مواضيع اليوم

سرُّ تكريم الله للإنسان

حسن العجوز العجوز

2012-05-24 05:05:23

0

 



بسم الله الرحمن الرحيم 
الحمد لله الذي جمعنا بتوفيقه في بيته، علي مائدة فضله وجوده وكرمه، المنزلة من فيض كتابه. والصلاة والسلام علي معاني كتاب الله الغيبية، وسر أسرار الآيات القرآنية، والكاشف للخلق أجمعين ما فيها من الحقائق الربانية والعلوم الإلهية، سيدنا محمد صاحب العطية المخصوصة الربانية، وآله وصحبه وكل من اهتدي بهديه إلي يوم الدين، آمين ..أمين، يارب العالمين. (أما بعد) 
فيا إخواني ويا أحبابي بارك الله عزَّ وجلَّ فيكم أجمعين 
اختار الله عزَّ وجلَّ الإنسان خليفة عنه في الأكوان، وجهَّز كل ما يحتاجه إليه الإبسان في حياته .. في بيته .. في عمله .. مع نفسه .. مع أهله .. مع جيرانه .. مع أهل مجتمعه. كل ما يحتاج إليه في جسمه، أو في عقله، أو في فؤاده أو قلبه أو روحه، أو في بناء حياته الدنيوية في تعامله مع الآخرين، في حضوره بين يدي رب العالمين - كل ذلك وأكثر من ذلك - جعله الله في هذا الكتاب، الذي هو بمثابة - ما يطلقون عليه بلغة العصر - كتالوج ملك الملوك لهذا الإنسان الذي كرَّمه الله علي من سواه، ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) (70 -الإسراء).
هذا التكريم - والحديث عنه - ليس محل اليوم، ولكنه بسبب اختصاص الإنسان بسرِّ الرحمن - عزَّ وجلَّ - الذي أشار إليه القرآن، وحقائق هذا السرّ وخفاياه لا يعلمها إلا الله، أو مَنْ علَّمه مولاه إجمالاً في قول الله عزَّ شأنه: ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ ) (29 -الحجر). ولا يطمئن قلبي للحديث في هذا السرّ بما فسره بعض المفسرين بقولهم أو بفلسفتهم، لأن السرَّ مضمون، ومن العلم المكنون، ولا يعلمه إلاَّ خالق الكون- عز شأنه، وتبارك اسمه، ولا اله غيره- ولذلك قال في هذا السر:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) (85 -الإسراء). يعني الرُّوح وسرُّها ليس من هذا القليل الذي علَّمكم الله عزَّ وجلَّ. فكرَّم الله عزَّ وجلَّ الإنسان غلي جميع الكائنات العلوية والسفلية، الظاهرة والباطنة، وبسرِّ هذا التكريم كان لنا المقام الكريم عند الله في الآخرة، والحياة الطيبة عند الله عزَّ وجلَّ بين خلق الله في الدنيا. 
الإنسان الذي اختاره الله لخلافته .. اختاره نائباً عن حضرته في الأرض يعمل بشريعته، فأوضح الله له الطريق المستقيم، والمنهج القويم، الموصل إلي رضوان الله عزَّ وجلَّ في الدار الآخرة والحياة الطيبة في الدنيا. والاثنان متلازمان، فمن يردد الدعوة أن المسلم سعادته في الآخرة، وأن عيشته في الدنيا تكون في ضنك وشقاء، وعناء وبلاء، ليفوز بخير جزاء، لم يفقه كلام ربِّ العزة عزَّ وجلَّ. ومن قال أن المؤمن يتمتع بالدنيا كما يجب وكما تهوي النفس وما يتفق مع الهوى، وإذا تقدَّم به العمرُ سارع إلي التوبة النصوح، وأطاع الله في بقية عمره، فسوَّف .. - والمسوف لا يدري نهاية أجله - فهو علي خطر عظيم. لكن منهج الله مَنْ عمل به سعد في الحياتين - واحتيا حياة طيبة في الدنيا والآخرة - في بيان الله في المادة القرآنية التي صاغها الله عزَّ وجلَّ بعناية ربانية، ويقول فيها لنا - ولِمَنْ قبلنا- وللخلق أجمعين: ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً - هذا في الدنيا، وحتى لا يخطر ببال البعض أن هذا العطاء في الآخرة عقَّب عليه ربُّ العزَّة بقوله - وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ )(97 -النحل). 
