ليس بالامکان الجزم بأن تضعضع الاستقرار في العراق قد بدأ منذ عام 9 نيسان عام 2003، ذلك ان سقوط النظام البعثي الشمولي کان حاصل تحصيل لجملة سياسات خاطئة قادت في النهاية الى الفلتان الامني و إنعدام الامن و الاستقرار بصورة غير عادية لفترات طويلة نسبيا.
إهتزاز الامن الوطني للعراق و غياب الاستقرار، قد بدأ أساسا منذ ذلك القرار الخاطئ بمهاجمة إيران و مانجم عنه من حرب طاحنة إستمرت لثمانية أعوام، وماتداعى عنه من الاحتلال الغاشم و غير المبرر للکويت، إذ أن الامن الاجتماعي العراقي الذي کان يحظى بأساس محکم و متين، قد بدأ يتضعضع رويدا رويدا منذ تبلور تأثير الحروب الطاحنة لصدام حسين في الاقتصاد العراقي و تراجعه المستمر سلبا وإنعکاس ذلك في البنيان الاسري العراقي الذي کان قد طاله التأثير السلبي أيضا من خلال إنتشار حالة الترمل لدى النساء و اليتم لدى الاطفال، حتى بات في النتيجة ظاهرة طاغية على المشهد الاجتماعي العراقي وماقاد ذلك الى إنتشار الجريمة و الدعارة بصورة غير مسبوقة في عقد التسعينات من القرن المنصرم وخصوصا في السنوات الاخيرة و الاعوام الثلاث الاخرى من الالفية الجديدة، وقد روى الکثيرون لکاتب هذه الاسطر عن شيوع و إنتشار حالات جديدة من البغاء بسبب من تردي الاوضاع الاقتصادية و الاسرية في بغداد بشکل خاص، ولاسيما وجود شبکات منظمة للبغاء تتکون من ربات اسر عراقية اظطررن بدافع الفقر و الفاقة الى الالتجاء الى هذه المهنة الرذيلة، کما ان النظام وعلى الرغم من أنه کان لايزال ممسکا بيد من حديد بتلابيب المجتمع العراقي، غير ان سطوته تلك لم تمنع من إنتشار الجريمة و بصورة غير عادية خصوصا وان تفاقم ظاهرة الرشوة و الفساد الاداري داخل مؤسسات النظام البعثي، قد کان هو الآخر عاملا قويا آخرا ساعد على توفير الاجواء الملائمة للجريمة و استمرارها، وکل ذلك کان يجري و النظام يطبل و يزمر لماکان قد اسماه بالحملة الايمانية(والتي کانت في الاساس محاولة فاشلة و غير مجدية من جانب البعث لإمتصاص التأثيرات السلبية للحروب الخائبة على المجتمع العراقي)، في مثل تلك الايام تحديدا، بدأت التغييرات السلبية تطال المجتمع العراقي و طفقت تطغي عليه حالات و ظواهر غير مألوفة او معهودة سابقا، وکل ذلك کان ممهدا لتلاشي الروح المعنوية و الاحساس بالوطنية و الانتماء لدى الشخصية العراقية وبالتالي إنعدام روح الاحساس بالمسؤولية لديها وهو أمر لمسناه بجدية بالغة في حربي تحرير الکويت و العراق، و من الممکن جدا تشبيه المشهد العراقي خصوصا في بغداد قبل الهجوم الامريکي عام 2003، بين بغداد في ظل حکم صدام حسين وبين الدولة العباسية أيام المستعصم العباسي عندما کان هولاکو يطبق عليها من کل الجهات تمهيدا لإسقاطها، وهنالك العديد من الروايات المنقولة في کتب تأريخية کتبت في زمن مقارب لسقوط الدولة العباسية(مثل شرح النهج لأبن أبي الحديد و الاغاني لأبي الفرج الاصفهاني)، حيث نجد تصوير الوضع في بغداد في تلك الروايات متشابها و بصورة کبيرة مع الوضع في بغداد قبل الهجوم الامريکي و سقوط النظام برمته، واليوم، وبعد ان طوى العراق الصفحة البعثية السوداء المقيتة و دخل في عهد جديد مازالت آثار و تداعيات العهد المباد ماثلة و قوية عليه، و لاتبدو في الآفاق ثمة اشارات عن قرب إنتهاء و تلاشي تلك الآثار ولاسيما وان روح التعصب و الانتقام و التحزب لمختلف الامور تشتد يوما بعد آخر من دون أن يأخذ أي تيار سياسي عراقي ثمة دروس و عبر من الماضيين البعيد و القريب، بل وان الانکى من کل ذلك، ان الجميع يتصرفون وکأن الماضي أمر يعني أصحابه ولايخص الحاضر او المستقبل بشئ، انهم يلعنون البعث وأيامه و أزلامه من دون أن يخطون ولو خطوة عملية واحدة للأمام بإتجاه محو التربية البعثية من عقول و نفوس العراقيين، انهم يکتفون بظاهر براق و باطن أجوف، انهم يطلقون الشعارات و الخطب الرنانة من دون أن يتحرکوا على أرض الواقع بصورة عملية بإتجاه معالجة الآثار المدمرة للبعث والتي ماتزال تعشعش في أغوار العراقيين، وان حالة القلق و عدم الثقة التي تهيمن على قطاعات واسعة جدا من الشعب العراقي، مردها و مبعثها الاساسي هو بقاء الرواسب البعثية اولا خصوصا حالة اللامبالاة و إنعدام روح الاحساس بالمسؤولية وان إعادة الثقة بالنفس و إعادة ترسيخ أحساس روح الشعور بالمسؤولية يتطلب خلق و توفير دعامات و رکائز ملموسة تفعل فعلها على أرض الواقع و تصون الامن الاجتماعي بعد أن توفر کل المتطلبات اللازمة لذلك، ومن دون ذلك، فإن الحديث عن عراق هادئ و مستقر أمر محال.
التعليقات (0)