سايكولوجية الفلسفة
كل الأفكار تقود في ميادينها , وتحكم في التطبيق , لذا لا يمكن وضع خط فاصل حقيقي بين ما هو عملي واقعا . فأي رأي يمكن أن يتحول إلى عمل أو إلى مؤثر في موقف ما , حتى الأسطورة العلمية قد توحي بنظرية كما حصل لفرويد .
ولكن يجب التفريق بين أفكار قاصرة وبين أفكار مريضة , فالأفكار القاصرة مثل ازدياد المراهق جرأة بفعل الإيمان المتمركز في الذات في القدرة الكلية للتفكير المنطقي ,
فهو يستطيع أن يفكر منطقيا بالمستقبل وبأناس وأحداث مفترضة , وهو يشعر بأن العالم يجب أن يخضع نفسه لخطط مثالية (منطقية) بدلا من أنظمة الواقع ,
فهو لا يفهم أن العالم غير منظم بشكل عقلاني بصورة دائما كما يتخيله هو .
فلا يحاول فقط تكييف ذاته للبيئة الاجتماعية , بل انه يحاول كذلك , بنفس القوة , أن يكيف البيئة الاجتماعية لذاته – وتكون النتيجة فشل نسبي في التمييز بين وجهة نظره هو ... ووجهة نظر المجموعة التي يأمل في إصلاحها .
هذا شكل من أشكال ظاهرة الافتقار للتمييز .... فالمراهق يمر عبر مرحلة يعزو بها لتفكيره الخاص قوة لا حدود لها , لذلك فأن أحلامه بمستقبل مجيد من خلال تغيير العالم بواسطة الأفكار ... تبدو ليس فقط حلما خياليا بل كذلك فعلا مؤثرا يعدل , بحد ذاته , العالم الحسي الواقعي .
وكما يرى (جان بير بياجييه) فأن النقطة الرئيسية في عملية انحلال التمركز حول الذات , هو الدخول في عالم العمل أو البدء في التدريب المهني الجدي .
بينما الأفكار المريضة أو المنحرفة , فهي المتكونة تحت وضع نفسي معقد , أي هي التي تحوي على بؤر من الأفكار والرؤى المنشطرة والمعزولة عن العقلانية الإنسانية مثل ( العنصرية ) , فتصطبغ بالكهانة الفصامية أو العرافة الهستيرية , وتتقمص رطانة الخطابة المشارعة الأفكار وتمتاز بالتجليات الطوباوية , وقد يقع الناس تحت وطأة الانهيار (الأخلاقي) بها لما تعدْ به من جنة على الأرض .
تلك المنسوجات العنكبوتية المجانبة للعقلانية تخفي تحت اطمارها جنون العظمة والشعور بالاضطهادية والتوجس من المؤامرة وتحث على الخوف المدمر للذكاء .
وحين تسترسل في تداعياتها تشتمل على انهيار القيم ونكران الأحكام ومحو المقاييس وتصدع المنطق وزعزعة البداهة , وهناك تكثر الهفوات وتزيد السقطات فتغوص في جنبات وتغرق في العنف الثوري (الشعور بالاضطهاد) . وكل ذلك يصاغ بلغة خاصة ومنطق معين , وينتهي إلى قرارات مفزعة لا إنسانية وغير واعية تدعو كل سايكوباث (مجنون اجتماعيا باحث عن لذة آنية ) إلى اعتناقها وتفعيل ارهاصاتها .
وليس أكثر تعويقا لعملية الإصلاح المضاد لهذه الحركات من سطوة البيروقراطية الثقافية , التي تهتم بالتراكم المعلوماتي والترديد التقليدي , فهي رجعية معاندة للإبداع الخلاق , وعاجزة عن الحلول العلمية , ومتناقضة في أنساقها , وهشة الموقف ولا تتحمل المسؤولية الأخلاقية , خصوصا عند انفلاتها مع التحيز وعدم الدقة واللا موضوعية .
فأبسط أشكال البيروقراطية تفرض على الموظف الالتزام الدقيق بالأحكام والقوانين الإدارية , وهذا ما يحول الموظف إلى آلة تسيرها الأحكام والقوانين خصوصا عندما لا يستطيع تغيير نصوصها وقت قيامه بواجباته , وهذا ما يقتل عنده صفة الخلق والإبداع وهنا تتعرض المصلحة العامة للضرر.
