مواضيع اليوم

سرقة المال العام (حلقة 1)

مصعب المشرّف

2010-04-16 17:21:45

0

سـرقة المـال العـام
بين مفهوم المجتمع وأحكام الديـــن

(حلقة 1)


فالــح ونـاجـح :
لدي صديق عزيز من ذوي الأرحام يقال له عثمان ، يعمل موظفا حكوميا ، يعيش حياته مستور الحال ويمضي يومه نصف مرتاح البال، وهو فوق هذا وذاك وحيد أمه وابيه، ورث عنهم بعد رحيلهم عن الحياة الدنيا منزلا متواضعا في حي الشعبية بالخرطوم بحري إلى جانب ثلاث دكاكين مؤجرة تسبب له صداعا مزمنا مع مفتشي الضرائب ، وجباة الزكاة ، برغم ما تدر عليه من إيجار شهري متواضع.
وكان هذا العثمان قد تزوج مبكرا تحت إلحاح والديه ، وهو لم يكمل دراسته الثانوية بعد، فرزقه الله بثلاثة أرباع دستة من العيال ويتوقع العاشر ثم الحادي عشر ليكتمل له فريق كرة قـدم كما يقول. وهو يلهـج بالـدعاء ويرجـو ويشكر ربه لأنه عوضه عن فقدان الأخوة والأخوات بالكثير من فلذات الأكباد ....
وعثمان على نحو عام ليس بمتهم في دينه ولا خلقه ، فهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . ويقيم الصلاة ويصوم رمضان ويؤتي الزكاة مرتين ؛ الأولى بحكم مزاج الحاكم والغصب والزندية إلى حيث لا يدري اين تذهب وتختفي ، وكيف تؤكل وتهضم ...... والثانية بحكم الكتاب والسنة وعلى الخيار إلى مستحقيها ..... أما حج البيت فإنني على ثقة من أنه سيؤديه إن استطاع إليه سبيلا ......
زرته بداية العام ، وبعد طول غياب ، في منزله المتواضع فرحب بي وأخرج لي ولنفسه كرسيين خفيفين ، جلسنا عليهما أمام الباب أو بنحو أدق على حرف منه ، نتابع بين الحين والآخر مجريات مباراة في كرة القدم تدور بين فريقين متنافسين ، من فرق أحياء الشعبية ،على أرض ميدان ترابي مليء بالحفـر والمخلفات وتتوزع على أطرافه مستنقعات من ماء آسن ، تشكل مستعمرات ومستوطنات آمنة للبعوض ، ترتع إلى جوارها معيـز لبعض سكان الحي ، لا أخالها تعرف كيفية انتقال عدوى الإصابة بحمى الوادي المتصدع ..
جلسنا غير قليل ، ثم مالبثت ربة البيت ان اسعفتنا بكوبين من الشاي الأحمر، الثقيل لي والخفيف لزوجها ، صحبة إبنها البكر عمران ، الذي يبدو لك من الوهلة الأولى وهو إلى جانب ابيه كأنه أخيه الصغير .........
تجاذبنا أطراف الحديث ، وماضي الذكريات ، وساقني الحوار إلى تذكر جار له ملتحي بسيط متواضع تقي لا تفوته الصلاة في مسجد الحي ؛ كان يستأجر منزل الجالوص المتواضع اللصيق به وثـالثـنا في الكثير من جلسات العصاري واللهفة إلى كوب الشاي السادة قبل بضع سنوات ....

بادرته بالسؤال عنه واين رحل ؟؟ ... وقبل ان انهي السؤال إذا بمضيفي ينتفض وكأنه قد نشط لتوّه من عقال ، انفجر ضاحكا وغرق في لجّة امواج عاتية من الضحك المتواصل ، يهتز له كتفيه ثم تندفع موجات الاهتزاز كتسونامي عضلي خفيف نحو كرشه المتدلي بفعل تراكم السنوات لا الشبع، فترتج هي الأخرى ويتمدد لها نسيج القميص العـرّاقي الهـبّـابي الخفيف.
أكمل عثمان ضحكه ، ولمعت عيناه في صمت وهو يحدق إلى البعيد ثم أجابني بقوله :
- يا زووول ..... والله زولك كان شفتو ما بتعرفو ..... أمبارح دي مشيت زرته في بيته مع اولادي راكبين أمجاد ..... وبعد ما عشّانا مشاوي ريش حملان مربى الدلال من وادي الكنانة ، وصدور جداد مزرعة أفرنجي ، جابنا راجعين في موكب من تلاتة عربات .. أنا والمره العينك شايفا دي انجعصنا برانا في واحده .. والباقيات شالن الوليدات ...... أخونا بقى مرتاح راحة تمام و مروّق منقه ممردغ في النعمة مردغة ، وفي أطيب حال ، نايم قايم قفا في أمن وأمان .... البيت عبارة عن فيلا ثلاثة طوابق ، وحوض سباحة ، تلفزيونات بروجكتر ، وآخرين 52 بوصة بشاشة من السائل الكريستال ، قنوات مشفرة ما تديك الدّرب ... البيت مستّف عفش تمام فوق تحت ، وبدل القرّاش الواحد خمسة قراريش مليانة مرسيدس وBMW و فور ويل ياباني . دا غير السواويق والخدم والحشـم ... شي محلي وشي حبشي وشي فلبيني .... ودهب المره .. أسكت ساي .... مالي الإيدين من هنا لي هنا (قالها وهو يمسح بباطن كف يده اليسرى على ساعده الأيمن من المرفق حتى الكوع ثم يستبدل اليمنى باليسرى كأنه يتوضأ ، ولكن بما يفيد إمتلاء كلا اليدين) .... ثم أردف قائلا:
-
دا طبعا غير العقارات والعمارات المؤجرة وشقق في القاهرة ولندن وبرج في دبي ....

صمت برهة ثم واصل حديثه ، وكأنه يتحسر على حاله وصلاته وصيامه وقيامه ، متابعا بنظره الحسير كرة القدم التي خرجت لتوها من المستطيل الترابي ، تتقلب في سعيها مسرعة نحونا وكأنها تستنجد بنا ، هاربة بجلدها من ركلات الأرجل والتمريرات والضرب بالراس وتلقي الإهانات وسـط أقـدام وأحـذية اللاعبين.
قــال مضيفي:
-
(( زولك محظوظ وشيطان وفالح ونجيض . عرف كيف يمكّن روحو ويؤمّن حالو كويس .... وهسع بقت ما فارقا معاهو ... يسيبوهو يشيلوهو ..... بختو ... جاتوا الفرصة وعرف كبف يستغلها ويستفيد منها .. ضرب ضربتو تمام وبقى راقـــد قـفـا ))

من جانبي فهمت ما يقصد ويرمي إليه ، ولكنني لم أشأ أن أعارض أو اعترض او احتج على مفاهيم صديقي هذا ، فهو على كل حال تربطني به صلة رحم ، وأكبر سنا مني ، وذيول التربية والعرف الاجتماعي يمنعان ، ويضعان الكثير من القيود على كيفية تعامل الصغير مع الكبير ، وأدب النقاش والحوار بينهما وجها لوجه.... فاكتفيت بالصمت ، وتشاغـلت بالنظر واستطلاع ما يجري في داخل الميدان من تجمع لاعبي احد الفريقين المتنافسين متحلقين في دائرة ضيقة حول حكم المباراه المغلوب على أمره وقد بدا بينهم بقميصه الأسود المهترئ وسرواله القصير الكالح اللون كالغـراب الحائر ، وهم يلمزونه بالكلام تارة و يدفعونه بالأيدي تارة ، ويلكزونه بالكيعان تـارة أخرى احتجاجا على احتسابه ضربة جزاء في حقهم يرونها ظـالـمـة.
ثم ما لبثت أن انتهزت فرصة الاستراحة بين شوطي المباراة فودعت القريب الصديق ، ومضيت إلى حال سبيلي مشغول البال كئيب مفكر محتار !! وجل تفكيري قد تركز في حقيقة أن المجتمع قد بات يحترم ويقدر اللصوص وسارقي المال العام بدلا من إحتقارهم فيصفهم بالأذكياء والشطار والمحظوظين ......

مقـام سـارق المـال العـام:
لقد باتت مفاهيم ونظرة الفرد عموما ، تجاه سرقة أو سارق المال العام ، وسواء أكان تاجرا أو رجل أعمال ثري ، أو موظفا عاديا مغلوبا على أمره ، أو مسئولا تنفيذيا يمتلك في يده مفاتيح القرار وهلم جرا .... باتت هذه المفاهيم في حاجة إلى تحليل ودراسة ، لاسيما وأنه على ضوئها تجري تصرفات سلبية في التعدي على المال العام ، دون أن يهتز جفن أو يتحرك لها وازع من ضمير ....

