سوف لا نشير للسرقات الادبية العلنية "الكلاسيكية" التي تجري في وضح النهار دون "رفة جفن" فاعلها أو التفات منه يمنة ويسرى, او الاهتمام بما قيل او يقال بصددها. انها الجرأة في الذهاب للهدف مباشرة. جرأة المعتاد.
أردنا فقط الاشارة للسرقة شبه العلنية. او ما يمكن تسميتها بسرقات أدبية مبتكرة, مموهة, او سرقات فيها فنون خداع, او سرقات فيها احتراف واعتياد, او سرقات "شطارة", او سرقات بمفتاح حرفي, دون كسر أو خلع, أو سرقات مخففة لجس نبض المسروق , فان صمت هذا الاخير يُسرق مع التشديد. أو سرقات من مشهور لأقل شهرة فان نطق أو احتج يُتّهم ولا يُصدّق .
يدخل في هذا الباب سرقات جمل, او فقرات كاملة بفواصلها ونقاطها. و سرقات " الاقتباس" خفية او معلنة. سرقات النص كاملا بمصطلحاته العربية والاجنبية. دون الاشارة لصاحب النص ككاتب او كمصدر, أو كشخص كتب يوما كلمة ما في مكان ما.
لا يهتم بعض الكتاب كثيرا لمثل هذه السرقات لأعمالهم لأنها لا تؤذيهم مباشرة, فقد تسهم في اعادة ما نشروه وان كان بغير اسمائهم. وقد لا يكون لديهم وقت لمعرفة من قرأ لهم او سرق منهم. لا يؤذي ذلك المقتبس نفسه (حتى نخفف الاتهام ولا نقول السارق بما تحمله الكلمة من معان لا يريد احد ان يُوصف بها), فهو حين يلجأ لمثل هذا الفعل يضع جانبا الامانة الادبية ويريح ضميره, ان كان لديه بعضا منه, ويبرأه من كل مسؤولية, فقد استعد سلفا للدفاع بالصمت او بالاتهامات المضادة.
من الاساليب الحديثة بحداثة النت, يلجأ صاحب الموقع او الكاتب فيه, عند اعادة نشر النص (المقتبس) بغير اسم مؤلفه, لوضع اسمه تحت العنوان مباشرة . دون اية اشارة للمؤلف الحقيقي. لا في راس الصفحة الاولى ولا في نهاية الصفحة الاخيرة. وكثيرا ما تأتي التعليقات لشكر الناشر على هذه المقالة او هذه الدراسة ,وعلى جهوده المبذولة, وعلى إغناء الثقافة. ويرد على الاطراء بأدب جم, متمنيا لو يصله الشكر, أو بعضه , من الكاتب الفعلي نفسه.
او نرى تحت عنوان النص المصادر المعاد نشره اسم صاحب الموقع الناشر, او اسم من ارسل اليه النص, وفي اسفل النص اسم الكاتب الحقيقي بخط صغير, وكانه كلمة دخيلة على النص وقع اضفتها سهوا. واحيانا يتم تحريف الاسم عمدا ان كان اسما معروفا.
او نرى تحت العنوان مباشرة كلمة اعداد (فلان) , وكان الكاتب مجرد مُعدّ لأشياء استلزمت الامور اعادة تهيئتها واعدادها بعد بعثرة أو "لخبطة" طارئة أو مزمنة. أو عبارة مرسل بواسطة (فلان) وكان فلان, الكاتب الحقيقي, هو المرسل وليس المؤلف. بحيث لا يعلم القارئ, أو لا يهمه ان يعلم, ان كان هذا الاسم هو اسم كاتب المقال أم انه اسم لساعي البريد الذي يقتصر دوره على الارسال. الشك هنا يفسّر لصالح "مقتبس" النص أو ناشره, وليس لصالح مؤلفه.
