مواضيع اليوم

سجال المرجعية بين السيد الحيدري والسيد الخباز

سلمان عبدالأعلى

2013-06-01 10:24:25

0

سجال المرجعية بين السيد الحيدري والسيد الخباز
             

بقلم: سلمان عبد الأعلى

       يعتبر السيد منير الخباز -حفظه الله- أحد أبرز النجوم اللامعة في سماء المنبر الحسيني في وقتنا الحاضر، فهو خطيب مفوه يمتلك القدرة الفائقة على بيان المطالب التي يتعرض لها، حيث يتميز بالجدية في الطرح وبتنظيم الأفكار وبالتركيز على المحاور التي يحددها، كما يتميز بالسعة والشمولية وكثرة الاطلاع، مما جعله يتطرق للعديد من المواضيع التي تثار في الساحة الإسلامية على كثرتها وتشعبها، وهذا الأمر هو ما نلمسه عندما نستمع إليه، إذ أن محاضراته تتسم عادةً بالثراء المعرفي والتنوع المشهود.

 

      وكعادته في تناوله للمواضيع التي تشغل الساحة الإسلامية؛ تطرق السيد الخباز في الليلة السابعة من شهر محرم لهذا العام 1434هـ لموضوع المرجعية الدينية في محاضرة له بعنوان "المرجعية صمام الأمان"، وهذا الموضوع شغل الساحة في الآونة الأخيرة بسبب الأطروحات التي قدمها السيد كمال الحيدري في هذا الشأن. ورغم أن السيد الخباز لم يذكر اسم السيد الحيدري في حديثه إلا أن الكثيرين فهموا من كلامه أنه المقصود منه، وذلك لأنه تطرق لبعض النقاط التي تحدث عنها السيد الحيدري، كما أنه ردد بعض عباراته في مقام الرفض والاستنكار، إضافةً إلى أن أسلوبه وطريقته كانت في مجملها توحي بذلك.

      وهذا الأمر هو ما جعل البعض –من مناوئي السيد الحيدري- يروج للمحاضرة عبر وسائل الاتصال الحديثة واضعاً لها بعض الديباجات التي تصفها بأنها رداً على السيد كمال الحيدري والأطروحات التي قدمها حول المرجعية الدينية. ولا إشكال لدينا في الرد على السيد الحيدري وآرائه ما دام ذلك يتم بطريقة علمية هادئة ورزينة، فهذا الأمر مرحب به لأنه يدل على وجود حراك فكري إيجابي في ساحتنا الإسلامية، غير أنني لم أرى في محاضرة السيد الخباز ما يمكن اعتباره رداً حقيقياً على آراء السيد الحيدري، لا لأنه لم يكن يقصده بكلامه، بل لأنه لم يتكلم عن الأطروحات التي تحدث عنها السيد الحيدري بالنحو الذي يفندها ويثبت بطلانها.

 

المرجعية الدينية بين السيدين الخباز والحيدري.. عرض ومناقشة

سوف نقوم بعرض كلمات السيد منير الخباز حفظه الله، ومن ثم سوف نقوم بعرض وجهة نظر السيد كمال الحيدري حول نفس النقطة، ولنرى بعدها إن كان ما قدمه السيد الخباز يمكن اعتباره رداً حقيقياً وفعلياً على ما قدمه السيد الحيدري أم لا.

 

النقطة الأولى: (تشخيص الأعلم بين السهولة والصعوبة)

          تحدث السيد منير الخباز –حفظه الله- حول موقع المرجعية وقال بأنها تعني الأخبرية، أي الأخبر والأعرف بالدين (الأعلم)، وذكر لذلك ثلاثة وجوه، حيث تكلم في الوجه الأول عن مقبولة عمر بن حنظلة والتي تفيد أنه إذا اختلف عالمين فالحكم يكون لأفقههما ولأعدلهما، وفي الوجه الثاني ذكر أن سيرة العقلاء جرت على تقديم الأخبر على غيره عند الاختلاف، وفي الوجه الثالث ذكر ما يعبر عنه بالأصل العقلي، وشرح ذلك بقوله: إذا دار الأمر بين مشكوك الحجية ومتيقن الحجية يقدم قول متيقن الحجية، فالأخذ بفتوى الأعلم والعمل بها هو متيقن الحجية، والأخذ بالعكس أخذ بما هو مشكوك الحجية، والعقل في مقام المعذرية وبراءة الذمة يوصي بما هو متيقن الحجية.

 

أما حول كيفية معرفة الأعلم (الأخبر) فقال السيد الخباز: ((يعرف ذلك أهل الاختصاص وفي زماننا صار الأمر أسهل لكثرة وسائل الاتصال وانتشار البحوث والآراء ورواج الكتب، فتحديد من هو الأخبر والأدق صار أسهل من الأزمنة السابقة، لتوفر وسائل الاتصال))[1]. وهذا ما يختلف عن ما يقوله السيد الحيدري الذي يرى صعوبة ذلك، وفيما يلي عرض لكلامه.

 

السيد الحيدري وتشخيص الأعلم

          تحدث السيد الحيدري عن مسألة التقليد والمعايير التي تتبع في اختيار المرجع، وقال: ((من أهمّ مسائل باب الاجتهاد والتقليد هي مسألة الميزان في تشخيص الأعلم والأكفأ، وعندما أقول الأكفأ لا أتكلّم عن البعد الإداري، وإنّما أعني الأكفأ علمياً والأقدر عملياً أن يكون حصناً للإسلام، وحصناً لمدرسة أهل البيت عليهم السلام. إذاً القضية عندما أعبّر الأكفأ والأعلم، مقصودي الأكفأ والأعلم على حفظ ثغور مدرسة أهل البيت عليهم السلام، الأعلم على أن يدافع عن مباني مدرسة أهل البيت، وعلى أن يجعل الذين يعيشون في دائرة وكنف أهل البيت في أمن وأمان فكري وعقدي... وإذا لم يكن المتصدّي عالم دين بالمعنى الذي أشرت إليه، كيف يمكنه أن يحفظ الدين، وفاقد الشيء لا يعطيه؟ كيف يمكنه أن يكون حصناً وسدّاً منيعاً أمام هجوم الأعداء؟))[2]. فالسيد يفرق بين المرجع الديني والمرجع في الحلال والحرام[3].

 

بعدها شكّك السيّد كمال الحيدري حفظه الله في فعّالية المعايير التقليدية وحدها في عملية اختيار الأعلم كالشياع، وسؤال أهل الخبرة، إذ يقول: ((في اعتقادي في المكان الذي نعيش فيه لا يمكن الاعتماد على هذه الضوابط مئة بالمئة؛ لأنها لن تنتج النتائج الصحيحة في الأعمّ الأغلب، وخصوصاً عندما تتوسّع الحوزات العلمية)).

 

ويردف قائلاً: ((لعلّه لو كانت عندنا حوزة علمية، وفيها مئة طالب وهناك ثلاثة أساتذة بحث خارج، يمكن لشخص أن يقول: هذا هو الأعلم، ولكن لو أتينا لحوزة كحوزة النجف بتاريخها وبأعلامها، كيف يمكن لشخص واحد أن يطّلع على تراث كلّ هؤلاء الأعلام ويشخّص بعدها بأنّ هذا هو الأعلم؟ كيف إذا أضفنا إليها حوزة قم التي فيها زهاء ٦٠ ألف طالب وعشرات - إن لم أقل المئات - من الأعلام والأساتذة، كيف يمكن لشخص واحد أو عشرة أو بيّنة أو عشر بيّنات أن يحدّدوا الأعلم؟ كيف نستطيع أن نقف على كلّ تراث هؤلاء؟ خصوصاً ونحن نعلم بأنّ جملة من هؤلاء لا يوجد لديهم تراث مكتوب، بل قد نجد أنّه في عصر واحد أن هذا البيّنة يقول هذا أعلم... وذلك يقول ذاك أعلم، وإذا نجد عندنا خمسين بيّنة كلٌّ يقول عن شخص: هذا أعلم!!))[4].

 

أمّا عن الشياع فيتحدّث السيّد الحيدري قائلاً: ((وأمّا الشياع في عصر ثورة الاتّصالات والفضائيات، فإنّ إيجاد الشياع أسهل ما يكون... وهذه لا أريد أن أسقط اعتبارها، ولكن أريد أن أقول إنها ليست طرقاً آمنة ومطمئنة للوصول إلى الهدف)).

 

ويضيف موضّحاً: ((وجدت كلاماً لأحد كبار المحقّقين، وبتعبير صاحب الميزان السيّد الطباطبائي يعبّر عنه بأنّه قال: أحد أعاظم المحققّين، إشارةً للشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء؟ سُئل رحمه الله عن هذه القضية: على القول بوجوب تقليد الأعلم، هل يتعيّن بالشياع في زماننا هذا، مع شيوع بعض الأغراض الفاسدة من الأغراض السياسية، أم لابدّ من قيام البيّنة، وإذا تعارضتا فأيّتهما مقدّمة؟)).