اذاً المسلم سعيد في الدنيا والآخرة، ولابد - إن استقام ومشي علي منهج الله، ونفذ الكتالوج الذي أنزله له مولاه - ومن يجد مشقة أو شدة، أو تعب أو عناء، فإن هذا إذا استمر ولم يتغير، إنما خطأه في تنفيذ منهج الله، لكن لو كان - للحظة أو لِبُرْهَة أو لساعة، أو ليوم أو بعض يوم، أو شهر وزمن قليل - فان هذا أمر يسير، وقال فيه العلي الكبير: ( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ) (5،6 -الشرح). ولم يقل ربُّ العزة: ( إن بعد العسر )، ولكن قال: معه!! وقال في ذلك الحبيب صلوات الله وسلامه عليه: ( لن يغلب عسرٌ يسرين )فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ) (5،6 -الشرح). العسر جاء بالألف واللام فهو واجد هنا وهنا، ولكن اليسر الذى هنا غير الذى هنا، هذا وهذا يسرٌ جديد. فالعسرُ واحد في الآيتين، لكن اليسرَ تنوع في المقامين، فأصبح يسرين مع عسر واحد، ولن يغلب عسرٌ يسرين أبدا. 
فالمؤمن قدَّر الله عزَّ وجلَّ له أن يسير في دنياه بهذا الجسم - وجعله كالسيارة التي نركبها، يحتاج إلي طاقة تحركه، ويحتاج إلي بطارية تنير له الطريق، وتبين له المطبات والمتاهات التي يتعثر فيها في سيره في الطريق. والذي ييسِّر للمسلم أمور دنياه أن يأخذها بالكيفية التي أمر بها الله، ولا يأخذها بما يُمليه عليه حظُّه وهواه، إن كان أكلٌ أو شرب، أو لهوٌ أو لعب، أو نكاحٌ أو عمل، أو أيُّ أمر من أمور الدنيا، المخلص منها جميعا، أن يأخذها الإنسان كما وضحها القرآن - لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا ووضحها بأحلى بيان، وأوضح برهان:لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا )(49 -الكهف). 
والخطأ الذي وقع فيه كثير من أهل عصرنا: أنهم استناروا بنور القرآن، وتشبهوا بالنبي العدنان، في العبادة - في الصلاة وما يتبعها من طهارة ووضوء، ونوافل وسنن، والصيام، والزكاة، والحج - ولم ينظروا إلي بيان القرآن لكل حقائق الأكوان!! وجعلوا هذا الاجتهاد والإنسان - وهذا خطأ!! فقد قال الله عز شأنه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ )(21 -الأحزاب). فى أي شيء؟ فى كل أمره .. فى كل شأنه .. فى كل أحواله.
لا أقول بعقلي الكاسد: إن تعامله صلى الله عليه وسلم - مثلاً مع زوجاته - فى زمان لا يلائم زماني وعصري. لأنه صلى الله عليه وسلم جاء بما يلائم كل عصر، لكن يحتاج إلى المؤمن الفقيه الذى يأخذ من دين الله، ومن سنة حبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم، ما يلائم العصر. لا يأخذ القوالب الجامدة، ولكن يأخذ الثوابت القرآنية، والمصادر الأساسية فى السنة المحمدية، وبقيه التشكيلات القابلة للتغير- على حسب كل زمان ومكان - يأخذها من العلماء العاملين فى عصره وزمانه. فان الله عزَّ وجلَّ جعل فى القرآن أحكاماً ثابتة لا تتغير ولا تتبدل - هي الأصول القرآنية - والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جاء فى سنَّته بأصول لا تتغير مع أى زمان أو مكان، لكن جاء فيها بصور صالحة - صورة تصلح للسليم وصورة تصلح للسقيم والمريض، وصورة تصلح للشيخ الكبير وصورة تصلح للشاب، وصوره تصلح للمريض الذى لا يستطيع الحركة، وصورة تصلح لمن يسكن في بلاد شديدة الحرارة، وصورة تصلح لمن يعيش في بلاد شديدة البرودة - وكلُّها واردة في سنة حبيب الله صلوات الله وسلامه عليه. 
خذ لك علي سبيل المثال: صلاة الخوف التي أوجبها الله عزَّ وجلَّ علي المقاتلين ساعة القتال، أعدَّ الإمام بن قدامة في كتابه (المغنى) سبعين صورة لصلاة الخوف، كلَّها واردة عن رسول الله صلي الله عليه وسلم لتناسب كل الأجناس، وكل الطبائع القتالية في زمانه، وبعد زمانه إلي أن يرث الله عزَّ وجلَّ الأرض ومن عليها، فمن لم يستطع أن ينفذ الأولى ينفذ الثانية أو الثالثة إلي السبعين، المهم ألا يقف عند صورة ويقول: هذه هي الصورة الواردة والباقي مخالف. وهذه مشكلة العصر!!! أن يعرف الإنسان باباً من السنَّة ويغلق بقية الأبواب أمام المسلمين، ويقول: هذا الباب هو الذي ورد وما سواه مخالف. وقد قيل في ذلك كما قال علماؤنا الأجلاء: 
( التشدد .. يحسنه كل أحد، ولكن التيسير .. لا يحسنه إلا من اتسع علمه)،
لأن إتساع العلم يكشف له عما ورد. 
وحبيب الله ومصطفاه صلي الله عليه وسلم، قال الله لنا في شأنه: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا (7 -الحشر). وهنا وقفة!! لم يقل الله: وما أتاكم القرآن فخذوه لأن الرسول يأخذ من القرآن!!، لكنه يأخذ من القرآن ما يلائم الفرد الذي أمامه، وحال الإنسان الذي يواجهه. تتعدد الفتوى في الحالة الواحدة من حضرته صلوات الله وسلامه عليه لتباين القدرات واختلاف الطاقات، فيعطي هذا ما تسمح به قدراته، وما يلائم ميوله ورغباته - في طاعة الله وعبادته عزَّ وجلَّ.
ولذا نوَّع الله عزَّ وجلَّ العبادات القرآنية، ونوَّع الحبيب النوافل الشرعية، لماذا؟!! منا من يميل إلي قيام الليل، ومنا من يميل إلي الصيام، ومنا من يميل إلي الإنفاق والصدقة، ومنا من يميل إلي الخدمة - خدمة الناس - ومنا من يميل إلي السعي في الصلح بين المتخاصمين، ومنا من يميل إلي صلة الأرحام، ومنا من يميل إلي كفالة الأيتام. كل امرئ له في كتاب الله نصيب، فالذي يأخذ نصيبه الذي يلائم رغباته، ويريد أن يسير الناس علي طريقته وعلي هديه قد أخطأ، لأن دين الله واسع، وسنة الحبيب صلي الله عليه وسلم وسعت الخلق جميعا.
فالإنسان المؤمن الذي يمشي علي شرع الله بما يلائم هذا العصر الذي يعيش فيه - من العلماء العاملين، لا يقلب في كتب السابقين، ويقيس الأمور الحاضرة - التي لم تكن موجودة عندهم - بأشياء لا شبيه لها في كتبهم، ولكن هناك أئمة مجتهدون أعطاهم الله عزَّ وجلَّ الحجَّة واليقين والبرهان، وقال فيهم الله: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ - من الذي يعرفه؟ - لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ (83 -النساء). هناك جماعة مهمتهم الاستنباط منهم، يعين في كل زمان ومكان، قائمين بأمر الله إلي أن يرث الله عزَّ وجلَّ ومن عليها. 