وان كان لابد من مثال نورد ما يلي, دون ذكر اسماء ليس لعدم الرغبة بالتشهير بالمقتبس وانما رثاء له: نُشر مقال في موقع مهني مشهور للكاتب غير مشهور. المشرف على الموقع وغالبية محرريه مهنيون, تفترض فيهم الامانة والاستقامة. نشر هذا المقال أحد الناشطين فيه باسمه الخاص. دون تغيير اي حرف أو فاصلة واحدة او الاسماء والمصطلحات الاجنبية . أضاف فقط كلمة واحدة على العنوان. وكتب اسمه في اعلى الصفحة الأولى وفي نهاية المقال. واضاف كذلك , من جهده الخاص هذه المرة, وللإيهام بانه مقال محلي صرف, حكمة من حكم رئيس دولته. ولم ينتبه ان المقال نفسه منشور باسم كاتبه الحقيقي في مواقع عربية عديدة, وانه من جزأين, لم يستطع الوصول الى الجزء الثاني او لم يعلم بوجوده أصلا. عندما تم لفت نظره الى ذلك بطريقة مهذبة جدا على انه ربما نسي اضافة اسم الكاتب الفعلي, وبعد ان تأكد مما سبقت الاشارة اليه, اضاف بشكل يكاد لا يغير شيئا ,اسم الكاتب الفعلي وعلى مسافة كبيرة من اخر سطر في المقال بحروف صغيرة مائلة. دون اي كلمة اعتذار عن "السهو". لا ينتظر الكاتب الحقيقي اعتذارا وانما يتأسف جدا ان تجري امور مثل هذه في أماكن محترمة.
الى جانب هذه الابتكارات في السرقات المموهة "المتطورة" شكلا ومضمونا, ــ التي لا تقل من حيث الواقع والنتيجة عن السرقات الفاضحة الفجة ــ الهادفة للإفلات من الادانة او العقوبة المادية أو المعنوية, توجد محاولات, " ذكية" أيضا, لتحشية سطور أو عبارات بين سطور وعبارات النص المسروق للتعمية, أو تحريف عنوانه , وكأن للمختطف على النص المخطوف حق قوامة وتعديل و تشذيب و"اعادة ترتيب".
يدخل في الباب الثاني من السرقات الأدبية الاعتداءات جهارا بالتحريف ولي عنق النص وصاحبه. وهذا اقرب الى الخطف والقرصنة منه الى السرقة البسيطة أو المركبة. فالناشر نفسه, وخدمة لآرائه وللآراء التي تم تعيينه لخدمتها, أو خوفا على نفسه , يقوم بدور "الناشر الرقيب", أو "الناشر لغرض" ( غرض غير شريف بطبيعة الحال في مجال الكتابة والفكر الحر) , أو "الناشر بمنشار الرقيب الاعلى" المتمرس بفنون الرقابة, بعملية حذف جذري أو تجميلي من النص الذي ينشره, معتقدا بنه في ذلك لا يخسر الكاتب الذي يمكن ان يروضه لاحقا, او يعوده على اصول الكتابة و النشر. ولا يُغضب في الوقت نفسه رقيب الرقباء, المرجع الاخير, لمن له سلطة ليس فقط على النص بأجزائه او كليته , وانما على الكاتب والناشر (غير الملتزم) لحذفه من الوجود. او تعليق حريته الى ما شاء هو, او تعليقها بالسعي لاستصدار احكام من محاكم امن الدولة بأسمائها المتعددة, واصول محاكماتها واجراءاتها الواحدة. المطبقة لأوامر عليا مسبقة, لقمع الكلمة والفكرة, وارهاب من يفكر او يقول خارج منطق وفكر القطيع.
هذا النوع الأخير ليس مجرد سرقة ادبية صريحة أو مموهة, وليس مجرد اجبار الكاتب على تعديل نصه حسب المعايير المفروضة, وانما هو الرعب, وتقييد الفكر, واخضاع المفكرين والكتاب, و تشويه الكتابة, و يدخل في باب سرقة النوم من عيون من يريد قول كلمة حق, أو نشر ثقافة حقيقية . انها سرقة الحق في التعبير والبول سخيا على الدساتير.
ومن يدري قد يطالب بعضهم مستقبلا, من أجل هذا كله, ونكاية بالآخرين, بجائزة ابن رشد للمبدعين.
د. هايل نصر
التعليقات (0)