هناك صمت إعلامي ومنبري وديني متواطيء، في مواجهة انعدام وعي أخلاقي وقانوني وديني وآلية محاسبة مستندية وجنائية فعالة . الأمر الذي جعل من مرتكبي جرائم سرقة المال العام في منآى عن المحاسبة والملاحقة ، بل وجعل منهم وفي نظر الآخرين ((أبطال)) ، ((محظوظين)) ، ((فالحين)) ، ((شواطين)) ، ((شاطرين)) .. إلخ . من اوصاف ونعوت أقل ما يقال عنها انها تمدح المجرم من طرف خفي قبل ان تدينه.... ...

وقد انسحب هذا الانطباع على قناعات مرتكبي جريمة سرقة المال العام أنفسهم ، فباتوا يبررون ما يفعلون بأنه مجرد تلقي ((هدايا)) مقابل ((تسهيلات)) ، يقدمونها لأصحاب حق ليس إلا بهدف التغلب على الروتين وسلحفائية الإجراءات...... سبحان الله !!!!! فإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا يقدمون هذه ((التسهيلات)) للجميع ؟؟؟؟

والبعض الآخر من المسئولين تمنح لهم الدولة أراضي الشعب بالمجان ، أو تبيع لهم آلاف الأفدنة بأسعار رمزية لا تتعدى الملاليم ليبيعونها في اليوم التالي بالمليارات ..... فماذا يسمى ذلك ؟؟ أليس هو الحرام بعينه ؟؟ ... وهلا جلس المسئول في بيته حتى يرى إن كانت الحكومة ممثلة في الحزب الحاكم ستمنحه آلاف الأفدنة أم لا؟ 
لقد أصبح البعض للأسف ، على قناعة وإيمان العجائز بأن الحرامي هو فقط الذي ، يقفز الجدران إلى داخل البيوت أو يدخل يده في جيب آخر لينشل النقود والمحافظ الخالية أحيانا ، أو ذاك الجائع أو اليتيم الذي يخطف رغيفا ويجري .... وأمثال هؤلاء هم وحدهم الذين ينشط أفراد المجتمع في مطاردتهم وإيساعهم ضربا وإهانة ، قبل تسليمهم للبوليس متلبسين بالجرم المشهود توطئة لمواجهة القضاء الحازم و الجزاء العادل.

أوجه متعددة لسرقة المال العام:
وجريمة الاعتداء على المال العام وسرقته ، لها عدة وجوه واشكال ، فمنها الاختلاس ، والتعدي على ممتلكات الدولة ، واستغلال النفوذ إما بتوزيع الأراضي والمزارع على النفس والأهل والمحاسيب والحاشية وأصحاب المناصب الآخرين بالمجان أو باسعار رمزية دون وجه حق ؛ ومن باب شيلني وأشيلك .... ثم وجه آخر يتمثل في اختلاق البدلات سواء بدل التمثيل أو المواصلات أو اللجان والاجتماعات والسكن والعلاج والسفر والماموريات .... إلخ ، على نحو مبالغ فيه يحرمه الشرع بلا جدال ..... وهناك ما هو اخطر ، بوصفه يمثل خرقا مباشرا لأمن المجتمع وهو قبض الرشى (الرشاوي) وفرض الأتاوات و (المعلوم) ، نظير بسط الحماية على المهربين وتجار المخدرات ومقاولي المباني الغير مطابقة للمواصفات ..... وكذلك هناك وجه آخر بات يمثل أرضية خصبة لنشاط البعض ، وهو قبض ((العمولات)) وفق نسب مئوية محددة ، التي تعتبر الأكثر أمانا للمسئول العام ، نظرا لقلة الأيدي التي تتداولها مما يجعلها تستغرق زمانا طويلا ، قبل أن تفوح رائحتها وتزكم الأنوف. وكثيرا ما نسمع بأسماء وشخصيات عامة بعينها أصبحت تعرف بألقاب من قبيل : Mr.10% واحيانا أخرى 50%.!!! وثالثة أخرى Fifty fifty


(يتبع حلقات أخرى بإذن الله)




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات