد على المترجم والرسوم التي يتضمّنها بواسطة الموبايل الذي بحوزته، وأشار إليه إلى ما سبق وأن دوّنه. وبعد أن تجرأ وسأله بلغته الألمانية المقبولة عن ما إذا كان المحال الذي يعمل فيه يبيع لوازم البناء. هزَّ له برأسه، وقال:نحن في هذا المتجر، وكما ترى، لا نبيع مثل هذه الاحتياجات المنزلية. سأدلك على مكان آخر يمكنك أن تجد فيه ما تبحث عنه.. وبعد أن تقدّم خالد نحوه، وبيده الموبايل، ليقرأ ما سبق وأن كتب له باللغة الألمانية عن السؤال الذي يريد الإجابة عنه. فوجئنا بنطقه اللغة العربية. ضحكنا من تغيير لغته، وكما يبدو، أنه عرف ذلك أثناء الحوار الذي دار بيني وبين خالد.

كان ينظر إلينا قبل توجهنا له بالسؤال. وبعد أن تعرّفنا عليه أشار علينا بأن نتوجه إلى مكان آخر يبعد أكثر من ساعة مشياً على الأقدام من المكان الذي يعمل فيه. توجهنا مسرعين إلى حيث المحال الذي أشار به علينا... وظللنا نمشي إلى وصلنا إلى محال ضخم. وهناك عثرنا على أنواع كثيرة من المواد واللوازم المنزلية مختلفة الأشكال والألوان. بحثنا في جميع زواياه ولم نصل إلى هدفنا.. وبالاعتماد على محرّك الباحث الالكتروني، وتحويل ترجمة ما يمكن أن يدلنا إلى المكان الذي يتوافر فيه سطل الدهان، وجهنا بعض العاملين في المحال عن مكان تواجد المادة التي نبحث عنها. وأخيراً حصلنا عليها، بعد أن أنهكنا التعب.

لم يكن من بد من أن نستمر في الوصول إلى الهدف، والسعي الحثيث للبحث عن سطل الدهان الذي أضعنا من أجله ساعات طوال... وأخيراً تمكنا من العثور عليه في المحال الذي سبق وأن أشار به علينا ذلك الشاب النمساوي، من أصل عربي، والذي يجيد اللكنة العربية، وبفصاحة مطلقة.

حملت مع صديقي خالد سطلي الدهان ذات الأوزان الثقيلة واتجهنا بهما نحو باب المخزن الكبير الذي يحتوي على مواد منزلية مختلفة. وفي طريق العودة، ونحن نحمل ما كنا نبحث عنه، توقفنا أمام إحدى المحال التي تبيع الأيس كريم، تناولنا ما يبل ظمأنا منها، وعدنا أدراجنا نحو المنزل الذي نقيم فيه، والذي يبعد عن المكان الذي نقف عنده ما ينوف عن الثلاث كيلومترات.

استمرينا في مشينا. وفي طريقنا، أشار زميلي إلى أن نلجأ إلى ركوب مترو الأنفاق عسى وعلَّ أن يقرّب المسافة أولاً، ويخفّف عن رفيقي حمولتي سطلي الطلاء، والذي ناء بحملهما بمفرده لجهة توازن الحمولة، ولتخفّف عنه الضغط الجسدي الذي أجهده.

تابعنا مسيرنا بسرور برغم الزحام. رأيت زميلي متعباً من حمل ما بيديه من أوزان أنهكت كاهله!؟.

حاولت مساعدته بأن أخفّف عنه بعض ما يحمل، ولكنه ألحَّ على أن يستمر في حملهما بمفرده.وصلنا إلى حيث محطة المترو، وانتظرنا فترة قصيرة حتى وصل المترو إلى المحطة التي نقف عندها، لحظنا المترو يغصّ بالركاب الذين يتوزّعون أدوارهم في هذه الحياة. كل ذاهب إلى عمله، ومتجه إلى المكان الذي "يتلقط" منه رزقه، ونحن لا زلنا بانتظار الوصول إلى المحطة التالية للوصول إلى المنزل حيث ينتظرنا عمل شاق ومرهق!.