أنا أريد أن آخذ بسنة الحبيب صلوات الله وسلامه عليه في المعيشة في الأكل والشرب واللبس والنوم، هل ينفع في هذا الزمن أن أبحث في كتب الأقدمين عن الأكلات التي كان يأكلها رسول الله صلي الله عليه وسلم وأصنعها، وأجبر أولادي وبناتي وزوجتي علي أكلها؟ لا، فأنا إذاً أنفِّرهم من دين الله!! ذهب نفر من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم إلي السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، وقالوا لها: يا أم المؤمنين أو يا أماه: نريد أن تصنعي لنا طعاماً كان يحبُّه رسول الله صلي الله عليه وسلم ، قالت: لا تستطيعون أكله!! قالوا: ولم؟ قالت: لقد انتقل رسول الله صلي الله غليه وسلم إلي جوار ربِّه ولم يأكل منخولاً قط!! لم يكن هناك شيء ينخل، لم يكن كما نري في العالم الآن أنواع الدقيق التي لا حصر لها ولا عد لها. هل نلغي المطاحن؟!! ونلغي النخيل ونأتي بخبز الشعير ونأكل؟!! هل هذا يليق بدين الله عزَّ وجلَّ ؟ من يفعل هذا ينفِّرُ خَلْقَ الله من دين الله سبحانه وتعالي بطريقته العقيمة في الاقتداء بالسنة!! ولكن دين الله واسع. 
الأمر الجامع في الطعام، ما هو؟ قول الله: فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24 -عبس) - لا من حيث الشكل ولا اللون، ولا الطعم ولا الرائحة، وإنما - أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا. فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا. وَعِنَبًا وَقَضْبًا. وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً. وَحَدَائِقَ غُلْبًا. وَفَاكِهَةً وَأَبًّا. مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ (25: 32-عبس).
إذن ما المطلوب هنا؟ التفكر في هذه النعم. كل ماشئت - كما قال صلي الله عليه وسلم: ( كُلْ ماشئت، والبسْ ما شئت، في غير إسراف ولا مخيلة ). لا يكون فيه إسراف ولا مباهاة ولا خيلاء. إذن: إذا حصَّلته من حلال، وصغته من مباح، وجعلت فيه التفكر، وجنبته الإسراف والمباهاة، أي طعام بعد ذلك يدخل في قول الله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ (40 -الأعراف). 
إذن خلاصة الأمر بعد ذلك، الهدي النبوي الآخر: آكل بثلاث أصابع، آكل بيميني، كل هذه أمور مسنونة، ويجب علينا أن نعلِّمَها لأنفسنا، ونعلِّمَها لأولادنا بعد ذلك، حتي لا أرهقهم وأقول لهم تعالوا هذا هو الأكل الذي كان - في سنن أبو داود - يأكله النبي، وأنت لا بد أن تعمليه وإلا تكوني مخالفة لسنة رسول الله، من الذي قال هذا الكلام؟ 
جعل الله زيًّا شرعيًّا، فما الزِّىُّ الشرعيّ؟ قالوا: ما يستر بين الصرة وركبتيه، المهم أن يبعد عن الحرير الطبيعي والذهب. مادام الإنسان يستر مابين سرته وركبته، ويلبس من حلال، وليس فيه حرير ولا ذهب للرجال - لكن للنساء لا بأس، والنساء تستر جميع جسمها ما عدا الوجه والكفين - ما الذي يَحْرُمُ فى هذا؟!! فإن الإسلام جاء بصفاء للقلوب، وجاء بنقاء للنفوس، وجاء بطهارة للسرائر، فمن شغل نفسه بهذه المشاغل، والتفت عن الأساس - وهو القلب - هذا يحدث له في الحياة معيشةٌ يقول فيها عزَّ وجلّ: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ) (124-طه). هذه الآية طبعاً في الكافرين، ومعشيتهم ضنك - مع أن عندهم الوسعة في الأقوات والأموال، لكن ليس عندهم وسعة في القلوب ولا في الصدور، ولا طهارة في النفوس.