اعتقد أن تدارك الموقف في مجتمعنا الحالي , يحتاج إلى فهم للواقع عليه بمنهج العمل وفق نظرية تنسجم مع ذلك الواقع , واستنادا إليها تحتسب الأولويات وتحدد الأساسيات مثلا :
1- النظرة الأحادية للوجود , وحصر فلسفة التوحيد في مفاهيم الزمان والمكان والمادة والوعي باعتبارها مبادئ أولية نسبية مترابطة متصلة نهائية .
2- التأكيد على فلسفة العلم , والتثقيف بالمنطق الرياضي .
3- الاعتماد على نظرية معرفة , والاهتمام بالتعليم وربطه بتاريخ العلم .
4- التركيز على كيفية التفكير وليس الأفكار , والاهتمام بالمهم
5- فسح المجال لأساليب بحث جديدة تهدف للتطوير
6- وضع القيم الأخلاقية الاجتماعية في صياغة جمل كلامية قصيرة .
سنقع في إخفاقات كثيرة , وينثني البعض عن المواصلة ويتقبع آخرون , وكل ذلك لا يتيح لنا العذر عن ترك مواصلة العمل بتواضع كبير , وهمة عالية ونظرة متفائلة تجنبا للأسوأ .
وإنما الأخطاء المميتة تحدث مع الآراء ذات الزي العلمي والزركشة الرومانتيكية , ولكنها جوفاء خاوية لا تستند إلى ركن وثيق .
وكل الأفكار المعوقة ( تقريبا ) تبدأ مع أحكام معينة ثم تستغل من جانب موقف أحادي , وبسبب الغرابة وعنصر المفاجأة تسبب الدهشة والذهول إلى اجل مسمى ,
وكثيرا ما يحدث ذلك في مضمار العلوم الاجتماعية , لأن الأحكام فيها تتفاعل مع النوازع النفسية , أكثر من اعتمادها على النظرة الموضوعية , وكثيرا مازلت القدم في موضعين :
الأول : في النظرة الأنانية التي تعتمد التجربة الخاصة لتقديم حلول ارتجالية .
الثاني : تضبب الوعي الذي يحبك آراء شمولية ويطرح حلول تاريخية , من خلال التفريق بين منطق العلوم الاجتماعية وبين منطق العلوم التطبيقية .
يجب أن نتجنب الذوق المريض , ونرفض كل الصراع الحضاري , وندعو إلى تحديد المشتركات الإنسانية , ونقر كل ما هو غير ضار ولكنه ضروري للتفاؤل بالمستقبل .
وإذا كان هناك منظور من موقع متحيز تستل فيه فرضيات وتكبس في منطق خاص , لتجتر منها أحكام تخالف منطق العقل السوي , ثم تدعو ذوي المصلحة الخاصة لنصرتها وفقا لمبدأ المصالح المشتركة والأهداف الخاصة , تجاوزا فوق كل الحواجز الحضارية للمجتمع الإنساني , فأنه يجب أن يؤشر ذلك اللبس في التفكير الضال كجريمة أخلاقية , وأيضا ما يدعو إليه من خصخصة المصالح بأنه جريمة إنسانية , إذا عجزت عن مقاضاتها القوانين الجنائية , فلا تعجز عن هتكها المحاكمات المنطقية , شرط أن يجد المستنيرون الدعم الكامل من الضمير العام .
إننا ملزمون بالاعتذار من الجميع إذ نعد بالكثير ثم لا نقدم إلا الأقل , فأحيانا نسهو وننسى أو يجمح بنا الغضب أو ننكفئ من الخوف أو تعتصرنا الفاقة , فنقول ما لا نعتقد أو نخطيء في التعبير أو نسيء اختيار المثل .
ولكن لن نحيك حبائل الجهائل ولا نغرر بأباطيل الأضاليل ولا نعزف أوتار العواطف ولا نكذب لنكسب ولا ننتصر بقول الزور ولن نتنكر لتجارب الآخرين ولا نستهين بحق احد , فإنما سبيلنا المنطق وبضاعتنا المحبة .......
التعليقات (0)