 

ويشرح السيّد الحيدري السؤال قائلاً: ((أي إذا وقع تعارض في الشياع أنّ فلاناً هو الأقدر والأكفأ للتصدّي أو فلان، فما هو الميزان في ذلك؟)).

 

ثمّ يقول مجيباً: ((يَذكر الشيخ كاشف الغطاء ميزاناً مهمًّا جدّاً بعد مقدّمة مفصّلة لا أريد أن أشير إليها لأنها ستأخذ وقتاً كثيراً. طبعاً السيّد القاضي الطباطبائي المحشّي على الكتاب، ينقل هذا الكلام عن الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء عن حاشية له على كتاب سفينة النجاة، يقول: ذكرنا في تعاليقنا على كتاب سفينة النجاة، الجزء الأول ص ٢٨ طبعة ٦١ ، ما هو المعيار الصحيح الذي لا ميل فيه ولا حيف... يقول: وما أكثر المدّعين لهذا المنصب، ولاسيّما في هذه العصور التعيسة! وما أكثر المخدوعين بهم جهلاً أو لغرض، والغرض يعمي ويصمّ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله، ولقد ذكرنا أنّ أحسن معيار عن صدق هذه الدعوى وكذبها [يقصد صدق المدّعي للأعلمية وللمرجعية] هو الإنتاج العلمي وكثرة المؤلّفات النافعة، وأن طريقة الإمامية من زمن الأئمّة إلى عصرنا القريب هو أن المرجعية العامّة والزعامة الدينية تكون لمن انتشرت وكثرت مؤلّفاته كالشيخ المفيد، والسيد المرتضى، والشيخ الطوسي الذي تكاد مؤلفاته تزيد على الأربعة مئة [ولكن ليس كلّها في الحلال والحرام فقط، بل أيضاً في (التفسير، والعقائد، ودفع الشبهات، والكلام، والحديث](١والشيخ الصدوق الذي لديه ثلاثمائة مؤلّف، وهكذا هو الميزان الصحيح، والمعيار العادل إلى زمن السيّد بحر العلوم صاحب المصابيح، والشيخ الأكبر صاحب كاشف الغطاء إلى الشيخ الأنصاري))[5].

 

فالسيد الحيدري إذاً يرى أن هناك آليتان في ذلك وهما:

§        الآلية الأولى: كتابات المرجع وتراثه. أي: أنت تنظر إلى تراثه الذي كتبه، ومن خلال ذلك تتعرّف على علميّته.

§        الآلية الثانية: مقدار تدريسه في الحوزات العلمية. ليس الحضور فقط، بل التدريس؛ لأنه قد يكون حاضراً ولا يدرّس، وهذا لا نستطيع أن نقيّمه[6].

 

وبعد ذكره لهاتين الآليتين يطرح السيد الحيدري هذا السؤال: أين ذهب الشياع الذي يذكرونه في الرسائل العلمية؟

ويجيب عليه بقوله: ((ليس المراد من الشياع الشياع بين عموم الناس؛ لأنّ عموم الناس ليسوا من أهل الخبرة والتخصّص في هذا المجال، بل المراد الشياع بين أهل الخبرة والمتخصّصين في الحوزات العلمية. فإذا شاع بين المتخصِّصين وأهل الخبرة والعلماء في الحوزات العلمية أنّ فلاناً من كبار المتخِّصصين فلا إشكال ولا شبهة أنّ هذا الشياع يدلّ على مرجعيّته. ولكنْ متى يحصل هذا الشياع؟ الشياع متفرِّع على الآلية الأولى أو على الآلية الثانية. يعني إما من خلال مؤلَّفاته وتراثه يتعرّفون على أنّه المتخصِّص الأوّل، أو من كبار المتخصِّصين والأعلام، وإما من خلال حضوره العلمي. ولا قيمة للشياع الذي لا يرتكز على هاتين الآليّتين. إذاً أنا أعتقد أن من أهمّ الآليّات هاتين الآليّتين: الأولى: تراثه العلمي؛ والثانية: مقدار حضوره العلمي في الحوزات العلمية. ويترتّب على هاتين الآليّتين آلية الشياع، فإذا كان الشياع ناشئاً من هاتين الآليتين تكون له قيمة، أمّا إذا كان الشياع ناشئاً من الإعلام أو من أسباب أخرى، فإنَّ مثل هذا الشياع لا قيمة علمية له))[7].

 

 

خلاصة كلامه في النقاط التالية:

§        حول المراد بالأعلم: تحدث السيد الحيدري عن الأعلم وكان يقصد الأعلم في الدين، وليس الأعلم في الفقه الأصغر أو في الحلال والحرام كما يعبر.

§        حول أهل الخبرة: وقال بصعوبة تشخيصهم للأعلم في ظل توسع الحوزات وانتشار العلماء وعدم توفر تراث مكتوب لبعض العلماء.

§        حول الشياع: وذكر أنه من السهل إيجاد الشياع في زماننا في ظل ثورة الاتصالات، وشيوع بعض الأغراض الفاسدة، ولهذا لا يمكن اعتبار الشياع طريقةً آمنةً ومطمئنةً للوصول للهدف، إلا إذا كان يرتكز على تراث العالم وكتبه أو على مقدار تدريسه في الحوزات العلمية.

 

أما السيد منير الخباز فإنه كان يتكلم عن الأعلم في عملية الاستنباط الفقهي -في الحلال والحرام كما يعبر السيد الحيدري-، ولهذا فهو من هذه الجهة لم يرد على السيد الحيدري ولم يذكر دليل على بطلان كلامه، بل ولم يناقش الأطروحات التي طرحها في هذه النقاط، واكتفى فقط بالتركيز على الأعلم بالنواحي الفقيه (الحلال والحرام)، وخلص إلى نتيجة مفادها بأن تشخيص الأعلم صار أسهل بسبب توفر وسائل الاتصال، ولا أدري كيف يكون أسهل -كما يعبر السيد الخباز- إذا كان عدد العلماء والحوزات في تزايد وكان بعض العلماء لا يمتلك تراثاً مكتوباً كما يقول السيد الحيدري؟! فالسيد الخباز لم يبين الكيفية بالتفصيل.

 

كما نلاحظ أيضاً أن السيد الخباز قد اغفل حديث السيد الحيدري حول النقطة الثانية (الشياع) ولم يشر لها لا من قريب ولا من بعيد، حيث قال السيد الحيدري حول هذه النقطة، أن إيجاد الشياع اسهل ما يمكن في زماننا بسبب ثورة الاتصالات، وأنه لا يمكن الاعتماد عليه بمفرده لشيوع بعض الأغراض الفاسدة، فإذا كان الأمر هو ما ذكره السيد الحيدري، فهل يصح الاعتماد عليه في تشخيص الأعلم عند السيد منير الخباز دون أن يكون مبنياً على الآليتين اللتين ذكرهما السيد الحيدري؟ وهل يصح بعد ذلك القول بأن توفر وسائل الاتصال جعلت من الاعتماد على الشياع أمراً سهلاً على عكس ما يقوله السيد الحيدري؟! أم ماذا؟!

 

هذا ما لم يناقشه السيد الخباز، ولا أريد بكلامي هذا أن أقول بأن كلام السيد الخباز غير صحيح، ولكن أريد أن أقول بأن ما قاله لا يمكن اعتباره رداً حقيقياً على ما قدمه السيد الحيدري كما هو واضح.

 

النقطة الثانية: (المرجعية الشمولية)

          طرح السيد منير الخباز حفظه الله هذا السؤال: ((هل يعتبر في المرجعية أن يكون هو الأقوى في كل شيء؟ الأقوى في الفقه، الأقوى في الأصول، الأقوى في الفلسفة، الأقوى في علم الكلام، الأقوى في التفسير، الأقوى في سائر العلوم، أم يكفي أن يكون أقوى في علم الفقه؟)).

 

          وأجاب بقوله: ((علم الفقه هو علم تطبيقي، مو علم تنظيري، الفقه هو عبارة عن تطبيق أدوات لاستنباط الحكم الشرعي، هذه الأدوات تؤخذ من علم آخر غير علم الفقه، علم الفقه هو تطبيق للأدوات، أما الأدوات فتأخذ من علم آخر، من علم اللغة، من علم البلاغة، من علم المنطق، من علم الأصول، من علم الرجال، هذه العلوم الأخرى تتكفل بالأدوات، وعلم الفقه يتكفل بكيفية تطبيق تلك الأدوات، لأجل ذلك تلاحظ أن هذه العلوم تختلف بعضها دخيل دائماً في عملية الاستنباط، وبعضها كثير الدخل، وبعضها نادر الدخل))[8].