ما الذي يجعل المؤمن يعيش حياته الحياة الطيبة التي وعدنا بها الله؟ إصلاح النفس، وطهارة القلب. إذا أصلح نفسه وطهَّرها، ونقَّي قلبه وجعله قلباً سليماً ييسِّرُ الله عزَّ وجلَّ له كُلَّ أمر. المهمة الأساسية لإصلاح هذا الإنسان هي قول الحبيب صلي الله عليه وسلم: ( إن في الجسد لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ). صلاح القلب بأى شىء؟ صلاحه بالعقيدة الحقَّة، واليقين في الله عزَّ وجلّ. 
إذا علم الإنسان - علم اليقين - أن ما كان له فسوف يأتيه، ( وإن نَفْساً لن تموت حتي تستوفي رزقها ) ماذا سيفعل؟ سينفذ بقية الحديث: ( فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ). لن يسعي إلي حرام، وبالتالي لن يعاقبه المولي عزَّ وجلّ. إذا أكل حراماً - بالوقوع في الذنوب والآثام - يوقعه في الشرور ويجعل دائماً حياته في همٍّ واغتمام .. لأنه يحرص دائماً أن يسعي سعياً حثيثاً ويأكل من حلال، ولذلك يصلح الله كل شأنه. 
إذا علم الإنسان - علم اليقين - أن كل كلمة - تستفز - يسمعها الله فسيحاسبه عليها، فسيتَّقي الله ويقول للناس كما قال الله: ( وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً ) (83 -البقرة). ما سبب مشاكل المجتمع؟ سببها الكلام!! كلمة علي هذا، أو كلمة في حق هذا، وهذا قالها!! وهذا نقلها!! لكن إذا دخل في زمرة القوم الذين قال الله فيهم: ( وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ) (24 -الحج)، فسيحمر وجهه خجلا من هذا، لماذا؟!! وسيفرُّ من هذا الشارع، لماذا؟!! لكي لا يقابله. لماذا ؟ لأنه لا يقول إلا ما يرضي الله، ولا يخرج منه إلا الكلام الذي يعلم أنه في ميزان حسناته يوم يلقي الله.
فمن يريد الحياة الطيبة، أول ما يبحث عنه القلب ويصلح شأنه مع الله، ويملأه بشحنات من سياج القرآن، وأنوار سنَّة النبي العدنان صلي الله عليه وسلم. إذا كانت البطارية سليمة تكون الإضاءة كريمة، يمشي في الدنيا كما يقول الله عزَّ وجلّ:( أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) (122 -الأنعام)، فيكون معه النور يري الإشارات فلا يمدُّ يده لهذا الحرام، ستضيء اللمبة الحمراء فيعرف أن هذا ممنوع ... إذا مشي في طريق خطأ، ستضيء له العواكس فيعرف أن هنا مطب فيمشي علي رِسْلِهِ ... يقول له إنسان كلمة أو قولاً، علي الفور يعرضها علي الكمبيوتر الرباني القرآني - الذي في داخله - فيقول المعمل الداخلي: افرزوا هذه الكلمة: إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا ) (6-الحجرات)، انظروا الأولى - والأولى معك - وأنت معك بنور الله، لو استضأت بنور الله - نورٌ ربانيّ يعرف ما في الصين، و يعرف ما في الوجه، وساعة ما تراه تقول أنا أرى عينه ليست مضبوطة، أري ضحكته صفراء، يهيىء إليَّ أنه كاذب!! من أين هذا؟ من الإحساس!! 
فلو قوَّينا هذا الإحساس من كتاب الله، وبالعمل خلف حبيب الله ومصطفاه، سندخل في قوله صلوات الله وسلامه، ويكون لنا جهاز مكتوب عليه: ( اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله ) ، فالذي سينظر بنور الله وينطق بتوفيق الله ، أين يكون هذا ؟ يكون مع الله!! وهذا يأخذ مفتاح سحري!! ستقول عليه خاتم سليمان؟!! الصواب: أن تقول معه دعوة مستجابة، الصواب: أن تقول معه سرٌّ مرموز، يفتح لك كل الكنوز النافعة، الظاهرة والباطنة!! ينفع في ماذا؟ ( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) (2، 3-الطلاق).
تكنولوجيا قرآنية في هذه الأجهزة الربانية وأكثر منها، ومعروضة في محلات الحبيب صلوات الله وسلامه عليه، لكن كما قال ربنا فيها: وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ 20 -يوسف) .. المسلمون زاهدون في هذه الأجهزة!! يريدون الأجهزة الحسية الملموسة، لكن أجهزة القلوب التي كانت مع الحبيب ومع أصحابه - وأنتم حافظين طبعا الروايات والكرامات والمعجزات التي أيَّد ربُّنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذه الأمور.
فمن أين أتت يااخوانى هذه العطايا؟ كانوا يحرصون ألا يدخلوا في أي أمر - مهما كان شأنه - إلا إذا استشار كتاب الله، واستوضح من سُنَّة حبيب الله ومصطفاه. ماذا يقول الدستور في هذا الأمر؟ والمذكرة التفسيرية ماذا تقول في توضيح هذا القانون؟ حتي المشي، حتي النظر، حتي النوم، حتي إتيان الزوجة!! لا يوجد أمر من الأمور إلا وفيه قانون راسخ، وتفصيل واسع، من الحبيب صلوات الله وسلامه عليه. 
نحن جعلنا الدين في المسجد، وباقي الأشياء؟!! لا، علي حسب هوانا، وعلي حسب حظِّنا. آكل كما أريد!! وأشرب كما أريد!! وألبس كما أريد!! وأقول: هذا ليس له علاقة بالدين، هذا شيء وهذا شيء!! فنجد مثلاً الأمثلة الغريبة والعجيبة في عالم اليوم: رجل يحجُّ كُلَّ عام - ويفتخر أمام الناس أنه يحجُّ كُلَّ عام - ويُخرج الزكاة، ولكنه يغش في البضاعة، سواء في الكيل أو في الوزن أو في الصنف!! ما هذا يا فلان؟!! يقول: هذا شيء وهذا شيء، كيف هذا الكلام؟!! ... أنت لم تُحْكِمْ الأساس ... إذن فلابد أن تغيِّر حياتك كما وصَّى ربُّ الناس عزَّ وجلّ. 
عين الخليفة هارون الرشيد - أخاه - محتسباً في الأسواق ليراقب البضاعة،كالتسعيرة والبضاعة وأصنافها - وكان أخوه هذا علي ورع وزهد - فجاءه بعد عام وقال له: أنت لم تحرر أي مخالفة!! لماذا؟ قال: يا أمير المؤمنين: رأيت الله عزَّ وجلَّ ينتقم من الظالمين أولاً بأول، فلم أرد أن أجمع عليهم همَّين. قال له: كيف؟ قال له: كُلُّ مالٍ جمعوه من حرام، جعلهم الله ينفقونه في الذنوب والمعاصي والآثام، فلا ينفقه في طاعة الله!! ولا يوفقه به الله!! فوجدت أن ربَّنا أولاً بأول يٌنهى هذه القضية، والسبب أنه لم يسمع قول الله عزَّ وجلَّ لحبيبه ومصطفاه - ولنا جميعاً عباد الله المؤمنين: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ(172-البقرة)، كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ) (51-المؤمنون)، إذن تحسم القضية. 
فلو اهتدي المؤمن إلي أن يتحكم في عمله وفي قوله، في سلوكه وفي حركاته وفي سكناته، علي كتاب الله وسنة رسول الله، إذن يصلح الله له جميع شأنه، ويجعله في الدنيا غنيًّا بالله عن جميع من سواه، فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا (65 -النساء). جعل الله عزَّ وجلَّ قواعد كلية في كتابه الكريم، وتفصيلها في سنة حبيبه العظيم، مَنْ عمل بها في نفسه وفي أهله، وفي عمله وفي مجتمعه، أحياه الله في الدنيا الحياة الطيبة. وكلمة الحياة الطيبة ليست كما يفهمها البعض -الناس تفهم الحياة الطيبة يعني المال الكثير، الأرصدة التي في البنوك، والعمارات والسيارات، ولكن ليست هذه هي الحياة، إنما اسمها المعيشة - أما الحياة الطيبة لا تكون إلا بالإيمان، ولذلك يقول الله لنا فيها - ونحن مؤمنون: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ (24 -الأنفال)، وهل نحن لسنا بأحياء؟!! قال: لا، لأن الحياة الطيبة لا تكون إلا مع الله، وأول علامة من علامات الحياة الطيبة أن يصبح صاحبها ذوقه القلبي سليم، فيذوق حلاوة العبادة، ويحسُّ بالخشوع في الطاعة. 
فأول علامة من علامات المريض الذي عنده حمي، ما هي؟ ارتفاع في درجة الحرارة، العلامة الثانية: يتغير طعم الفم، يعطوه السكر يقول إنه مرّ!! المياه العذبة، يقول: مرة!! ما الذي غيَّر طعم فمه؟!! مرضه.. فالمؤمن أول علامة من علامات حياته الطيبة أن يكون ذوقه القلبي سليم، لحظة ما يسمع القرآن يحسُّ بنشوة وسعادة، وعندما يؤدي عملاً صالحاً يحسُّ بسرورٍ بالغ أنه عمل عملاً لله عزَّ وجلّ. ويمكن رأينا هذا الكلام مع أجدادنا!! عندما كان أحدهم يذهب للحج كانوا يعملون له احتفالات وزينات ليس لها مثيل!! ما أكبر حفلات كانت تقام يا إخوانى؟ الحجاج، لماذا؟ لأنه ذاهبٌ يؤدي فريضة الحج!! والكل يأتى ليهنئه ويبارك له!! وبعدما يرجع .. لماذا؟ لأنه أدي عملاً صالحاً لله عزَّ وجلَّ!! إذا صار الذوق سليماً لا يقبل إلا الشيء القويم الذي يوافق الذكر الحكيم.
إذا أتى أحد يعرض عليه شيئاً لا يرضي الله، يجد المُنبِّه الداخلي يقول له: لا!! إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ (201 -الأعراف)، فيعرف إن هذا خطأ!! وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: ( الحلالُ بيِّنٌ والحرامُ بيِّنٌ ). هذا واضح، وهذا واضح، لكنه محتاج إلى القلب. 
القطة عندما نعطيها قطعة لحم، تأكل وهي مطمئنة. وعندما تخطف قطعة اللحم ماذا تفعل؟!! علمتْ أنها سرقتْ، علمت أنها سارقة وسرقت، لأنه لا يوجد أحد لا يعرف الحلال ولا الحرام، لكن محتاج إلي المنبه. إذا كان عند الإنسان حرارة الإيمان، يشعر في الحال بأنه فعل شيئاً يغضب الله، كيف؟!! كان أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا فقدوا التوفيق في عمل صالح، علموا أنهم خالفوا الله، فجعل الله لهم التنبيه بينهم، كيف؟ كان من يفوته تكبيرة الإحرام الأولي في الصلاة، يقدمون له العزاء ثلاثة أيام!! يعني يصبِّروه، لأجل الأجر الكثير الذي فاته!! فإذا فاتته صلاة الجماعة يقدمون له العزاء أسبوعاً، لماذا ؟ لأن الأجر الذي فاته!! قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ( أول الوقت رضوان الله، وأوسط الوقت رحمة الله، وآخر الوقت مغفرة الله ) .
هو يريد أن يأكل، من أين؟ من الرضوان!! ولا يريد أن يكون في آخر القطار في السبنسة، يريد أن يكون في المقدمة في قطار الرضوان المسافر إلي حضرة الرحمن عزَّ وجلّ. فلو أن أحداً منهم فاته صلاة الفجر في يوم، يصبح في الصباح مهموماً!! ما الذي فعلته اليوم حتي لا أقوم في ساعة الفجر؟ والذي يحبُّه الله يوقظه في هذه الساعة، لماذا لم يوقظني؟ لماذا لم يرسل لي أحداً من رسله ليوقظني؟!! لماذا لم يجعل مَلَكاً يهُزُّني؟!! ويظل نادماً طول النهار أنه فاته صلاة الفجر. 
