بغض النظر عن طبيعة الأحزاب الحاكمة في الغرب، وأحزاب المعارضة التي تبذل كافة جهودها كي تصل إلى سدة الحكم، وبغض النظر عن طبيعة المجتمعات الغربية وثقافاتها وتوجهاتها وتطلعاتها وعلاقاتها بالآخرين والأخريات في هذا العالم، وبغض النظر أيضًا عن طبيعة العلاقات بين هذه المجتمعات الغربية في الماضي والحاضر، وطبيعة العلاقات بين هذه المجتمعات والمجتمعات العربية الإسلامية في شرق الدنيا وغربها، وبغض النظر عما يكتنف تلك المجتمعات من إيجابيات، وما يعتريها من سلبيات، إلا أن المراقب المتتبع لسير الحوادث والأحداث يستطيع أن يقول إن الغربيين بعامةٍ يستطيعون محاسبة حكامهم، ويستطيعون إعادة انتخابهم، أو خذلانهم، وانتخاب غيرهم لحكم البلاد بدلاً منهم، ويستطيعون محاسبتهم أيضًا وهم في قمة مجدهم وعظمتهم وتربعهم على كرسي الرئاسة، وإخضاعهم للتحقيقات، ولكافة ألوان المساءلة والمحاسبة، وقد يؤدي الأمر بهم إلى العزل والتنحية، وقد يؤدي الأمر إلى إجراء الانتخابات المبكرة التي قد يعودون معها إلى الحكم، وقد لا يعودون، وسيد الموقف في الأمرين كليهما هو صندوق الانتخاب، وصوت المواطن ورغبته، ولا شيء غير ذلك فيما أعرف ونعرف ويعرف الناس في شرق الدنيا وغربها.
في فرنسا ذهب ساركوزي بهدوء، وبدون صخب أو ضجيج، وجاء خصمه فرانسوا هولاند بدون صخبٍ أو ضجيجٍ أيضًا، فلماذا خذل الفرنسيون ساركوزي؟ وللإجابة عن هذا السؤال بدقةٍ يمكن القول إنهم خذلوه لأنه لم يفِ بالتزاماته تجاههم، ولم ينفذ شيئًا ذا بال من برنامجه الانتخابي الذي أتى به إلى حكم فرنسا قبل خمسة أعوام، ليس هذا فحسب، بل إن الفرنسيين الذين يحكمهم اليمين منذ سبعة عشر عامًا وجدوها فرصةً للتغيير إن هم أعادوا الاشتراكيين إلى الحكم في فرنسا، وهذا هو شأنهم الذي لا ينازعهم فيه منازع.
ذهب ساركوزي بهدوء، معترفًا بالهزيمة، ومباركًا للرئيس الفائز بهدوءٍ أيضًا، دون أدنى كلمةٍ جارحةٍ، ودون أدنى سبابٍ، أو شتيمةٍ، أو اتهامٍ، أو تهديدٍ، أو وعيد، ودون نقطة دمٍ واحدة، ودون اصطفاف، أو تظاهرٍ، أو اعتصامٍ، أو خيمة احتجاجٍ، ودون أن تصيب البلد أدنى هزةٍ على مقياس ريختر.. ذهب ساركوزي ليصبح مواطنًا فرنسيًّا عاديًّا كما كان.. ذهب لأنه لم يحقق للفرنسيين شيئًا ذا قيمةٍ على الصعيد الداخلي الفرنسي، ولم يحقق للفرنسيين شيئًا ذا قيمةٍ على الصعيد الاقتصادي، ولم يحقق للفرنسيين شيئًا ذا قيمةٍ على الصعيد الخارجي.. بل إن عكس ذلك هو الصحيح، فساركوزي سعى خلال سنوات حكمه الخمس لإشاعة الفوضى والاضطراب، بل والاقتتال والاحتراب في هذا البلد العربي أو ذاك، وفي هذه المنطقة من ديار المسلمين أو تلك، وساركوزي لم يفعل شيئًا ذا قيمةٍ إنصافًا للمستضعفين، وانتصارًا للمقهورين المضطهدين في هذا العالم، ولم يفعل شيئًا للملايين من اللاجئين والمهَجرين في فلسطين وغير فلسطين، بل حاول جاهدًا استحداث لاجئين جدد، وبناء مخيمات جديدة للاجئين جدد على الحدود السورية التركية، وحاول جاهدًا أن يعود لاحتلال سوريا من جديد مع أحلافه وأتباعه وأشياعه، ولكنه فشل في ذلك فشلاً ذريعًا أيضًا.. لم يتمكن ساركوزي أن يكون "غورو"، ولم يتمكن ساركوزي أن يعيد إلى الأذهان حكاية الجنرال ديغول وهو يصر على تحرير فرنسا من النازيين، ولم يتمكن ساركوزي أن يعيد إلى الأذهان تخلي فرنسا عن ضم الجزائر إليها بتوقيعها معاهدة "إميان" عام اثنين وستين من القرن الماضي، ولم يتمكن ساركوزي أيضًا أن يعيد إلى الأذهان شيئًا من سيرة نابليون بونابرت، ولم يتمكن أن يكون فيلسوفًا فرنسيًّا، أو أديبًا فرنسيًّا، أو شاعرًا فرنسيًّا، أو رجل حربٍ فرنسيًّا، أو رجل سلامٍ أيضًا، فلماذا يعيد الفرنسيون انتخابه من جديد؟.
صحيحٌ أن الذين يشبهون ساركوزي في الغرب كثرٌ، وصحيحٌ أن الشعوب في الغرب معنيةٌ أولاً بأزماتها الاقتصادية وأوضاعها الداخلية، وصحيحٌ أن كثيرًا من الأنظمة العربية بقضِّها وقضيضهاوأزلامها تقف إلى جانب تلك الأنظمة الغربية مهما فعلت، لارتباطها بها، وتبعيتها المطلقة لها، وصحيحٌ أن كثيرًا من هؤلاء العرب لا يكتفون بالتبعية للغرب، بل أصبحوا يفتخرون ويفاخرون بعلاقتهم الطبيعية الودية مع ربيبته وصنيعته على أرض العرب، ولئن كان هذا كله صحيحًا، وهو صحيح، فإنه قد يكون أكثر من محبط، وأكثر من مخيبٍ للآمال.. ولكن صحيحٌ أيضًا أن كثيرًا من شعوب الغرب باتت أكثر حرصًا على إشاعة العدل والعدالة في هذا العالم، وأن كثيرًا من الغربيين في تلك المجتمعات الغربية قد أصبحوا أكثر توازنًا واتزانًا، وأن ما حل بساركوزي سيحل بغيره، وأن الشعوب في الغرب قد باتت أكثر اهتمامًا بالقضايا الخارجية إلى جانب اهتمامها الشديد بقضاياها الداخلية، وصحيحٌ أيضًا أن كثيرًا من العرب يرفضون التبعية للغرب، وعدوانيته، وأنظمته المستبدة المتسلطة، وأنهم يرفضون أي شكلٍ من العلاقة أو التعاون مع ربيبته وصنيعته وحليفته، ومع من يقيمون مثل هذه العلاقة معها من الأعراب والأغراب، وإذا كان كل هذا صحيحًا أيضًا، وهو صحيح، فإن ما يحدث اليوم، وما سيحدث غدًا وبعد غدٍ سيكون في صالح الشعوب، وسيكون في صالح الأمم بغض النظر عن الجنس واللون والعرق والدين، وسيكون في صالح البشرية جمعاء بعيدًا عن التعنصر والعنصرية والاستعباد والاستبداد والاستغلال والاستغفال.. وإن ما سيحدث أيضًا بالتعاون والتنسيق بين عقلاء العالم وأخياره سيكون توجهًا نحو عالمٍ حرٍّ متحررٍ من القيود والعنصرية والفساد.. عالمٍ تعيش فيه الشعوب كلها بأمنٍ وأمانٍ وطمأنينة ووئامٍ واحترامٍ وسلام.
التعليقات (0)