 

          وبعدها ذكر أمثلة للتوضيح وهي في النقاط التالية:

§        علم أصول الفقه: هذا دائماً دخيل في الاستنباط، ولا توجد عملية استنباط تستغني عن علم الأصول. إذاً لابد أن يكون الفقيه متخصص ومتمرس في علم الأصول كما هو متخصص في علم الفقه.

§        علم اللغة أو علم الرجال: هذا دخيل، ولكن ليس دائماً، كثيراً ما يكون دخيل في عملية الاستنباط، كثيراً لا دائماً. إذاً يشترط في الفقيه أن يكون متخصص في علم اللغة، في علم الرجال، لأن هذا يتدخل في الاستنباط.

§        علم دخالته نادرة: مثل علم الفلسفة، علم مهم لتحليل الأشياء، ولكن دخله في الاستنباط نادر، يعني إذا ترجع إلى علم الأصول لعله ثلاث مسائل لا أكثر يكون علم الفلسفة دخيل فيها. إذاً بما أن الفلسفة نادرة الدخل في الاستنباط لا يشترط في الفقيه أن يكون فيلسوفاً، يشترط فيه أن يكون عارف بالفلسفة، متمكن من هضمها قادر على تقويمها، ولكن لا يشترط أن يكون فيلسوفاً.

§        أما بالنسبة إلى علم الكلام (علم العقائد): ليس شرطاً في حجية فتوى الفقيه لماذا؟ لأن هذا تخصص وهذا تخصص، علم الكلام تخصص مستقل، وعلم الفقه تخصص مستقل، لا يشترط في الفقيه أن يكون متخصص في علم الكلام، لأنهما تخصصان مختلفان[9].

 

رأي السيد الحيدري

أما السيد الحيدري فبعد أن بيّن رؤيته في التمييز بين الفقه القرآني والفقه الاصطلاحي، والفقيه بالمعنى القرآني والفقيه بالمعنى الاصطلاحي، والذي هو بالمعنى القرآني أوسع منه بالمعنى الاصطلاحي، حيث هو بالمعنى القرآني لا يقتصر على الفقه الأصغر (الحلال والحرام كما يعبر السيد الحيدري) وإنما يشمل منظومة المعارف الدينية[10]،  انتقل للحديث عمّا أسماه الشروط الواجب توفّرها في العالم الديني وفق نظريته؛ إذ تساءل قائلاً: ((ما هي أهمّ المعارف والمحاور في المعرفة الدينية؟ هذا الذي اصطلحتُ عليه في كتاب التفقّه في الدين، أنّه تحديد دائرة التفقّه، ما الذي نحتاج إليه حتى نطلق على الشخص بأنه عالم دين، ومرجع ديني؟))[11]. لاحظوا هنا أن السيد الحيدري يتكلم عن عالم الدين ولم يتكلم عن العالم في الفقه فقط بالمعنى الاصطلاحي، لأنه يميز بين العالم في الفقه الأصغر (الحلال والحرام في الإطار الفردي)، وبين عالم الدين.

 

وفي مقام الإجابة عن هذا التساؤل قال السيد الحيدري: ((هناك ثلاثة محاور أساسية لكي نطلق على العالم بأنّه عالم دين، وأنّه من ورثة الأنبياء، وأنّه من حصون الإسلام، وأنّه من (حفظة) ثغور الدين والفكر الديني، لابدّ أن يتوفّر – عالم الدين – على علوم ثلاثة أساسية –وهي:

الأول المعرفة بكلام الله (التفسير)، أي: أن يقف كاملاً على المنظومة التفسيرية، بما تشتمل عليها من مقدّمات[12]. إلى أن يقول: ((إذاً لابدّ أن يكون العالم على دراية كاملة بالتفسير، كما يكون له دراية كاملة بوسائل الشيعة، كيف لو أنك سألت أيّ فقيه عن مصدر فتوى أفتى بها، يقول: للصحيحة الكذائية، أو للحسنة الكذائية، فكما أن الفقه كالعجينة في يد الفقيه -كما عبّر الشهيد محمّد باقر الصدر- كذلك لابدّ أن يكون التفسير ومعرفة التفسير كالعجينة في يد العالم الديني))[13].

 

ويتساءل السيّد حفظه الله بعدها قائلاً: ((لماذا وضع التفسير ضمن العلوم المهمّة الواجب توفّرها لدى عالم الدين؟)).

ويجيب عن هذا السؤال قائلاً: ((لأنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام أبلغونا أنّه وقع في كلامهم دسّ، وتزوير، ووضع، حتّى أنهّم لعنوا كثيراً من الوضّاعين، وهذه كلّها تكشف أنّ عملية الوضع كانت واسعة النطاق في ذلك الزمان.. لا يتبادر إلى الذهن أن عمليات الوضع مختصّة بالاتجاه الآخر، أبداً عملية الوضع كانت موجودة في الواقع الشيعي...)).

 

ويردف قائلاً: ((أبلغونا -أي الأئمة عليهم السلام- أيضًا أّن كثيراً من الأصحاب كانوا ينقلون الروايات بالمعنى، وأبلغونا أنّه وقع تقطيع - كما فعل صاحب الوسائل - وأبلغونا أنْ كلِّموا الناس على قدر عقولهم، وأبلغونا أن هناك تقيّة في كلماتهم... جيّد، إذا كان الأمر كذلك، فكيف نميّز الصحيح من السقيم في هذه الموسوعة الضخمة من الروايات؟

الجواب: أعطونا ضابطة واحدة؛ قالوا: اعرضوا كلامنا على كتاب ربّنا، فإن وجدتم عليه شاهد أو شاهدين فقلناه، وإلا فهو زخرف لم نقله، ارموا به عرض الجدار. وهنا أسألكم بالله: من لم يقف على القرآن ومعارفه ولا يعرف الناسخ من المنسوخ، ولا المحكم من المتشابه، ولا أن القرآن يفسّر بعضه بعضاً، كيف يمكنه أن يعرض كلام الأئمّة على القرآن الكريم؟. إذاً [والكلام للسيد الحيدري]: الأصل الأول: عالم الدين لابدّ أن يكون صاحب تفسير، ليس بمعنى أن يكتب تفسيراً، بل المهمّ أن يكون عنده إلمام كامل بالتفسير، إن لم أقل لابدّ أن يكون مجتهداً في التفسير، لأنني أعتقد أنّ التفسير من المقدّمات القريبة لا من المقدّمات البعيدة لكي يستند فيها إلى أهل الخبرة))[14].

 

أما المحور الثاني الذي ذكره السيّد الحيدري فهو العقائد، وفي هذا المحور يقول: ((كيف يمكن أن يكون العالم حصناً للإسلام، و(حافظاً لثغور) للدين، ويسدّ الهجمات الفكرية، والثقافية، والعقائدية؟ وكم هو كبيرٌ، الهجوم الكبير الذي تتعرّض له مدرسة أهل البيت عليهم السلام؟)).

 

والمحور الثالث والأخير الذي تحدّث عنه السيّد الحيدري، هو المعرفة بالحلال والحرام، وهنا أيضاً ليس بالمعنى الضيّق الموجود في الرسالة العملية فقط، بل المعنى الأوسع، ...[15].

 

وفي هذا المحور تحدث السيد عن نقطتين وهما:

§        أولاً: كثير من المسائل الموجودة في الرسائل العملية فاقدة للبعد العملي، مع أنهّا رسالة اسمها عليها (رسالة عملية). ولذا تجدون أنّه كثرت عندنا الاستفتاءات.

§        ثانياً: هناك تصوّر خاطئ، وهو: أنا نعني بالحلال والحرام، الحلال والحرام في المسائل الفردية، كالصلاة والصيام والحجّ والزكاة، مع أن هذا جزء من الحلال والحرام. أين ذهب الحلال والحرام في العلاقات الدولية؟ الآن عشرات من الشركات التي تتعامل مع العدوّ الصهيوني الذي يريد التسلّط على رقابنا، أيجوز أن نذهب لهذه الشركات ونتعامل معها مع أننا نجد أننا عندما نتعامل معها نقوّيها، فهو نحو من الإعانة على الإثم، وليس بإثم فرديّ، هل سأل سائل ذلك؟ أم هل كتب مرجع في رسالته العملية متى يجوز ومتى لا يجوز؟[16].

