بعد إصرار وإلحاح شديدين مني من أجل تنوير مدونتي بقليل من اسهماتها ، قبلا أخيرا كل من المجوهرتي الحاذق و الجوهرة أن يغدقا علينا قليلا من رواية "القرابين" ، ولأننا أردنا لهذه المدونة التنوع و كذلك خلق جو جديد من الأمل بعيدا عن السياسة و السياسيين وبعيدا عن الطغاة وجرائمهم .
و إليكم إخواني القراء هذا القربان الغالي أو الكنز الثمين من الفصل "سأفشي لك سرا !" لنتنفس قليلا من الأدب الراقي ...
" سأفشي لك سرا ...! "
لم يكن الشّيخ سليمان وحده من يتحسّر على عدم قدرته إخبار العائلة بذلك السرّ. فحتى الجدّ إدريس. حزين لأنّه يخفي سرّا لا يمكن إفشاؤه لأحد. توجّه إلى أحد المدارس القرآنية المهجورة و هو يحمل معه جرّة صغيرة مملوءة بالماء كي يقوم بتنظيفها. كان يحلو له أن يفعل ذلك من حين لآخر. احتراما و عرفانا بجميل أولئك الرّجال الذين كان لهم الفضل في نشر الإسلام في المنطقة و كذا الحفاظ عليه.
مسك بيدّه قطعة صوف و بلّلها بالماء ، وبعدها شرع في مسح الغبار عن قطع الخزف الزّرقاء. فكشف الماء عن زخارفها البديعة و بانت عبارات التّوحيد المنسابة بالخطّ العربي ممّا يدفع عن الزّائر تهمة الشّرك. أحسّ الشّيخ بالتّعب، فاتّكأ إلى الجدار جالسا على الحصير. جال ببصره و قد أخذه سحر ألوان الخزف الأزرق ، لكن الأمر لم يدم طويلا. لأنه رأى شيئا ما من معدن أصفر و قد أسند إلى الجدار.
لم يكن يحتاج إلى تدقيق النّظر فيه ، فاندفع و قد غادره التّعب فجأة. مرّر يدّه على المعدن الأصفر المدثّر بقطعة قماش خضراء. فوجده شيئا ما يشبه صورة إنسان . فاعتقد في الوهلة الأولى بأنّه قناع نحاسي وضعه أحد قطاع الطّرق هناك ريثما يعود لأخذه. رفع قطعة القماش فوجده التّمثال الذي جلبه أيوب إلى المنطقة موهما النّاس بأنّه هبل. و بالفعل وجد ميزاته تماما كما صوّره له النّحاس. لقد كان خاوي من الدّاخل مما جعل الشّيخ يصدّق بأنّ حفيده لازال على قيد الحياة. فلابد أن أحد ما عثر عليه فخلّصه من القالب النّحاسي و ترك هذا الأخير في المكان كي يجده النّاس.
عاد الجدّ إدريس إلى بيته و هو يحمل على عاتقه التّمثال. و تبعه الأطفال و الكبار وهم مستغربون ممّا يرون. و كذلك كان موقف العائلة فالجدّة حليمة راحت تصرخ في وجهه مطالبة منه إخراج الشّرك من البيت. همس العجوز في أذن ابنه طالبا إيّاه أن يحضر التّماثيل الخمسة المهملة ببيت عابري السّبيل. و وقع الابن في إغراء الأب الذي وعده بإفشاء سرّ مهمّ قد يغيّر حياته كاملة.
بقيت التّماثيل الصّغيرة في المنزل يتوسّطها كبيرها الذي لازالت الحناء تكسو شعره الأسود. فبان كأنّه مرغ في الطّين. و كان الشّيخ كلّما خرج يودّع كبيرها بقبلة على الجبين. و كلّما دخل فعل نفس الشّيء. و أحيانا أخرى يفتح جوفه و يشمه طويلا علّه يعثر على رائحة حفيده. لم يكن أحد يعلم سبب ما يفعله بل اعتقدوا بأنّ الوثنية قد لعبت برأسه لعبة الكفر. لكن الشّيخ لم يكفر بل لازال يقرأ كتاب الله و يقوم الفجر. و يقرّ بوحدانية الله . لم يعرف أحد سرّ ما يفعل العجوز. لم يعلموا بأنّه لا يشمّ رائحة الوثنية ، بل يشمّ رائحة حفيده الذي حمله القالب في جوفه. لم يكن يقبّل جبين التّمثال بل كان يختبر قدرته في إيصال القبلة إلى جبين حفيده الذي بات بعيدا عنه. و بمجرّد أن يخرج الجدّ إدريس للصّلاة في الجامع، تقوم الجدّة حليمة إلى التّمثال و تتفل عليه. لكنّها لا تشفي غليلها فتأخذ الحذاء لتنهال عليه ضربا. أشارت على وردية كي تساعدها في نقل الإله المزعوم و رميه بعيدا. رفضت الكنة بحجّة عدم إغضاب الشّيخ. أو ربّما امتنعت عن ذلك لسبب لم تدرك كنهه.
غضبت الجدّة حليمة من جواب وردية، فانصرفت لشحذ الفأس. لقد قرّرت أن تنهال عليه لتحطّمه و بذلك ستنهي آثار الوثنية و تطهّر بيتها من الضّلالة. كلّ هذا قوى من عزيمة المرأة لولا أن الشّيخ عاد من الجامع بعد الصّلاة. و كأنّما حدس ما تفكّر به الجدّة حليمة. أشارت كنّته بإصبعها بقلق كبير رافق نظراتها. و كذلك أدرك القلق الجدّ لمّا رأى الجدّة قد شحذت الفأس و اتّجهت إلى التّماثيل كي تحطّمها. أوقفها الجدّ مخبئا التّماثيل وراء ظهره. و بما أنّه أصبح الحاجز بين المرأة و بين هدفها الأوّل، اضطرت المرأة إلى وضع الفأس، إذ ليس من الأدب مطلقا أن ترفعه إلحاحا و الشّيخ هو الذي أصبح مكان الهدف. نبّهها العجوز إلى عدم تكرار ما أقدمت عليه، لكن من دون أن يفسّر لها السّبب. و مهما قدّم لها الأسباب فلن تقتنع، إلاّ إذا قال لها بأنّ ذلك الذي تعتقده وثنا ليس سوى قالب نحاسي صنعه النّحاس الفلسطيني كي يعيد بداخله حفيدهم إليه. امتلأت عيون الجدّ بالدّموع و هو يحدّث نفسه :
- أه، لو أنّك تعرفين ما أعرف ، لقبّلت رأس هذا التمثال مثلما أقبّله ، و لو عرفت لقضيت كلّ وقتك و أنت تشمّين في جوفه رائحة أثواب صبينا.
أخذ الجدّ إدريس اللّوحة المزركشة، التي زخرفها العمّ عبد الرّحيم. مرّر يدّيه عليها يمسح منها غبار لا يرى بالعين المجرّدة. و لم يكن ذلك الغبار طبيعيّا لأنّ الشّيخ اعتاد أن يمسح اللّوحة بعناية و لا يترك الغبار يعلوها. ما على اللّوحة غبار حزن العالق على خطوط الزّخرفة. لم يبق في اللّوحة ما يطمئن العجوز سوى آيتين من سورة الشّمس " قد أفلح من زكّٰها ﴿9﴾ و قد خاب من دسّٰها ﴿10﴾ ".
وضع الجدّ اللّوحة جانبا ثمّ ابتسم لأنّه على علم أنّه ليس ممّن يأكلون الزّكاة. ثم فتح المصحف الشّريف و أخذ يجوّد بصوته الشّجي سورة يوسف. يحبّ العجوز هذه السّورة لأنّه يجد فيها ما يخفف عنه حزنه و يفتح له أبواب الأمل على مصراعيه.
يجول صوت الشّيخ في أرجاء البيت، و كانت الجدّة حليمة و وردية تصغيّان و هما في المطبخ. انشغلت كلّ واحدة منهما بعملها. وصل الشّيخ إلى الآية السّادسة و ثلاثون فجوّدها بصوت أخاذ بدا تأثيره أقوى من السّابق.. " و دخل معه السّجن فتيٰن قال أحدهما إني أرٰيني أعصر خمرا و قال الآخر إني أرٰيني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطّير منه نبئنا من تاويله إنّا نرٰيك من المحسنين﴿ 36﴾ "
سكت العجوز فجأة عن التجوّيد فقطع عن المرأتين لذّة الإنصات. قامت وردية قاصدة الشّيخ لتعرف سبب سكوته. أطلّت عليه من وراء ألواح الباب فرأته يبكي كطفل صغير. مسح دمعه لما أحسّ بها تراقبه و تشاركه في الحزن و البكاء. سمعها تبكي بصمت فناداها يطلب منها الدّخول. دخلت فلم تسأله عن سبب بكاءه، إنّها تعرفه جيّدا لأنّها لم تنس.
