mmshikh@hotmail.com
وقد كان حدثا نادرا في باريس عام 2005 عندما شاهد الفرنسيون آلاف الماسونيين يجوبون ساحة الجمهورية دفاعا عن العلمانية في مئوية القانون الشهير الصادر عام 1905، وفيه رفعت الكنيسة يدها عن السلطة. وبمسيرتها حاولت الماسونية، وبخاصة المحفل الشرقي الكبير، دق ناقوس الخطر علي ما اعتبره المتظاهرون تهديدات مصدرها فلسفات دينية أو محافظة قد تعيد شبح هيمنة الكنيسة.
ومؤخرا تعاظمت مخاوف الماسونية بسبب ما تعتبره "تغلغل الظواهر الدينية" في المجتمع، كما أن الإسلام بات يشكل هاجسا لديها.
لكن هذه التحول كشفت أيضا أن العلمانية لم تفلح يوما في الهيمنة التامة على فرنسا، فحتى الآن لا يطبق القانون الصادر عام 1905 في أقاليم الألزاس الحدودية، فهي ما زالت خاضعة لمعاهدة البابوية القاضية بالمحافظة علي القيم الدينية، ويطالب المحفل الشرقي الكبير بإلغاء هذه المعاهدة كونها لا تساعد على بسط الدولة قيمها على أرضها بإبعاد كل المرجعيات الدينية من الحياة العامة. وحرصا من الماسونيين الفرنسيين على ألا تتم صفقة تؤدي لإعادة النظر في شمولية التوجه العلماني لفرنسا طالبت شعاراتهم بالإبقاء علي قانون العلمانية إلى الأبد!
وقد جرت هذه المظاهرة عندما كان الرئيس الفرنسي ساركوزي وزيرا للداخلية واعتبر المحفل الشرقي الكبير دعوته آنذاك لتأليف لجنة لدراسة قانون 1905 "أمرا خطيرا جدا". وقد اعتبر كثيرون أن خروج الماسونيين للشارع اتجاه لفتح أبواب الماسونية بعدما ظلت موصدة وبعد عهود من السرية التامة.
وبين عامي 2005 و2009 تعمق التغير وخطت الماسونية خطوتها الكبيرة بعقد المحفل الأكبر للماسونية مؤتمره الأوسع علنا في العاصمة اليونانية تحت عنوان "عبر بناء أوروبا نبني العالم". وشارك فيه ممثلون من: فرنسا وإيطاليا وتركيا ودول أخرى كثيرة. أي أنه وبعد أكثر من ثلاثة قرون على إنشاء أول محفل ماسوني علني في بريطانيا، توصل الماسونيون إلى أن "المبالغة" في السرية تضرهم أكثر مما تنفعهم.
لكن المؤتمر كما هو متوقع شهدت جلسات مغلقة اقتصر حضورها على أصحاب الدرجات الماسونية وحدهم. وفي نهاية المؤتمر وصف رئيس الاتحاد الأوروبي جوزيه مانويل باروسو المؤتمرين، بأنهم: "العاملون لخدمة القيم الأوروبية". وهذه العبارة بالتحديد أثارت التساؤلات بشأن "عالمية" القيم التي تدعو إليها الماسونية، وما إذا كانت فعليا إعادة إنتاج لفكرة "المركزية الأوروبية"؟ ويبدو أن باروسو نسي أن الماسونية بحسب دعاتها "عالمية" وليست أوروبية.
ومن ملامح عودة الماسونية المواجهة "الباردة" التي يخوضونها ضد ساركوزي. وكانت التنظيمات الماسونية، فمنذ وصول ساركوزي للإيليزيه أبدت هذه التنظيمات وبخاصة "الشرق الأعظم" معارضة قوية للكثير من مواقفه وبخاصة دعوته لمراجعة مبدأ العلمانية، واندلعت حرب علنية بين الرئيس والماسونيين الذين استخدموا فيها نفوذهم الإعلامي الواسع، فمحفل "الشرق الأعظم" يتمتع بنفوذ سياسي كبير رغم أن أتباعه لا يشكلون سوى نسبة %9 من النخبة السياسية، لكن معظمهم يشغلون مناصب مرموقة في ميادين مؤثرة من القضاء للإعلام، مرورا بالصناعات العسكرية. والملفت أيضا أنها بعد أن بقيت دائما مرتبطة باليسار أصبحت تضم بعض أهم وجوه اليمين كوزير العمل الحالي المقرب من ساركوزي وأمين الحزب الحاكم وغيرهما.
والصراع بين المحافل الماسونية وساكوزي إعادة إنتاج لخلاف تاريخي في فرنسا إزاء علاقة الدين والدولة، وهناك ثلاثة اتجاهات إزاءه: اتجاه راديكالي يتبنى فهما استئصاليا للعلمانية يعتبر تصفية المضامين الدينية وإقصاء البنية التحتية للتدين في المجتمع، واستئصال الحضور الديني من الفضاء العام طريق التمكين للعلمانية. واتجاه توفيقي تسيطر الدولة بمقتضاه على المؤسسات الدينية وتوظفها. والاتجاه الثالث يقوم على الفصل بين الدولة والمؤسسات الدينية، ومع السماح للمؤسسات الدينية بحقها في التنظيم ودون حق السيطرة على المجتمع.
وقد كان الحدث الذي أدى لتبلور "اللائكية" هزيمة فرنسا أمام ألمانيا سنة1870 فبسبب هذه الهزيمة برز مفهومان: الأول يرجع سبب الهزيمة لنقص الوعي الديني للمواطن، والثاني: يرجع الهزيمة للحضور الديني في وعيه. ومع الجمهورية الثالثة (1940 1870) وجد المفهوم الثاني صدى أكبر ونضجت شروط خاصة سمحت بنزع صلاحيات الكنيسة الكاثوليكية. وحدث هذا عندما تقاطعت رؤى كل من اليسار وتيار ماسوني معادٍ للدين، وتيار يدعى "الفكر الحر"، فتبلورت الفكرة اللائكية. ومضت فرنسا باتجاه "الفصل". مع تذكر أن النصوص التي تكرس الفصل تم تعديلها 13 مرة.
وهكذا يجد ساركوزي نفسه أمام ميراث الجمهورية الفرنسية الثالثة وقد انبعث كالعنقاء من بين الرماد!
التعليقات (0)