إذا تعثر عليه أمر من أمور الدنيا .. يبحث .. ماذا تركت من أعمال البر؟!! أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم كان من عادتِهِم لا يوجد في أي معركة قوة تستطيع أن تغلبهم - ولو كان عددهم قليلاً - لأن الله عزَّ شأنه، وتباركت حكمته جعل قوة الإنسان تزيد مع قوة الإيمان؟ كيف؟!! إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ (65 -الأنفال)، إذا وجد عشرون منكم يغلبوا مائتين، بأى شيء؟!! بالإيمان. عندما قَلَّ الإيمان قليلاً، قال سأخفف عنكم: الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ(40 -الأحزاب)، ليس هذا فى الجسم، لا، هنا في القلب. فإذا وجد مائة أيضاً يغلبوا مائتين. حتي المؤمن الذي إيمانه ضعيف مثل إثنين!! لكن المؤمن الذي إيمانه قوي - الرسول في غزوة خيبر أتي آخر النهار وقال: غداً سأعطي الراية لرجل يُحِبُّ اللهَ ورسولَه، ويُحِبُّهُ اللهُ ورسولُه. يقول سيدنا عمر رضى الله عنه: ما تمنيت الإمارة في يوم إلا في ذلك اليوم. وفي الصباح، قال: أين عليّ؟ قالوا: عنده رمد .. قال إإتوني به، فأخذ من ريقه ووضع في عينيه فشفي في الحال، ثم أعطاه الراية.دخل سيدنا عليٌّ علي باب الحصن فانكسر سيفه، وانكسر ترسه الذي يحمي به جسمه، فأمسك بباب الحصن وخلعه وتترس به - يعني احتمي به من الأعداء - ودخل الحصن. بعد المعركة اجتمع سبعون رجلاً علي أن يحركوه من مكانه فلم يستطيعوا!! فكيف كان يحمله؟ .. ويحارب به؟ هذه هي قوة الإيمان. 
فكان أحدهم عندما يستعصي عليه أمرٌ يسأل نفسه ماذا فعلت؟!! استعصي علي أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم فتح حصن بابليون - الذي هو القاهرة الآن - ومكثوا ستة أشهر، فقالوا ما الأمر؟ لم يحدث هذا من قبل؟ فطلبوا استشاري من المدينة المنورة ينظر في هذا الموضوع - إستشاري قرآني ينظر في ما هذا السرِّ الذي قصرنا فيه - فقال لهم: أنتم تركتم سُنَّة، وهي السواك!! العصا التي كان النبي أمرهم بها. ألم تعلموا ماذا نسيتم من الفرائض أو من النوافل؟!! قال: السواك!! والسواك هو السرّ. فقال لهم: استخدموا السواك، فرآهم الأعداء فقالوا لبعضهم: لقد أتي هؤلاء القوم مدد ويأكلون الخشب، وإذا كنا لم نستطع أن نحارب هؤلاء، فكيف نستطيع أن نحارب من يأكلون الخشب؟!! أعلنوا الاستسلام. إذن فبماذا انتصروا؟ .. بإتباع السُّنة.
كان يقول قائلهم : إني لأعلم حالي مع الله في خلق زوجتي، وفي تشاكس دابتي!! إذا كانت زوجتي مطيعة، وفي بومٍ عصتني أعود لنفسي وأعلم أنني قصَّرتُ في واجبٍ وحقٍّ من واجبات الله عزَّ وجلّ .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

من مقالات فضيلة الشيخ فوزى محمد ابوزيد
http://www.fawzyabuzeid.com/table_ar...ED%CF%C9&t=t31
الموقع الرسمى لفضيلة الشيخ /
 فوزى محمد أبوزيد 





التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات