ما من شيء أبتليت به مجتمعاتنا المسلمة اليوم بمثل التطرف بالأتجاهين . وأعني الغلو في الدين الى درجة تكفير جل الناس .أو تحميل الدين كل مآسي الدنيا والدعوة الى تركه في خزانة البيت والجامع ، أو تركه جملةً وتفصيلا .
من بين أصدقائي اللذين أعتبرهم أصدقاء "واللذين يعدون على الأصابع" ، هناك صديقي (؟ ؟) وهومسيحي أرمني عراقي . كنا نخرج ونأكل ونشرب ونقضي الساعات لما لا يقل عن ثلاثة او اربعة ايام في الأسبوع . وكنت أحد القلائل اللذين دعاهم لحضور مراسيم زواجه في كنيسة الأرمن في ساحة الطيران في بغداد . وأستمرينا على هذه العلاقة الطيبة الى أن قرر يوما ترك العراق في منتصف التسعينيات .
أستمريت أنا في زيارة والديه وأخوته بين الفينة والأخرى . وحاولت الأطمئنان عليهم وعيادتهم ومشاركتهم أحزانهم وأفراحهم ما أستطعت . وأهم ما أحرص عليه هو رد المعايدة في كل عيد من أعيادهم كما يحرصون هم على معايدتي وأهلي في كل عيد للمسلمين .
وليس صديقي هذا هو الوحيد من الأخوة المسيحيين اللذين أعرفهم . فهناك الكثير منهم من المعارف والجيران وزملاء العمل . وأيضا أحرص على تبادل التحايا معهم ومعايدتهم في أعيادهم ، ومواساتهم في أحزانهم .
ليست هذه المقدمة لأستعراض علاقاتي مع الأخوة المسيحيين ، ولست معنيا بتعريف أحد بعلاقاتي معهم . ولكن جميع هذه الأمور قد مرت في بالي وأنا أقرأ ما جاء في خطبة الجمعة الماضية للقرضاوي " صاحب دعوة الحوار الأسلامي المسيحي " في جامع عمر بن الخطاب في العاصمة القطرية الدوحة حيث قال .
" أن ما يجري من استعدادات للاحتفال بأعياد الميلاد في العواصم العربية والإسلامية "حرام وعيب ولا يليق"، واعتبر الاحتفالات دليلاً على غباء في تقليد الآخرين، وعلى جهل بما يوجبه الإسلام في هذه الظروف.
واعتبر القرضاوي أن الاحتفال بأعياد غير إسلامية معناه "أن الأمة تتنازل عن شخصيتها الإسلامية"، داعيا المسلمين للحرص على تميزهم في عاداتهم وتقاليدهم وأعيادهم .
وأحتج القرضاوي على دعلى ذلك بالقول "لماذا تظهروا الاحتفال بدين غير دينكم في الوقت الذي يجور فيه أتباع المسيحية علينا ويمنعوننا من بناء مآذن جميلة الصورة والمعمار في المساجد".
وراح القرضاوي يستعرض كيف أن المسلمين لا يحتفلون بأعيادهم في أوربا . ودخل في مسائل تأريخية وتفسيرية لبرهنة أن تواريخ الأعياد المسيحية ليست صحيحة وقال .
" ما زلنا قبل أسبوعين من موعد عيد الميلاد الذي اختلف المسيحيون في موعده هل هو يوم 25 ديسمبر أم يوم 7 يناير، مشيراً إلى أن مولد المسيح عليه السلام لم يكن في الشتاء. واستدل على ذلك بقول الله عز وجل: "وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا".
وتساءل: هل يوجد نخل في الشتاء يسقط رطبا؟
وقارن بين هرولة كثير من المسلمين للاحتفال بميلاد المسيح وتجاهلهم الاحتفال بمولد محمد (صلى الله عليه وسلم)، مشيراً إلى أن بعض بلاد المسلمين، ومنها قطر والسعودية، لا تحتفل بمولد محمد (صلى الله عليه وسلم) ويعتبرون الاحتفال بدعة . فكيف يسارع أهلها للاحتفال بالكريسماس .
في البداية والنهاية لأبن كثير وفي باب (ميلاد العبد الرسول عيسى بن مريم العذراء البتول) ورد مايلي : عن الحسن، والربيع بن أنس، وابن أسلم، وغيرهم، أنه ابنها، والصحيح الأول لقوله: { وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبا جَنِيّا } فذكر الطعام والشراب، ولهذا قال: { فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنا } ثم قيل: كان جذع النخلة يابسا، وقيل: كانت نخلة مثمرة، فالله أعلم.
ويحتمل أنها كانت نخلة، لكنها لم تكن مثمرة إذ ذاك، لأن ميلاده كان في زمن الشتاء، وليس ذاك وقت ثمر، وقد يفهم ذلك من قوله تعالى على سبيل الامتنان: { تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبا جَنِيّا } قال عمرو بن ميمون ليس شيء أجود للنفساء من التمر والرطب، ثم تلا هذه الآية . أنتهى .
فهل يعترض السيد القرضاوي على آراء هذا السلف فقط ليشكك بأعياد أخوة لنا في الوطن ؟. ثم ما ضيرنا نحن المسلمين بتوقيت العيد ما دام الأخوة المسيحيين قد أختاروا هذا اليوم كعيد لهم . من الواضح أن القرضاوي معترض على مبدأ المشاركة في فرحة العيد ، وانه سيعترض حتى لو كان العيد في يونيو او يوليو . فهو بدعة والسلام .
قال ابن اسحاق : ووفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد " نصارى نجران " بالمدينة، فحدثني محمدا بن جعفر بن الزبير، قال: لما قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلوا عليه مسجده بعد العصر، فحانت صلاتهم فقاموا يصلون في مسجده فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (دعوهم) فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم، وكانوا ستين راكبا .
ولا أعرف ماذا سيكون رأي السيد القرضاوي في حادثة مثل هذه ، ناهيك عن حوادث عيادته والكثير من الصحابة لمعارفهم من اليهود والنصارى في أمراضهم وأحزانهم واللتي تمتلأ بها كتب التاريخ والسيرة ؟؟؟ .
لنرى ماذا تقول كتب الدين والتراث عن مشاركة المسلمين لأخوتهم في الوطن في أعيادهم . ولأن السيد القرضاوي من مصر الكنانة قٌبل أن يتجنس بالجنسية القطرية فسأبدا بوصف المقريزي لأعياد المسيحيين في مصر قبل قرون من الآن .
قال المقريزى في كتابه (المواعظ والأعتبار في ذكر الخطب ووالآثار) : " كان الأقباط يوقدون المشاعل والشموع العديده ويزينون الكنائس , وكانت الشموع بألوان مختلفه وفى أشكال متباينة فمنها ما هو على شكل تمثال ومنها ما هو على شكل عمود أو قبة ومنها ما هو مزخرف أو محفور ولم يضيئوا الكنائس والمنازل بها فقط بل كانوا يعلقونها فى الأسواق وامام الحوانيت ( محلاتهم) , ومن الطريف أن الفاطميين كانوا يوزعون بهذه المناسبة المجيدة الحلاوه القاهرية والسميذ والزلابية والسمك المعروف بالبورى ".
وقال أيضا :" كان القبط يخرجون من الكنيسة فى مواكب رائعة ويذهبون إلى النيل حيث يسهر المسلمون معهم على ضفاف نهرهم الخالد , وفى ليلتى الغطاس والميلاد كانوا يسهرون حتى الفجر , وكان شاطئا النيل يسطعان بالآف الشموع الجميلة والمشاعل المزخرفة , وفى هذه الليلة كان الخلفاء يوزعون النارنج والليمون والقصب وسمك البورى " .
وفي الدر المنظم ورد أعتراض لأحدهم مماثل لأعتراض القرضاوي على مشاركة المسلمين لأخوانهم المسيحيين أعيادهم ، يبين أنتشار هذه الظاهرة في بلاد الأسلام منذ الاف السنين .
ففي كتاب الدر المنظم ، ذكر أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال الأنصاري القرطبي من جزء ألفه في هذه ظاهرة احتفال المسلمين بأعياد المسيحيين في أيام الدولة الأموية في الأندلس قائلا: «فإني رأيت الجمهور اللفيف، والعالم الكثيف من أهل عصرنا قد تواطئوا على إعظام شأن هذه البدع الثلاث " الميلاد، وينير، والمهرجان " وهو العنصرة، تواطؤا فاحشا، والتزموا الاحتفال لها، والاستعداد لدخولها التزاما قبيحا، فهم يرتقبون مواقيتها ويفرحون بمجيئها.. واستسهلوا هذه البدع حين ألفوها وعظموها، وصارت عندهم كالسنة المتبعة، وسكت العلماء عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيها، وتأنى السلطان في تغييرها...»
عجبا سيد قرضاوي .! مصر وباقي بلاد المسلمين تبتهج وتشعل الشموع وتعلق الزينة ويشارك مسلميها من الحكام والمواطنين أخوتهم منذ أن كان الأسلام والى الآن ولم تتحول دولنا الى المسيحية .
هل أنا مسيحي عندما أحمل علبة من الحلوى لأهديها الى صديقي أو جاري المسيحي بعيده وأنا أزوره . هل قلت أن الله ثالث ثلاثة أذا ما أبتسمت بوجه صاحبي المسيحي وقلت له عيد سعيد يا عزيزي . وما الضير أذا علقت الزينة في باب بيتي في يوم الكرسماس لأبين لجيراني المسلمين والمسيحيين أننا أخوة في الوطن لا يفرقنا الدين مادمنا نؤمن بأننا مواطنين في بلد واحد نشترك فيه بالحقوق والواجبات .
كم هي مرعبة ومقززة عبارات التحريض على عدم مشاركة الأخوة المسيحيين فرحتهم بالعيد ، واللتي تمتلأ بها صفحات التطرف والكراهية على الأنترنت . حتى أن حدود التطرف وصلت الى نقد منظمات يصفها البعض بالأسلامية المتطرفة مثل حماس فقط لأنها لاتشارك هؤلاء المتخلفين نظرتهم عن مشاركة الأخوة المسيحيين أعيادهم .
فقد كتب أحد هؤلاء منتقدا حركة حماس لمشاركتها في الأحتفال باعياد الأخوة المسيحيين في غزة قائلا : "المتعقب لحركة حماس وتصريحاتها ودستورها - إن كان ممن يفهم التوحيد - لا يشك ولا لحظة واحدة أن هذه الحركة ليست لها علاقة بالتوحيد ولا بالإسلام ، وإنما هي حركة وطنية ديمقراطية تلبس قناع الإسلام وتتمسح بالدين . وبسبب حق المواطنة المقدس عند حركة حماس والتي تذوب في بوتقته كل الفروق وينسجم معه كل مختلف والتي تبرر لأجله كل المخالفات العقدية والشرعية ، ضربوا عقيدة الولاء والبراء في الإسلام عرض الحائط فاتحدوا مع النصارى داخل الأرض الفلسطينية وشاركوهم بأحزانهم وأعيادهم واعتبروهم أخوة لا فرق بينهم وبين أي مسلم واعتبروا مقدساتهم هي أيضاً مقدسات لهم " .
ألا يرى السيد القرضاوي بأنه وأمثاله من علماء التطرف والكراهية من اللذين تركوا الدعاء بالحكمة والموعظة الحسنة بأنه السبب في أيصال الشباب المسلم الى تكفير حتى حركة حماس . والى أي مدى في التطرف سيأخذنا السيد القرضاوي وأمثاله في عالم أصبحت حقوق الأنسان فيه مقدسة عند كل البشر وليس فقط عند المسلمين .
ألا تدعم مثل هذه الفتاوى أعداء الأسلام في آرائهم ليحتجوا بها علينا بأعتبارها الأسلام كله . بينما الأسلام منها بريء برائة الذئب من دم أبن يعقوب ؟ .
عندما أفتى أحد شيوخ الوهابية الكبار بتكفير المسيحيين واليهود والكثير من المسلمين في الستينيات رد عليه شيخ الازهر جاد الحق علي جاد في جريدة الجزيرة السعودية قائلا(ان الاسلام يحرص ان يكون اسا س علاقاته مع الاديان الاخرى والشعوب الاخرى السلام العام والود والتعاون لأن الانسان عموما في نظر الاسلام مخلوق عزيز كرمه اللة وفضله على كثير من خلقه يدل على هذا قول الله تعالى (وقد كرمنا بني آدم ) وايضا(ان اكرمكم عند الله اتقاكم) يقول شيخ الازهر الاسبق اصبح واجبا على المسلمين ان يقيموا علاقات المودة مع غيرهم من اتباع الديانات الاخرى.
واسرع الشيخ الوهابي فأرسل ردا صاعقا محتجا به على شيخ الازهر قال فيه .
لقد كدرني كثيرا ما تضمنته هذه الجمل من المعاني المخالفة للآيات القرآنية والاحاديث النبوية ورايت من النصح لسماحتكم التنبيه على ذلك . "ان الله اوجب على المؤمنين بغض الكفار ومعاداتهم وعدم مودتهم وموالاتهم" .
هكذا كان علماء مصر يحاربون فكر التطرف منذ ثلاثة عقود ولازال الكثير منهم على ذلك . فكيف تحول جزء مهم منهم اليوم الى هذا الحد من التطرف .
ربما يكون حال مصر في معاناتها من حال التطرف الأعمى أقل بكثير من باقي بلاد المسلمين . وربما تكون هذه الردة عن الأفكار الأسلامية المتسامحة اللتي كانت تتسم بها كتب المسلمين وسيرهم قبل الهجمة الصليبية "وليس المسيحية" سببها هذه الهجمة المستمرة منذ ستة او سبعة قرون والى الآن . ألا أن الأخوة المسيحيين المواطنين في بلادنا لايجب أن يحسبوا بأي حال من الأحوال على الغرب وأهله . فمن هاجم بلادنا وقتل أبنائنا وأستحيى نسائنا هم الأوربيين والأمريكان . وليس أخوتنا من المسيحيين اللذين يعيش معظمهم قبل معظمنا على هذه الأرض اللتي نتشارك بها معهم واللتي نسميها بلاد الأسلام .
لا أعلم لماذا علي أن أشعل البغضاء بيني وبين زملائي وجيراني من المسيحيين وغيرهم بأسم دين الرحمة والمودة ، الأسلام . وبأي منطق تمنطق القرضاوي وغيره ليمنعني من تهنئة أخوة لي في الوطن بعيدهم .
لم أكن يوما مؤمنا بالمسيحية ، ولم يؤمن صاحبي المسيحي يوما بالأسلام ، ولكني لم أجد في ديني ما يوحي بحرمة صداقتي وأهل الكتاب ، ولم يفتي معظم علماء المسلمين اليوم بمثل هذه الفتاوى اللتي لن تضر أحدا مثل ضررها للأسلام وأهله . لذلك فأني سأهنيء كل من أعرفه من المسيحيين بعيدهم وسأزورهم لأقدم لهم الزهور والحلوى وأنا مطمأن بأني مسلم يرضى عني الله ورسوله لفعلي هذا ولو كره القرضاوي وصحبه .
خطبة القرضاوي كما جائت في صحيفة العرب القطرية
http://www.alarab.com.qa/details.php?docId=109364&issueNo=723&secId=16
كلام الشيخ جاد الحق والرد عليه
http://www.fatwa1.com/1/?p=485
حماس: علاقتنا بالإخوة المسيحيين غير قابلة للضرب ورد المتطرفين
www.islamonline.net/servlet/Satellite
www.aljazeeratalk.net/forum/showthread.php
القرضاوي وحوار الأديان
www.qaradawi.net/site/topics/article.asp
التعليقات (0)