اللهم قد بلغت
سخط أم يأس؟
تعيش بلادنا منذ مدة غلياناً اجتماعياً كبيراً سائراً نحو التوسع، فهل هو تعبير عن السخط على واقع الحال المرّ أم هو تمظهراً من مظاهر اليأس وانسداد الأفق؟ من أبرز سمات العهد الجديد بروز حركة التصدي للفساد. فعلاً يسود حالياً سخط عارم –لم يسبق له نظير بالمغرب من حيث اتساعه- على الفساد الذي فاق كل المقاييس المعروفة، إلى حدّ أضحت مظاهره وتداعياته سافرة في حياتنا اليومية وفي مختلف المجالات.
ومن أكبر وأهم إيجابيات حركة التصدي للفساد، أنها في طريقها لتكريس تعليم الشعب السخط على المظاهر الشائهة التي أصبحت تسيطر على حياة جيل اليوم في كل اتجاه.
ومهما يكن من أمر، إن السخط بات دليلاً للحيوية الكامنة، وذلك لأن الرضا بواقع الحال القائم هو –في الحقيقة- نوع من أنواع اليأس والتشاؤم بامتياز، ومآله الحتمي هو السير بالبلاد إلى المزيد من الاضمحلال. في حين أن السخط يدعو إلى وقفة تأمل في الواقع القائم، وهذا على سبيل أضعف الإيمان كما يُقال.
إلا أنه، إذا كان سخط الشعب المغربي صادق في حركيته للتصدي للفساد والفاسدين، فإن سياسيينا ومسؤولينا، يبدو أنهم مازالوا –في سوادهم الأعظم- ليسوا ساخطين، وإنما يتخاصمون فيتشاتمون، وقد يتهم بعضهم بعضاً بالخيانة أو الرشوة أو فساد الذمة، أو استغلال النفوذ أو المنصب لمراكمة الثروات وصيانة المصالح والمكتسبات المشروعة وغير المشروعة والمستحقة، لكن حالما يصلون إلى الموقع أو المنصب سرعان ما ينسون كل ما قيل، ويتحدون ويتخالفون ويأتلفون ويتصافحون، ويبتسم بعضهم لبعض، ويثني بعضهم على بعض، والشعب ينظر ويتعجب. فهل مثل هؤلاء يمكن أن يُؤتمنوا على مصير الشعب والوطن؟
ويزيد من الطين بلة وجود بعض أقلام من يسمونهم قادة الرأي في البلاد من كُتاب وإعلاميين، يُسخّرون خبرتهم ودماءهم وأقلامهم ينهشون سمعة هذا السياسي أو ذاك، ثم يعودون فيبيّضون ما سوّدوا، وذلك رغبة في نصيب الكعكة، إما على شكل إكراميات أو منصب أو بقع أرضية وسخاء حاتمي في حصة الإشهار أو غير ذلك.
وقد صدق من قال أن الكرسي يعمي ويصمّ، يفسد الذمة، ويكبت الضمير. كل هذا يساهم في تأجيج السخط المستطير على واقع الحال المتدهور من جرّاء الفساد.
مهما كل ما قد يقال، إن السخط نعمة في رصيد السواد الأعظم من الشعب، ونقمة في رصيد الأقلية التي لا تكاد تبين، والتي بعمل بكل ما في وسعها لخنق أنفاس هذا السخط بجميع الوسائل –حتى القمعية الشرسة أحياناً- وهذا طبيعي جداً في مجتمع يعيش بعض أفراده كأرقى ما وصلت إليه الحضارة البشرية، في حين تعيش أغلبية في خصاصة "مستدامة"، بل إن بعض الملايين من أفراد الشعب يعيشون في عهد الكهوف والغابات من جرّاء الفقر المدقع وانعدام أدنى شروط العيش الكريم. هذا في وقت يُعلمنا تاريخ البشرية أن استمرار رُقي المجتمع ليس ممكناً إلا في نطاق التوازن في نزعاته واتجاهاته، المتقارب في طبقاته وفئاته وكفاياته، المتناسق في أوضاعه وحالاته. فهل هذه حالة مغربنا الذي هو في واقع ليس مغرب واحد وإنما مغربان: "مغرب – جزيرة"، وهو مغرب أقلية لا تكاد تبين و "مغرب – محيط" وهو مغرب السواد الأعظم من الشعب.
ولن يتغير هذا الواقع إلا بتغيير العقلية الاجتماعية المشرفة على الإصلاح والتغيير. وذلك بتعويضها بعقلية جديدة تختلف –رأساً وكلياً- عن العقلية السائدة التي ترى كل شيء لفئة ضيقة ولأفراد معدودين من المغاربة، ولاشيء أو بعض الفئات ليس إلا للآخرين.
في واقع الأمر، إن العقلية الجديدة المتوخاة والتي نحن في أمس الحاجة إليها –أكثر من أي وقت مضى- هي عقلية لا تقوم بالإصلاح تفضلاً أو مناًّ على المغاربة، وإنما عقلية تؤمن فعلاً بما أقرّه الدستور –على علته- من أن المغاربة سواء، وأن المغرب لجميع المغاربة، وأن حق الحياة للجميع وهذا، لأن السواد الأعظم من المواطنين هم الذين ينتجون الثروة العامة للدولة لأنهم ينتجون أكثر مما يستهلكون أو يتقاضون كنصيب من الثروات الوطنية، وبالتالي من حقهم أن يعيشوا كما تعيش الأقلية التي لا تكاد تبين جرّاء قلة أفرادها مقارنة مع عدد نسمة المغرب.
حالياً إننا في حاجة لعقلية تمتلك الشجاعة للعمل على إقرار التقريب بين الحد الأدنى والحد الأعلى من الدخل والمرتبات والأجور. عقلية قادرة على فرض إعفاء الفقراء من لأداء الضرائب تماماً لأنهم يؤذونها على حساب جوعهم. عقلية تعتبر الوطن بمثابة أن تحضن أبناءها وترعاهم وتحميهم.
وخلاصة القول، إن السخط المستطير أضحى متنفس المغاربة في ظل سيادة الفساد لدرجة أم الكلمات لم تعد تجدي لوصفه. ولولا هذا السخط لعمّ اليأس. وإن عمّ اليأس فانتظر الساعة. لذا على القائمين على الأمور مراجعة أنفسهم بخصوص التعاطي مع الساخطين بالهراوة والاعتقال والعنف والدوس على الكرامة.
التعليقات (0)