أراد الشّيخ أن يخفي عنها سبب بكائه و يحوّل ذهنها إلى زاوية أخرى. فأخبرها بأنّ بكاؤه يعود إلى كونه يضعف حين قراءة تلك السّورة. و برّر ذلك بالأمر الطّبيعي ما دامت أحسن القصص.
مدّت المرأة يدّها إلى لوحة ابنها فحدّقت فيها من دون أن تركّز عليها. ثمّ مسحت دمعها و قالت للشّيخ و كأنّها أرادت أن تنبئه بأنّها على علم بسبب حزنه. لم تكذّب ما قاله، لكنّها لم تصدّقه أيضا، و كشفت عن ذلك بطريقة لبقة مؤدّبة :
- مازلت أتذكّر يوم احتفلنا بظهور أسنان علي و وضعنا القصعة على رأسه فأتت الطّيور تحوم حولها فصرخت أيها الشيخ مطاردا إيّاها.
طفا الدّمع على عيني الشّيخ ، و أراد أن يصرف نظر كنّته عن ماء الشّجن. فابتسم يطمئنها بعد عن عرف بأنّه لم ينجح في إخفاء سبب بكائه. طلب منها أن تضع كلّ ثقتها في الله، و لتتأكّد بأنّه سيعيد الصّبي إليهم صغيرا أو كبيرا. أوصاها أن تتأكدّي بأنّ مصيره لن يكون كمصير سجين عزيز مصر، و سوف لن يموت حفيده كما مات السّجين الذي حمل قصعة تأكل الطير منها. ابتسم العجوز ابتسامة مخضرمة ما بين اليأس و الأمل و هو يؤكد لكنته بأن الطير لن تأكل من رأس حفيده لأنه ببساطة قد طرد تلك الطيور عنه منذ كان رضيعا. أصاب التّعب و المرض بعد أيّام الجدّ إدريس. فلزم الفراش و المرض و اليأس يلزمانه. حدقّ في وجه عبد السّلام، بطريقة تنمّ عن التّفكير في شيء ما. يجهش بالبكاء من حين لآخر. لأنّه أراد أن يخلّص نفسه من سرّ أرهقه كثيرا. جلست ورديّة بجانبه فطلب منها أن تسامحه. قبّله على جبينه يطلب العفو. فأجابته أنه لم يخطئ في حقها يوما كي يطالبها بالسماح . لقد كان طيّبا معها دائما. عبرت وردية عن أمنيتها في أن يتعافى من مرضه. و شرعت تفتح له أبواب الرجاء لعودة حفيده، و سيقومون بوليمة عندما يختم حفظ القرآن الكريم.
لم يتمكّن الجدّ من النّظر فيها. و أدار بوجهه إلى الحائط يبكي كالطّفل. بكت معه وردية. و أخبره عبد السّلام بأنّه إن حدث و أن رزقه الله بولد، سيسميه علي. التفت إليه بعيون نافست المرجان في لونه. أشار عليه ألا يفعل، فبذلك يكون قد يئس من رحمة الله . لأن حفيده سيعود إليهم يوما ما، أو على الأقل سيأتي أولاده إلى هذا البيت، و سيبحثون فيه عن رائحة عباءة الأجداد. و سيفرغون جرّة الأساطير قائلين :" هذه التي كان أجدادنا يسلّون بها الأطفال !".
انصرفت وردية إلى شؤون البيت. و بقيّ عبد السلام مع والده يخبره بسرّ كان قد أخفاه عنه. بعد أيّام قليلة علا لون الموت جسد الشّيخ. مسك بيدّ كنّته يطلب منها مسامحته. لكنّها لم تكن تدري سبب إلحاحه على ذلك. راحت تهدّئه لكن الموت لا يهدأ. تراخت عضلات يدّه و لم تسمع منه سوى الشّهادة.
مات الجدّ إدريس من دون أن يتمكّن من رؤية حفيده. رحل تاركا السرّ أمانة في عنق ابنه. أراد أن يتركه عند من هم أولى به. حزن الجميع لموت الجدّ. و رافق حزنهم رحيل علي، الذي لم يعرفوا إذا ما سيكون رحيل أبدي أم لا.
........يتبع
التعليقات (0)