 

بعدها يتحدّث السيّد حفظه الله عن الفلسفة والعرفان ويضع التساؤل التالي قائلاً: ((قد يسأل سائل: لم تقولوا شيئاً عن الفلسفة؟ لم تقولوا شيئاً عن العرفان؟ الجواب: إنني من المعتقدين بأن الفلسفة والعرفان هما: من الأدوات الأساسية لفهم النصّ الديني، كما أنّ من يريد أن يعرف علم الفقه فعليه أن يعرف علم أصول الفقه والنحو والصرف، فكذلك الفلسفة والعرفان لهما ضرورة لفهم النصّ الديني وليسا بديلاً عنه، كذلك الأمر بالنسبة لعلم الأصول الذي هو مقدّمة لفهم الفقه، ولذلك أنا دعوت لعلم أصول العقائد))[17].

 

الخلاصة

تحدّث السيّد الحيدري حفظه الله عن الشروط الواجب توفّرها في المرجع الديني، وذكر منها ضرورة إلمامه بعلم التفسير، وعلّل أهمّية ذلك بقوله: ((لكي يعرض الروايات على القرآن فإن وافقتها وإلّا ضرب بها عرض الحائط)). وتكلّم في المحور الثاني عن علم العقائد وعلّل أهمّيته قائلاً: ((لكي يكون العالم حصناً للإسلام أمام الهجمات الفكرية للأعداء)). بعدها تكلّم عن علم الفقه قائلاً: ((إنّه لا يعني بالفقه هنا الفقه الموجود في الرسالة العملية))، وقال أيضاً: ((إنّه لا يعني مسائل الحلال والحرام المتعلّقة بالمسائل الفردية فقط، بل يضمّ معها مسائل الحلال والحرام المتعلّقة بالمسائل الاجتماعية)). وبعدها أشار للفلسفة والعرفان وقال: ((هما ضروريّان لفهم النصّ الديني)). هذه خلاصة ما قاله السيّد في هذه النقطة.

بعد هذا العرض الموجز لكلام السيد الحيدري، نلاحظ الآتي:

§        أن السيد الخباز لم يتكلم عن علم التفسير ولم يشر له، فهل هو عنده من العلوم دائمة الدخل أو كثيرة الدخل أو نادرة الدخل أو التي ليس لها دخل كما يعبر؟ هذا ما لم يتطرق له السيد.

§        هناك فرق كبير بين ما ذكره السيد الخباز عن العقائد وبين ما ذكره السيد الحيدري، فالسيد الخباز يقول بأن علم الكلام (العقائد): ((ليس شرطاً في حجية فتوى الفقيه لماذا؟ لأن هذا تخصص وهذا تخصص، علم الكلام تخصص مستقل، وعلم الفقه تخصص مستقل، لا يشترط في الفقيه أن يكون متخصص في علم الكلام، لأنهما تخصصان مختلفان)). فالسيد الخباز كان يتكلم عن دور العقائد في الاستنباط الفقهي، أما السيد الحيدري فكان يتحدث عن دور علم العقائد في الدفاع عن الدين والمذهب لصد الهجمات الفكرية، فهو يرى بأن هذه الوظيفة من مسؤوليات عالم الدين والمرجع الديني، ولهذا هي ضرورية من هذه الجهة، ولم يتحدث عنها باعتبارها ضرورية فقط لعملية الاستنباط في الأمور الفقيهة (الفقه الأصغر) أو في فقه الحلال والحرام كما يعبر، كما ينبغي العلم بأن السيد الحيدري يرى بأن المعارف الدينية منظومة واحدة، ومن هذه الجهة أيضاً قد يكون لعلم العقائد تأثير على المعارف الدينية الأخرى، وسوف نشرح ذلك من كلماته فيما سيأتي.

§        أما بما يخص رؤية السيد الحيدري في علم الفقه أو المعرفة بالحلال والحرام -كما يعبر- فلم يتطرق لها السيد الخباز.

§        أما فيما يخص علم الفلسفة فالسيد الخباز يرى بأن دخله نادر في عملية الاستنباط، ولا يحتاج إليه إلا في ثلاث مسائل لا أكثر في علم الأصول، ولذلك لا يشترط في الفقيه أن يكون فيلسوفاً، ويشترط فيه أن يكون عارفاً بالفلسفة متمكن من هضمها قادر على تقويمها كما يعبر. أما السيد الحيدري فيرى بأن الفلسفة والعرفان لهما ضرورة لفهم النص الديني وليس بديلاً عن النص الديني، ويقول كما أن علم الأصول هو مقدمة لفهم الفقه ينبغي أن يكون هناك علم لأصول العقائد، والفلسفة ضرورية في فهم العقائد، والعقائد من الأمور الضرورية التي على عالم الدين أن يقف عليها هذه من جهة، ومن جهة أخرى من الملاحظ أن السيد الحيدري كان يتكلم عن ما يسميه بمنظومة المعارف الدينية وليس عن الفقه الأصغر أو الحلال والحرام كما يعبر، فهو دائماً ما يؤكد على منظومة المعارف الدينية، وكان يتحدث عن من يريد أن يعطي رأياً في المعارف الدينية ككل وليس في مسائل الفقه الاصطلاحي فقط، ومن هنا يقول حول علم الفلسفة والعرفان ما يلي: ((أنا أعتقد أنّها تمثّل جزءاً أساسياً كمقدّمات لفهم المعارف الدينية. على سبيل المثال: نحن في علم أصول الفقه نطرح عشرات المسائل الفلسفية والمنطقية؛ لفهم المسائل الفقهية. والذين تابعوا مسائل علم أصول الفقه يعرفون بأنَّ كثيراً من مسائل علم أصول الفقه مسائل فلسفية، أُخذت من مباحث فلسفية أو من مباحث كلامية لماذا احتاجوا إليها؟ قالوا: لأن فهم كلام المعصوم يتوقّف على فهم هذه المقدّمات)). ويردف بقوله: ((وبمثال أوضح: القرآن الكريم نزل بلسانٍ عربيٍّ مبين، فهل يمكن لأحدٍ أن يفهم القرآن وهو لا يعرف العربية؟ أين ورد عن أهل البيت أنهم قالوا: تعلّموا العربية حتّى تفهموا القرآن؟ هذه مقدّمة عقلية واضحة؛ لأنّ القرآن نزل بلسانٍ عربيٍّ مبين، إذاً لابدَّ أن تتعلّم اللغة العربية، بل لا يكفي تعلّم اللغة العربية فقط، بل عليك أن تتعلّم اللغة العربية وقواعدها، أي الصرف، والنحو، وقواعد البلاغة و... هذا على مستوى الألفاظ. أمّا على مستوى المحتوى والمضمون فالأمر أيضاً كذلك، هناك كثير من المضامين تحتاج؛ لكي تفهمها، إلى قواعد في علم أصول الفقه، وقواعد في علم أصول العقائد، وقواعد فلسفية، وقواعد منطقية، وقواعد عرفانية. هذه هي منظومة المعارف التي يحتاجها مَنْ يريد أن يعطي رأياً في المعارف الدينية))[18].

§        رؤية السيد الحيدري في منظومة المعارف الدينية: سوف نتحدث عنها فيما يلي حتى تتضح رؤيته جيداً.

 

يقول السيد الحيدري: ((أنا أعتقد أنّ الدين منظومة واحدة مترابطة، تشكّل لوحةً واحدة. ليست المعارف الدينية جزراً مستقلّة منفصلة عن بعضها، وإنّما هي لوحة واحدة، بل هي حقيقة واحدة. نعم، نحن؛ لأغراض عملية وتدريسية وتدوينية في حوزاتنا العلمية، بعَّضنا أجزاء هذا الدين، فقلنا: هذه أصول الدين، وهذه فروع الدين، وهذا كتاب الصلاة، وهذا كتاب الصوم، وهذا كتاب الحجّ، وهذه أمور فرديّة، وتلك أمور اجتماعيّة، ولكن ما هو الواقع؟ الواقع هو أنها مجموعة واحدة غير مجزّأة))[19].

          ويردف قائلاً: ((لأضرب مثالًا؛ حّتى يتّضح الأمر للقارئ الكريم: انظروا إلى أيّة ظاهرة طبيعيّة، سواء كانت فلكيّة أو بيولوجيّة. هذه الظاهرة الطبيعية لا يمكن فهمها بقراءة علم واحد من العلوم الطبيعية وهو علم الكيمياء مثلاً بل لابدَّ أن نضيف إلى قراءتنا علم الكيمياء علوماً طبيعية أخرى كالفيزياء والرياضيات والفلك؛ لأن هذه الظاهرة فيها أبعاد متعدّدة، ولكنْ أسأل: عندما تذهب إلى الجامعة هل تقرأ هذه العلوم مرة واحدة أم تتخصَّص فيها؟ أقول: لماذا جزِّئت هذه العلوم إلى الرياضيات والفيزياء والكيمياء، مع أنها في الواقع الخارجي واحدة؟ الجواب: لأغراض علمية، ولأغراض درسية وتدريسية، وإلّا فأنت تحتاج في فهم الظاهرة الطبيعية إلى الرياضيات والطبيعيات والفلك والكيمياء والفيزياء... ولذا يقول أستاذنا الشهيد السيّد محمد باقر الصدر في كتابه (اقتصادنا): "الاقتصاد الإسلامي جزءٌ من كلّ" ما معنى "جزء من كلّ؟" معناه: أنت إذا أردت أن تفهم العدالة الاجتماعية في الاقتصاد الإسلامي، لا يمكنك ذلك من دون الإحاطة بباقي منظومة المعارف الدينية. لا يمكن أن تفصل العدالة الاجتماعية في المعارف الدينية عن بحث المعاد وبحث التوحيد وبحث التقوى وبحث الزهد، مع أنه عندما تنظر إلى بحث المعاد والتوحيد والزهد والتقوى تجد أنّ واحداً منها مرتبط بأصول الدين، وواحداً مرتبط بالتقوى، وواحداً مرتبط بالأمور الفقهية. إذاً نحن نأتي ونفصّل هذه ونجعلها جزراً مستقلّة، ولكنهّا في واقعها منظومة واحدة))[20].

 

ومن العرض السابق نرى بأن السيد الخباز لم يقدم رداً فعلياً على أطروحات السيد الحيدري، فهو تجاهل بعضها، وتطرق لبعضها دون تقديم ما ينقضها أو يثبت بطلانها بأدلة وبراهين، وإنما اكتفى فقط بقول خلافها.

 

النقطة الرابعة: (الفرق بين الولاية العامة والولاية الخاصة)

          تحدث السيد الخباز عن الفرق بين الولاية العامة والولاية الخاصة، ويقول في شرح الولاية الخاصة بقوله: ((تعني ولاية الفقيه في الأمور الحسبية ومعنى الأمور الحسبية هي كل أمور دخيل في استقرار الحياة، يسمى من الأمور الحسبية، مثل حفظ الأموال العامة الخاصة، هذه من الأمور الحسبية لأنه دخيل في استقرار الحياة)).

 

          بعدها أردف قائلاً: ((الأمور الحسبية، يعرفها السيد الخوئي يقول: "كل أمر علم أن الشرع يريده ولم ينصب له مكلف معين"، فالفقيه له الولاية فيه.. ومن ثم يذكر ما أسماه بشرح الشيخ التبريزي لكلام استاذه الخوئي في صراط النجاة الجزء الأول ص 10 حيث يقول: الأمور الحسبية كل ما علم أن الشارع يريده ولم ينصب له مكلف معين، ومن أهمها إدارة نظام البلاد وتهيئة المعدات والاستعدادات للدفاع عن ثغور البلاد)).

 

          ثم قال السيد الخباز: ((يريد يقول الشيخ التبريزي أن السيد الخوئي عندما يقول الولاية في الأمور الحسبية فقط ما إنه الفقيه ما له دور، بعض الناس يتوهم إذا الفقيه ما يرى الولاية العامة مثل الإمام الخميني إذا هذا فقيه ما إله دور، إذا هذا فقيه منعزل عن الحياة، هذا الفقيه بس قاعد في بيته يكتب يكتب خلاص، ما عنده شغل ثاني لأنه لا يرى الولاية العامة، إذاً لا دور له إلا أن يكتب رسالة عملية، لا كل فقهائنا يقولون: الفقيه قائد له موقع القيادة بلا استثناء، إنما السيد الخوئي يقول: قيادة الفقيه في كل أمر يدخل في استقرار الحياة... مثلاً إدارة نظام الحياة، افترضوا بلد صارت بيد الفقيه إذا لم يديرها الفقيه يحصل الهرج والمرج، الفقيه له الولاية على إدارة شؤون البلاد ونظامها والدفاع عنها بكل الوسائل هذا المعنى يقول به حتى السيد الخوئي حتى تلامذته، لا يختلفون في هذه النقطة))[21].

 

رأي السيد الحيدري

تحدث السيد الحيدري عن النظريات الموجودة لدور علماء الدين والمراجع الدينية في عصر الغيبة الكبرى، وبين أن هناك اتجاهان، وتحدث عن الاتجاه الأول بقوله: ((وهو الاتجاه الذي –دققوا فيما أقول- يعتقد أنه لا يوجد دور للمراجع الدينية في عصر الغيبة الكبرى إلا أن يصدروا رسالة عملية، ليس لهم أي دور آخر، كل دورهم يتلخص في الرسالة العلمية، فإذا أصدروا الرسالة العملية فقد انتهى دورهم...))[22].

 

فما كان مقصوده من ذلك؟ هل كان يقصد بأن المرجع في الاتجاه الأول لا يقوم بأي دور آخر نهائياً مهما كان شكله أو حجمة أو مستواه؟! أستطيع أن أقول لا، وذلك بالاعتماد على كلام السيد الحيدري نفسه، فهو في نفس البرنامج عندما علق مقدم البرنامج على كلامه بالقول (أي المقدم): ((يستتبعه الدرس –أي يستلزم اصدار الفتوى- علق السيد الحيدري قائلاً: نعم، ذلك البحث العلمي أنا دا أتكلم عن أدواره في الأمة، ذاك بحث علمي، البحث العلمي لا علاقة لنا به، قد يجلس في بيته يدرس أو لا يدرس، أنا دا أقول ما هي مسؤولياته؟ مسؤولياته أن يكتب رسالة عملية، أن يفتي الناس، إذا سألوه الماء طاهر أو نجس، يقول لا الماء طاهر مو نجس، إذا سألوه الصوم واجب أم غير واجب، يقول الصوم واجب، سألوه في باب النكاح، سألوه في باب الطلاق، سألوه في باب المعاملات، يقول هذا حكمه واجب حرام مستحب مكروه وغير ذلك...))[23]. وهذا شاهد يدل على أنه يرى أن لأصحاب الاتجاه الأول أدواراً أخرى يقومون بها غير إصدار الفتوى. إذاً السيد الحيدري كان يقصد بكلامه معنى آخر، لا أنهم فعلاً لا يقومون بأي دور إلا إصدار الفتوى بدلالة كلامه السابق.

 

كذلك نجد أن السيد الحيدري عندما تحدث مقدم البرنامج عن السيد الخوئي بقوله: أنه يؤمن بالولاية في الأمور الحسبية، قال السيد: ((أنه في الأمور الحسبية، هسه ما أريد أدخل في التفاصيل))[24]. وهذه التفاصيل تعطي أدواراً للفقيه غير إصدار الرسالة العملية، مما يدلل أنه لم يكن بصدد الإنكار لأي دور آخر للفقيه، لأن الولاية الحسبية تضع عدة مسؤوليات وأدوار على الفقيه القيام بها. إذاً نطرح هذا السؤال ونجيب عليه فيما سيأتي: ماذا كان يقصد السيد الحيدري في كلامه؟!

 

السيد الحيدري والمسؤوليات الثابتة للفقيه من الأئمة (ع)

أستطيع القول أن السيد الحيدري لم يكن ينفي أي دور آخر للفقهاء، وإنما كان يتكلم عن مسؤوليات الفقهاء الثابتة بدليل من الأئمة (ع)، وشاهدي على ذلك هو ما ذكره في بحث خارج الفقه، حيث قال: في الدرس رقم 201 من مفاتيح عملية الاستنباط الفقهي حول السؤال: ما الصلاحيات والمسؤوليات التي أعطيت للعلماء في عصر الغيبة الكبرى؟ حيث شرح السيد الحيدري أن هناك اتجاهات متعددة في ذلك، وقال: ((الاتجاه الأول: الذي يقول ليس له صلاحية إلا أن يكتب الرسالة العملية وهو في القضايا الفردية انتهى, وهي الفتوى فقط, حتى القضاء لم تعطَ له الصلاحية, من قبل الإمام لم يبين له الإمام قال له أنت مسؤول عن القضاء. تقول يعني أن الشيعة يبقون بلا من يحل منازعاتهم؟ يقول –أي من يتبنى هذا الاتجاه-: لا هذا من باب الأمور الحسبية لا أن الإمام أوكل إليه هذه الوظيفة. نعم, الإمام أوكل إليه وظيفة أن يفتي الناس أن لا يبقى الناس بلا فتوى, وهذا هو المستفاد من جملة من كلمات السيد الخوئي...))[25].

 

ويقول في مورد آخر من نفس الدرس ملخصاً ما قاله: ((فإذن السيد الخوئي من حيث الدليل اللفظي لا من حيث دليل الحسبة, لأنه بعض الأعزة يخلطون بين الدليل اللفظي الذي هو من الإمام وبين دليل الأمور الحسبية, نحن حديثنا الآن الإمام أعطاك هذه الصلاحية أو لم يعطك؟ السيد الخوئي يقول لم يعطي إلا صلاحية أن أفتي بين الناس أما ما زاد عن ذلك فيثبت بدليل آخر وهي الأمور الحسبية))[26].