وأثناء توقف المترو في المحطة التالية، رأيت خالد يحمل سطلي الدهان ظاناً منه أنه سينزل في المحطة التي توقف عندها المترو، وخلال توقفه نزلت بمفردي من إحدى بواباته بانتظار نزول زميلي الذي رأيته حاملاً السطلين وينوي النزول.

صدمت من هول ما حدث. بقيت لوحدي داخل أرض المحطة. تلفتُ يمنةً ويسرة. لا أحد غيري نزل من المترو. عاودتُ الصعود مرةً أخرى إلى داخله، إلاّ أنَّ الأبواب أوصدت بسرعة ما جعلني أقف مندهشاً مما حدث... وهذه هي المرّة الثانية التي أصعد فيها المترو في فيينا، وليس لدي الخبرة بأسماء المحطات التي يمر بها، ومعرفتي بها لازالت في طور بداياتها وهذا ما أثار في دخيلتي بعض التوجس والريبة من أن أتمكن من العبور إلى محطة أخرى، ما جعلني متمسكاً بأيّ خطوة يخطوها رفيق طريقي.

نزلت من المترو وأنا أتابع خطوات خالد حتى ينزل هو الآخر من المترو وبيده سطلي الطلاء. ما حدث إنني بقيت خارج المترو، داخل النفق الذي يمر به. صدمت مما أنا فيه. لوحت بيدي إلى خالد أثنا مرور المترو، وارتسمت على شفاهنا ضحكات يعتريها الخوف لما حدث من تصرف نتيجة الموقف الغريب والتصرف الساذج الذي حصل.

تسمّرت في مكاني من هول ما حدث. هذه هي المرّة الأولى التي أركب فيها المترو في مدينة كبيرة ومزدحمة بالسكان مثل فِيْينّا، وليس لدي أي معرفة مسبقة بالمحطات التي يقف عندها.

حزمت ما يمكن أن أتوكل به على الله. فكرت ملياً. قلت في نفسي سأصعد في المترو وسأنزل في المحطّة التالية، وأظن كل الظن أن خالد ينتظرني فيها.

بعد دقائق معدودة وصل المترو وركبت في إحدى عرباته، ونزلت في المحطة التي شعرت بأنني سأجد ضالتي فيها، وهو عثوري على زميلي الذي افتقدته فجأةً.

الضياع في هذه المدينة ليس بالأمر الهيّن، ولم يكن معي جهاز الموبايل الذي تركته في المنزل، ولم أتمكن من الاتصال برفيقي ليرشدني على الطريق الذي يمكن أن أصل إليه حيثما يكون.

نزلت في محطة المترو والتي كل الظن أني سأجده داخل بهوها. وهناك لمحته لمجرد أن نزلت من عربة المترو. تبادلنا الابتسامات... وضحكنا كثيراً لهذا الموقف الذي لم يكن من بد من أن يكون فصلاً هزلياً من فصول أبي البهاء الذي لطالما قرأنا له بعض المواقف المضحكة، والفصول الباهتة، ومداعباته مع الكثير من المعارف والأصدقاء الذين أراد الإيقاع بهم في زحمة الحياة.. والتي حاول مراراً أديبنا عبد السلام العجيلي، طيّب الله ثراه، أن يكتب عنها، وما يمكن أن يولد في ما هم مقبلون عليه من أن يغرس في قلوبهم بعض ما يحلو له من فصول، تركت الكثير من الصور المفجعة في نفوس من قرأها، متضمنةً أشكالاً متعدّدة من المؤسيات التي غيّرت ـ بالتالي ـ الكثير من مجرى حياتهم!

 

                                                                              عبد الكريم البليخ

 

                                                                                    

                                                                                                       

                                                                                                                                                                




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !