سائق سيارة أجرة سعودي .. من مكة
أثناء إقامتي في السعودية لأداء مناسك العمرة ، أتيحت لي الفرصة أن أتجول في أكثر من مدينة ، وأن أختلط بالناس العاديين في الشارع ، خارج الأسواق ، خارج نطاق العمل داخل المدينة المزدحمة ، ثمة سعوديين على سوية عالية من الأخلاق ، تعلو على من هم داخل الأسواق من الباعة والتجار والعمال ومن يظن البعض أنهم من أصحاب المصالح التجارية الكبرى . وبالطبع ومن المؤكد أنهم يعطون انطباعا سيء جدا عن المواطن السعودي خصوصا والمواطن العربي عموما فضلا عن الإنسان المسلم .
كنت برفقة سائق سيارة أجرة سعودي عربي ، شاب أنيق جدا ، يلبس اللباس العربي ، الثوب الأبيض الناصع الأنيق ، ويضع على رأسه الشماغ الأحمر ( رينيه ) والعقال بصورة محكمة أنيقة ، السيارة معطرة من الداخل برائحة المسك ، وثمة شريط في المسجل يقرأ بصوت ماهر المعيقلي قارئ الحرم المكي الشهير ، وبدرجة حرارة تجعل من دخول السيارة من الشارع مفارقة كبيرة ، فدرجة الحرارة في مكة كانت لا تقل عن خمسين والله اعلم ، بينما درجة الحرارة في السيارة لا تجاوز العشرين.
الهدوء صفة من صفات السعوديين عامة حتى الشباب منهم ، الهدوء الايجابي وليس السلبي ، باحترام واحتراف كان يقود السيارة ليعبر نفقا طويلا لعله نفق ( اجياد ) لنعبر الى ضواحي المدينة حيث طلبت منه جولة في السيارة على غير ما ترتيب ، فرحب بكل أريحية ، ودونما إجهاد في الاتفاق على المبلغ الذي يريده لقاء هذه الخدمة التي ربما استمرت لأكثر من ساعة ونصف ..قال : ثلاث مئة ريال .. فقلن مائتان فقط .. فقال تفضل وهو يبتسم .
تجاذبت معه أطراف الحديث ، كان شابا مهذبا جامعيا أنهى مرحلة الدراسة الجامعية قبل ثلاث سنوات ، بتخصص لغة عربية ، ولم تتح له الفرصة للعمل بعد ، فآثر العمل على الجلوس في البيت والمقهى ، وشرب الشيشة كما يقول ، والإنسان ليس بما يعمل ولكن بما يحمل من فكر وعقل وبما في قلبه من دين وإيمان وبما يقدم لمجتمعه . ..
سألني من أين أنت : قلت له فلسطيني من الأردن ... فأخذه الحنين الى الأردن حيث زارها مع الأهل أكثر من مرة وذكر لي اربد وعجلون والبحر الميت وجرش ، وتغزل بالمناخ العجلوني الصيفي كثيرا ، وذكر الكثير عن اربد ومطاعمها الجميلة في شارع الجامعة ... وتحسر على فلسطين والفلسطينيين عموما ..
تمهل وغير مبدل السرعة ليعبر المطب ، وهو ينظر بالمرآة خلفه ، ثم غير مبدل السرعة دافعا إياه الى السرعة الأعلى وقال ..هل تعرف ( مطعم البيك ) .. قلت نعم ... فقلت ما رأيك أن ادعوك لتناول الغداء في هذا المطعم الشهير والذي يعتبر درة مطاعم مكة المكرمة ، ويعمل فيه ثلة من الأسيويين بالتزام ونشاط وبمهارة عالية تفوق الخيال ، تناولنا طعام الغداء ، جمبري ، ودجاج بروستد شهي ، على طريقة ( البيك ) . دفعت الحساب ، وقد نازعني ان يدفع هو ، فقلت له أنا الذي دعوتك .. فتبسم .. وقال ولكن ننحن المعازيب ... فقلت ليس بين الاجواد حساب .. وغادرنا ..
ثم قلت له : ألان حان موعد آذن العصر، فعليك بفندق الشهداء شارع اجياد ، وما أن نزلت ومددت يدي الى محفظتي لأدفع المبلغ الذي تم الاتفاق عليه قبل الجولة حتى بادرني .. خلي علينا .. هذا لعيون فلسطين وكل فلسطيني ..وانطلق دون أن ينتظر الجواب . وابتعد ولا زال صوت ماهر المعيقلي في أذني .
كانت تلك حادثة أثرت في كثيرا ، وساقتني الى الكتابة رغما عني ، وكم تمنيت لو احتفظت برقم هاتفه أو اسمه أو عنوانه ، ولكن كانت الجولة جولة سياحية ، لم أتخيل أن تتطور الى أن تكون بهذه النهاية المؤثرة ، اليوم وأنا في بيتي اكتب عن ذلك الشاب الأنيق الخلوق ، امتلئ فخرا بأنه عربي سعودي على هذا القدر من الأخلاق والسلوك الحضاري الذي يبعث على الاعتزاز والفخر .
تحية إليك أيها الشاب ، تحية لك وأنت تضرب المثل والقدوة في السلوك الحسن وتعطي انطباعا يدوم طويلا عن السعودية والسعوديين ، وان تغلي تلك الصورة النمطية البائسة في الأسواق لمن يوهمون الناس بأنهم سعوديين أو أنهم عرب .. تحية لك وأنت تتفوق على الكثير من أبناء جيلك بتجاوز عقدة الوظيفة الحكومية ، وتقفز فوق ما يسمى البطالة ، وتخدم نفسك والآخرين ، تحية لك ولأهلك الذين يرقون بكل تأكيد الى مستويات أعلى بكثير مما رأيت .
التعليقات (0)