إذاً فمقصود السيد الحيدري هي المسؤوليات والصلاحيات التي ثبتت للفقيه بدليل من الإمام (ع) بدليل قوله –أي السيد الحيدري- متسائلاً عن السيد الخوئي: "نحن حديثنا الآن الإمام أعطاك هذه الصلاحية أو لم يعطك؟ السيد الخوئي يقول لم يعطي إلا صلاحية أن أفتي بين الناس أما ما زاد عن ذلك فيثبت بدليل آخر وهي الأمور الحسبية"[27].

 

كذلك نجد أن السيد الحيدري بين في إحدى المقاطع التي انتشرت لأحد دروسه أنه لا يعنى عدم وجود الأمور الحسبية، وإنما كان يقصد من كلامه أن مسؤولياته –يقصد الفقيه في الاتجاه الأول-من حيث الدليل اللفظي لم تثبت، وبين أن البعض يخلطون بين الدليل اللفظي الذي هو من الإمام وبين دليل الأمور الحسبية، وبين أن الإمام أعطى الفقيه صلاحيات أن يفتي، أما ما زاد على ذلك فلم يثبت بدليل عن الإمام، وثبت بدليل آخر وهي الأمور الحسبية، بالأمور العقلائية ... إلى أن قال: ((هذا يكشف أنه منصب نصبه أو هو منتصب تعييني؟ وهذا هو محل النزاع، وهناك خلط بين التعيين وبين التعين))[28].

 

فالسيد الحيدري كان بصدد الشرح للأمور الثابتة من الإمام، وهذا أيضاً ما نعرفه لشرحه لعلماء الاتجاه الثاني، وذلك عندما قال عن هذا الاتجاه: ((هذا الاتجاه يعتقد –خلوا ذهنكم يمي- يقول كل الصلاحيات، وكل الأدوار، وكل المسؤوليات التي كانت في عاتق النبي والأئمة فهي ثابتة لمن؟ للمرجعيات الدينية في عصر الغيبة إلا ما استثني، الأصل ثابت، إلا إذا دل دليل أن هذا المورد ليس ثابت... ))[29].

 

          أما ما ذكره السيد الخباز عن السيد الخوئي وأنه يرى بوجود الجهاد الابتدائي في عصر الغيبة وأنه أوسع في ذلك من بعض الفقهاء، فهذا الأمر لم ينكره السيد الحيدري ولم يعترض عليه، بل هو يقول بسعته، ولكنه يقول بأن ذلك من باب الأمور الحسبية، وليس من باب الدليل اللفظي من الإمام (ع)، حيث يقول في أحد دروسه: ما يلي: ((في (منهاج الصالحين) يعني: تتمة منهاج الصالحين الذي أضيفت إليها كتاب الجهاد هناك في (ج1, ص365) [وقد تحصل من ذلك أن الظاهر عدم سقوط وجوب الجهاد في عصر الغيبة] الجهاد يعني الجهاد الابتدائي [في عصر الغيبة وثبوته في كافة الأعصار لدى توفر شرائطه وهو في زمن الغيبة منوط بتشخيص كذا] إلى أن يأتي يقول: [المقام الثاني: أنا لو قلنا بمشروعية أصل الجهاد في عصر الغيبة فهل يعتبر فيها إذن الفقيه الجامع للشرائط أو لا؟ يظهر من صاحب الجواهر اعتباره] اعتبار إذن الفقيه [بدعوى: عموم ولايته بمثل ذلك في زمن الغيبة] التفتوا جيداً يقول: [وهذا الكلام غير بعيدٍ] يعني أنه الفقيه له هذه الصلاحية, ولكن لا بالبيان الذي يقوله صاحب الجواهر وهو الدليل اللفظي وإنما ببيان ماذا؟ ببيان الأمور الحسبية, فإذن في النتيجة يتفق مع كثير من مباني نظرية أو نتائج نظرية ولاية الفقيه, ولكن لا بدليلٍ لفظي, إلى أن يقول: [فلا محالة يتعين ذلك في الفقيه الجامع للشرائط فإنّه يتصدى لتنفيذ هذا الأمر المهم من باب الحسبة على أساس أن تصدي غيره لذلك يوجب الحرج والمرج إلى غير ذلك]. جيد.))[30].

 

الخلاصة

كان السيد الحيدري يتحدث عن الأدوار الثابتة للفقيه بدليل من الإمام (ع) وهو في الاتجاه الأول فقط الإفتاء أما في الاتجاه الثاني فنطاقه أوسع، طبعاً مع علمه بأن الاتجاه الأول يقومون بأدوار أخرى، كالأدوار العلمية والأدوار التي يمارسونها بعنوان الأمور الحسبية، ولكن السيد الحيدري قال بأنه لن يتكلم عنها، وهذا شاهد على أنه لم يكن ينكرها. ويحق لأي ناقد للسيد الحيدري أن يقول بأنه كان من المفترض عليه أن يتحدث عنها لأنها تعطي عدة أدوار أخرى غير إصدار الرسالة العملية، ولكن لا يحق له أن يقول بأنه ينكرها لما بيناه سابقاً[31].

 

النقطة الخامسة: (أدوار المرجعية)

تحدث السيد الخباز عن أدوار المرجعية على أرض الواقع، وذكر ثلاثة أدوار وهي في النقاط التالية:

§        الدور الأول: تخريج الفقهاء وتربية المجتهدين. والأمة في كل زمن تحتاج إلى وجود الفقهاء والمجتهدين، من هو مصدرهم؟ هذا المرجع، إذاً يقوم بدور كبير وعظيم... إلى أن يقول: إذا تربية الفقهاء والمجتهدين وتخريج العلماء دور عظيم، دور عظيم على مذهب التشيع لا يمكن احتقار هذا الدور والاستخفاف بهذا الدور.

§        الدور الثاني: تأصيل الفكر. الفكر الامامي يمتاز على فكر بقية المذاهب بالعمق... هذه جاءت من عقول المجتهدين، جاءت من عقول المراجع، منذ زمان الشيخ المفيد، السيد المرتضى، الشيخ الطوسي، العلامة الحلي، المحقق الحلي، المحقق الكركي، الشيخ الأنصاري، هكذا عمالقة الإمام الخوئي الإمام الخميني لولا هؤلاء العمالقة لتضعضع المذهب من زمان... . ومن ثم يقول: ((قيمة المفيد شنهو (في أي شيء؟) قيمة المرتضى شنهو (في ماذا؟)، قيمتهم في فكرهم، ربما يكون بعضهم له دور سياسي واجتماعي في زمانه ولكن الذي بقي منه هو فكره، شنهو بقي من الشيخ المفيد صحيح في زمانه له دور سياسي، ولكن الذي بقي منه هو فكره وكتبه، الذي بقي من العلامة الحلي فكره وكتبه، الذي بقي من الشيخ الأنصاري فكره وكتبه. إذاً هؤلاء العملاقة أسسوا للمذهب الإمامي بنية فكرية رصينة، وسار تلامذتهم على ضوئهم، تلامذة الإمام الخميني وتلامذة الإمام الخوئي، وتلامذتهم تلاميذهم، ساروا على ضوئهم، فالدور الذي يقوم به المرجع لا تقول مو انجاز. شنهو الانجاز، تأصيل الفكر هو الانجاز، تعميق (الفكر) هو الانجاز الضخم... .

§        الدور الثالث: القيادة الاجتماعية والسياسية. ما مر مرجع على الشيعة ليس له قيادة، إذا صار مرجع عام يقلده أكثر الشيعة لا يوجد مرجع عام يقلده أغلب الشيعة إلا وله موقع قيادي، ما عندنا مرجع منعزل، ولا مرجع مستتر إطلاقاً.. وبعدها ذكر السيد الخباز عدة أمثلة لبعض العلماء إلى أن يذكر السيد الخوئي ويقول: ((بعضهم يستضعف الإمام الخوئي))، وذكر صبره وصموده أمام الطغيان البعثي في الحرب العراقية الإيرانية، ومن ثم ذكر دوره –أي دور السيد الخوئي- في الانتفاضة الشعبانية وكيف أنه تصدى، وصرف ملايين الأموال من قبله ونصب هيئة لإدارة النظام، ومن ثم قال: ((هذه المواقف كلها نضربها بعرض الحائط ونقول هؤلاء رجعيين ما كان دورهم إلا رسالة عملية، هل هذا إنصاف؟ هل هذه موضوعية؟ هؤلاء الذين عاشوا على خط الصبر والصمود، هؤلاء الذين تحملوا المحن، في سبيل أن يبقى المذهب في العراق...))[32].

 

وبعد هذا العرض نتساءل: هل ما ذكره السيد الخباز يناسب لأن يكون رداً حقيقياً على السيد الحيدري؟!

بالتأكيد لا، للنقاط التالية: 

أولاً: لأن السيد الحيدري لا ينكر هذه الأمور، وإنما كان يتكلم عن الادوار الثابتة للفقيه بدليل من الإمام (ع) كما مر سابقاً، فهو في شرحه للاتجاهين قال: أن الاتجاه الأول هو فقط الإفتاء أما الاتجاه الثاني فنطاقه أوسع. طبعاً مع علمه بأن الاتجاه الأول يقومون بأدوار أخرى، كالأدوار العلمية والأدوار التي يمارسونها بعنوان الأمور الحسبية، ولكن السيد الحيدري قال بأنه لن يتكلم عنها في نفس البرنامج، وهذا شاهد يدل على أنه لم يكن ينكرها.

ثانياً: لأن السيد الحيدري لم بقل بأن قيمة علمائنا هو في دورهم السياسي والاجتماعي فقط، بل هو ركز على أدوارهم العلمية في أكثر من مورد في كلامه، منها عند ذكره لكلام الشيخ كاشف الغطاء، حيث أكد على قيمة الأدوار العلمية لعالم الدين، وذلك في قوله نقلاً عن الشيخ كاشف الغطاء: ((... ولقد ذكرنا أن أحسن معيار عن صدق هذه الدعوى وكذبها (يقصد صدق المدعي للأعلمية وللمرجعية) هو الإنتاج العلمي وكثرة المؤلفات النافعة، وأن طريقة الإمامية من زمن الأئمة إلى عصرنا القريب هو أن المرجعية العامة والزعامة الدينية تكون لمن انتشرت وكثرت مؤلفاته كالشيخ المفيد، والسيد المرتضى، والشيخ الطوسي الذي تكاد مؤلفاته تزيد على الأربعة منه (ولكن ليس كلها في الحلال والحرام فقط، بل أيضاً في التفسير، والعقائد، ودفع الشبهات، وكلام، والحديث[33]) والشيخ الصدوق الذي لديه ثلاثمائة مؤلف، وهكذا هو الميزان الصحيح، والمعيار العادل إلى زمن السيد بحر العلوم صاحب المصابيح، والشيخ الأكبر صاحب كاشف الغطاء إلى الشيخ الأنصاري))[34]. فذكر السيد كمال الحيدري لهذا الكلام وتأكيده عليه يدل على أنه لا يرى بأن قيمة العلماء في دورهم السياسي والاجتماعي فقط كما يقول السيد الخباز، بل إنه يرى أهمية الأدوار والجهود العلمية التي يقومون بها كما هو واضح من كلماته.

كذلك نجد السيد كمال الحيدري يمتدح بعض العلماء الذين لديهم علم شمولي، حيث يقول: ((ولكن للحقّ والإنصاف لابدّ أن يقال أن أمثال الإمام الخميني، والسيّد الخوئي، وأمثال السيّد محمّد باقر الصدر، وأمثال أعلام كبار في حوزة قم -الآن لا أريد أن أذكر الأسماء– تجدون عندما تنظرون إلى تراثهم أنه كما يشتمل على الفقه والأصول يشتمل على الرجال والتفسير والعقائد))[35]، وهذا دليل على أنه يرى أهمية الجانب العلمي والأدوار العلمية للعلماء.

 

ثالثاً: لأن السيد الحيدري لم ينفي تصدي السيد الخوئي في الانتفاضة الشعبانية، وقد ذكر ذلك في حلقة برنامجه ولم يتنكر له[36].

 

رابعاً: لأن السيد الحيدري لم يستهن بالسيد الخوئي ولم يضرب بإنجازاته عرض الحائط وذكر له أدواراً غير إصدار الرسالة العملية كما ذكرنا سابقاً، وهذا الأمر سوف يتضح أكثر من خلال النقطة التالية.

السيد الحيدري ورؤية السيد الخوئي

تحدث السيد الحيدري عن رؤية السيد الخوئي في أحد دروسه، حيث يقول: النظرية الأولى التي ذكرناها عن السيد الخوئي هذه النظرية كما هو واضحٌ لا يعتقد السيد الخوئي بأنه هناك أي ولايةٍ أعطيت للفقيه الجامع للشرائط في زمن الغيبة, أي نحوٍ من أنحاء الولاية, نعم كل ما أعطي هو بيان الفتوى والحكم الشرعي أولاً, وكذلك أجيز للفقيه أن يُترافع إليه, يعني أنه يحق للمتخاصمين أن يرجعوا إلى الفقيه فيحكم بينهم بحسب الموازين الفقهية, الآن إما اجتهادٍ أو مقلده يطبق أحكامه ذاك بحث آخر. ولكنه لم يعطَ الولاية لإقامة ما حكم به, يعني ثبت عنده فلانٌ سارقٌ, جيد, ولكنه فقط يبين وهذا الحكم نافذ, ما معنى نافذ؟ يعني يجب تنفيذه ولكن أعطيّ الولاية على التنفيذ أو لم يعطَ الولاية؟ صريح في هذا المجال يقول: (بحسب أدلتنا لا توجد مثل هذه الولاية).

 

ولذا بالأمس –والكلام للسيد الحيدري- هذا المعنى الذي قرأناه وبعض الأعزة استشكل وتصور بأنها ولاية, لا ليس الأمر كذلك, قال: "والقدر المتيقن ممن ثبت له الوجوب -يعني الوجوب الكفائي للحكم- هو المجتهد الجامع للشرائط فلا جَرَم يقطع بكونه منصوباً من قبل الشارع" منصوباً للقضاء وليس منصوباً للولاية, بحثنا ليس الآن في أنه الآن هذا منصوب, لأن السيد الخوئي يقول: "لا يوجد عندنا دليلٌ لفظي حتى على تصديه للقضاء, نعم الوجوب الكفائي يقول لنا أنه لابد أن يوجد من يتصدى للقضاء لأن الأمة لا يمكن أن تبقى بلا من يحلّ منازعاتها ودليل ذلك هو أنه يكشف لنا أنه القدر المتيقن منه هو من؟ الفقيه الجامع للشرائط" ومن هنا "ونتيجة ذلك نفوذ حكم الحاكم في إطارٍ خاص وهو باب المنازعات والمرافعات فإنه المتيقن من مورد الوجوب الكفائي المقطوع به. إذن نرجع إلى عبارته في (التنقيح الجزء الأول, ص525) العبارة لا تحتمل أي تأويل, "أن الولاية لم تثبت للفقيه في عصر الغيبة بدليلٍ" يعني بأي دليل كان, لا بدليل لفظي ولا بدليل لبي أي دليل عقلي ونحو ذلك, "وإنما هي مختصةٌ بالنبي والأئمة (عليهم أفضل الصلاة والسلام)" واضح هذا المعنى إذن لا ولاية, "بل الثابت بحسب ما يُستفاد أمران: حجية فتواه" الذي توجد عليه أدلة الآن إما لفظية وإما سيرة وإما شيء آخر, "ونفوذ قضائه" أيضاً ليس بدليلٍ لفظي بل بذلك الوجوب الكفائي الذي أشرنا إليه. ولكن هذه نظرية السيد الخوئي في المقام[37].

 

وبعدها يستعرض السيد الحيدري ماذا يستفاد من مجموع كلمات السيد الخوئي في هذا المقام، ويقول: ولكنّ السيد الخوئي يعتقد أن كثيراً ممّا يحتاجه الفقيه أو تحتاجه الأمة لإدارتها وللتصدي للمجتمع ولقيادة المجتمع لابد للفقيه أن يقوم بها, التفتوا, لا يقول كالاتجاه الأول أن الفقيه عنده مسئولية أو ما عنده مسئولية؟ الاتجاه الأول كان يقول الفقيه لا مسئولية عنده, السيد الخوئي لم يقل بذلك يقول لا, عنده مسئولية ولابد أن يتصدى يعني بعد أن حَكم أن فلان سارق أو فلان زاني أو فلان أكل أموال الناس أو كذا, لابد أن يتصدى لتنفيذ الحكم, وأنتم تعلمون أن تنفيذ الحكم ليس من شؤون الإفتاء من شؤون الولاية, طيب بأي دليل سيدنا تقول؟ يقول: من باب الأمور الحسبية, لا من باب الولاية, يعني بحسب المحصّلة النهائية يتفق مع نظرية الولاية, وأنها موضوعة للفقيه ومجعولة للفقيه في زمن الغيبة ولكن لا بطريق أنه جعلت له الولاية بل بطريق الأمور الحسبية.

 

هذا المعنى –والكلام للسيد الحيدري- إذا أردتم تراجعونه -كما قلت بالأمس- (مباني تكملة المنهاج) وكذلك هنا ولكن الأوضح في مباني تكملة المنهاج, عنده عبارة هناك أنا بودي أن الأعزة يلتفتوا إليها, يقول: "يجوز للحاكم الجامع للشرائط" المراد من الجواز هنا بالمعنى الأعم لا أنه يجوز يعني أنه مخير أن يقيم أو لا, لا لا, يجب أن يقيم, طبعاً إذا توفرت الشروط, "يجوز للحاكم الجامع للشرائط إقامة الحدود على الأظهر" وإقامة الحد غير بيان الحد, إقامة الحد من شؤون الولاية لا من شؤون الإفتاء, والعجيب التفتوا إلى العبارة في الشرح هو يقول: "هذا هو المعروف والمشهور بين الأصحاب بل لم ينقل فيه خلاف" إذن كل فقهاء الإمامية أو المشهور من فقهاء الإمامية التزموا بأصل الولاية في زمن الغيبة, نعم ما هو الطريق إليها؟ إما الطريق إليها أن الإمام أعطاه الولاية وإما الطريق إليها أن الفقيه الجامع للشرائط هو القدر المتيقن لتطبيق ذلك, ولذا يدخل في بحث مفصل يقول: "ولكنه ويدل على ذلك أمران: الأول: أن إقامة الحدود إنما شرّعت للمصلحة العامة, والثاني: أن أدلة الحدود مطلقة وغير مقيدة بزمان دون زمان" … إلى أن يقول: "وهذه الأدلة تدل على أنه لابد من إقامة الحدود, حتى في زمن الغيبة" طيب من يقيمه؟ أعطيت لكل إنسان هو يطبق كما يشاء؟ يقول لا أبداً وينقل مجموعة من الروايات أنه لم يترك لكل أحد أن يقيم الحد لنفسه, لا لابد من متصدي لذلك, من هو المتصدي لذلك؟ الفقيه الجامع للشرائط, إلى أن يقول: "والمتيقن, إذن فلابد من الأخذ بالمقدار المتيقن والمتيقن هو من إليه الأمر وهو الحاكم الشرعي" إذن الحاكم الشرعي هو الذي لابد أن يقيم, وأنتم تعلمون عندما نقول بأنه يقيم الحدود يعني لابد أن يكون له جهاز كامل وإلا كيف يستطيع أن يقيم, إذا يريد أن يسجن افترض أن حكمه سجن لابد عنده سجن وعنده شرطة وجهاز وإلا كيف, تقول لم تتوفر الشرائط يقول يسقط التكليف, يقول المهم إذا توفرت يجب أو لا يجب؟ نعم, يجب عليه أن يقوم بهذا العمل, يقول: "من يقيم الحدود" ينقل رواية: "سألت الصادق من يقيم الحدود السلطان أو القاضي, فقال: إقامة الحدود إلى من إليه الحكم" يقول السيد الخوئي: "فإنها بضميمة ما دل على أن من إليه الحكم في زمان الغيبة هم الفقهاء تدل على أن إقامة الحدود إليهم ووظيفتهم" وظيفة لا أنه مخير يطبق أو لا يطبق[38].

 

ثم يلخص السيد كمال الحيدري ما نقله عن السيد الخوئي بقوله: ((إذن النتيجة التي أريد أن أصل إليها أن السيد الخوئي في النتيجة الآن أنا ما أتكلم في سعة دائرة الولاية ماذا يقول, لأنه لم يعرض لهذه المسألة ولكنه أصل الولاية وإن قال بأنه: "لم يقم عليها دليل" ولكنّه قبل نتائج نظرية الولاية وأنه لابد من تنفيذ الأمور الولائية ولكن من باب الأمور الحسبية لا من باب إعطاء الولاية من قبل الإمام المعصوم (عليه أفضل الصلاة والسلام))[39].



كلمة الختام

          لم أكتب هذا الموضوع لأقول بأن أطروحات السيد الحيدري صحيحة أو خاطئة، أو أن كلام السيد الخباز صحيح أو خاطئ، لأنني لم أكتب هذا الموضوع بهدف إثبات الصحة أو الخطأ لأحدهما على الآخر، وإنما كتبته لأبين -فقط وفقط- أن كلام السيد الخباز لا يمكن اعتباره رداً حقيقياً وفعلياً على أطروحات السيد الحيدري. ولم أكن لأكتبه لولا محاولة البعض توجيه محاضرة السيد الخباز وتوظيفها توظيفاً سيئاً لإسقاط السيد الحيدري، وذلك بالقول بأن السيد الخباز قد رد على أطروحاته وفندها وأثبت بطلانها، فهذا هو ما جعلني أقارن ما جاء في محاضرة السيد الخباز بما جاء في أقوال السيد الحيدري، حيث وجدت بعد المقارنة أنه لا يمكن اعتبارها رداً عليه، وإذا جاز التعبير عنها بأنها رد؛ فهي رد فعل على طرحه لهذه المواضيع، وليس رداً فعلياً على ما طرحه من آراء فيها.

 

 

 

 

 

--------------------------------------------------------------------------------


[1] راجع محاضرة السيد الخباز ليلة السابع من المحرم لعام 1434هـ بعنوان "المرجعية صمام الأمان" على الرابط التالي:

http://www.almoneer.org/news.php?newsid=7937&action=video


[2]   راجع كتاب مشروع المرجعية الدينية وآفاق المستقبل لدى السيد الحيدري ص43 لنخبة من الباحثين، مكتبة الكلمة الطيبة بغداد- العراق..


[3] لتفاصيل أكثر راجع الكتاب السابق.


[4] راجع المصدر السابق ص43-44.


[5]   راجع كتاب مشروع المرجعية الدينية وآفاق المستقبل لدى السيد الحيدري، ص44-46.


[6]   راجع الكتاب السابق ص85-86.


[7]   راجع الكتاب السابق ص 87.


[8]   راجع محاضرة السيد منير الخباز في الليلة السابعة من محرم 1434هـ بعنوان "المرجعية صمام الأمان".


[9]   راجع المحاضرة المذكورة للسيد الخباز.


[10]   راجع كتاب مشروع المرجعية الدينية لدى السيد الحيدري ص11-17.


[11]   راجع الكتاب السابق ص20.


[12]   راجع الكتاب السابق ص20.


[13]   راجع الكتاب السابق ص 21.


[14]   راجع الكتاب السابق ص22-23.


[15]   راجع الكتاب السابق ص 23.


[16]   راجع الكتاب السابق منقول بتصرف واختصار ص23-25.


[17] راجع الكتاب السابق ص26.


[18]   راجع الكتاب السابق83-84.


[19]   راجع الكتاب السابق ص78.


[20]   راجع الكتاب السابق ص78-79.


[21]  راجع المحاضرة المذكورة للسيد الخباز.


[22]  راجع الحلقة الأخيرة رقم 25 من برنامج مطارحات في العقيدة "المرجعية الدينية وآفاق المستقبل".


[23]   راجع المصدر السابق.


[24]     راجع المصدر السابق.


[25]   راجع بحث خارج الفقه  مفاتيح عملية الاستنباط الفقهي الدرس رقم 513 للسيد كمال الحيدري.


[26]   راجع المصدر السابق.


[27]   راجع المصدر السابق.


[28]     هذا الكلام موجود على الرابط التالي:  http://www.youtube.com/watch?v=803wEL3QD1A


[29]     راجع حلقة 25 والأخيرة من شهر رمضان لهذا العام 1433هـ من برنامج مطارحات في العقيدة.


[30]  راجع دروس خارج الفقه للسيد كمال الحيدري مفاتيح عملية الاستنباط الفقهي الدرس 202.


[31] لتفاصيل أكثر راجع موضوعنا المعنون بـ "حوار مع السيد هاشم الهاشمي حول حديثه عن السيد كمال الحيدري".


[32]   راجع المحاضرة المذكورة للسيد الخباز.


[33] الكلام للسيد كمال الحيدري.


[34]     راجع كتاب مشروع المرجعية الدينية وآفاق المستقبل ص45-46.


[35]     راجع كتاب مشروع المرجعية الدينية وآفاق المستقبل لدى السيد الحيدري ص46.


[36] ذكر ذلك في الحلقة رقم 25 من شهر رمضان المبارك والتي كانت بعنوان "المرجعية الدينية وآفاق المستقبل".


[37] راجع بحث خارج الفقه للسيد الحيدري مفاتيح عملية الاستنباط الفقهي الدرس (163).


[38]   راجع المصدر السابق.


[39]   راجع المصدر السابق




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !