الجزء الثاني ................
و كذلك يكاد يكون حزن علي في الغربة حزنا قاتلا. يربط مجدّدا حزمة الحطب و يدلي الدّلو في البئر، ثمّ يجلس على الحزمة باكيا، و قد تذكّر صديقه إبراهيم . و بينما هو كذلك سمع شيئا ما يصدر حفيف أوراق الشّجر. أطلّ معتقدا بأنّ القطّ قد عاد مرّة أخرى، لكنّه تفاجأ حين رأى شاب واقفا يراقبه، و هو يرتدي طربوشا قديما. هرول إليه مناديا إيّاه بإبراهيم. لم يرد عليه فدنى منه فوجده يحمل حزمة من الحطب. استأنس إلى ذلك الغريب، الذي لم يكن غريبا بالنّسبة إليه إلاّ في عدم معرفة اسمه. إنّه يلبس مثله و يحتطب مثله. سأل علي الرّجل عمّن يكون. فأخبره بأنّه تونسي يدعى حسين، قدم إلى فرنسا بحثا عن العمل. قفز علي يعانقه و اعتقد الرّجل بأنّه يعرفه من قبل، و أنّ كلّ ما في الأمر أنّه نسيّه.
بأنّه حتّى هو أضحى غريبا. و كلّ ما سبق و أن كان مألوفا أصبح غريبا، بما في ذلك السّماء و زقزقة العصافير و لون الغروب.
لاحظ حسين ندابات على وجه الصّغير و عيناه محمرّتان. سأله عن السّبب فأجهش بالبكاء، و هو يخبره بأنّ فرنسية يسكن عندها أرادت أن تعلّق له الصّليب. و أن تنزع عنه ثيّابه الأصلي. جلس حسين على وتد شجرة لم يبق من صورتها سوى الأغصان الميّتة. طأطأ رأسه يفكّر، أو ربّما خجل لعدم امتلاكه حلاّ لمشكلة الصّبي. قطع علي عليه التّفكير حين قام يتعلّق بأطراف جلابيته و يقبّل الأرض من تحت رجليه باكيا :
- أنا متأكّد بأنّك لن تدع العائلة النّصرانية لتخرجني من ديني. خذني إلى لبنان فهنالك أناسا أحببتهم و أحبوني. أو خذني إلى بلدك ففيه لن أشعر بالغربة لأنّكم أهلنا. خذني لأواصل التعلّم في جامع الزّيتونة.
أخبر علي صديقه الجديد بقصّته مع تمثال هبل. فاستغرب حسين من إصرار الصّبي للعودة إلى أهله. و همّ هو عائدا بحزمة الحطب و علي يسير خلفه طالبا منه التّفكير في حلّ مشكلته. لم يرد عليه حسين بما يطمئن قلبه، ففهم بأنّ الرّجل ليس على استعداد كي يجعله مطلبه من بين أولويّاته. وصل علي إلى مفترق الطّرق فأشار بيدّه يدلّ رفيقه على البيت الذي يسكن فيه. انصرف الطّفل و حزمة الحطب أثقلت خطاه بشكل ملحوظ. أو ربّما هو الذي أراد التّأخر في العودة إلى البيت. فهو ليس بحاجة إلى الإسراع إلى بيت لن يجده فيه عائلته تنتظره بأيدي على الصّدور. اشتبكت أصابع حسين على صدره يزيده ضيقا على ضيق. كان الألم يجتاحه من شدّة حزنه على الصّبي، فأخذ الأمر مأخذ الجدّ. لقد اتّفق مع نفسه على طريق ينقذه بها ممّا هو عليه. أوقد النّار و بقي يترّقب لحظات سقوط الجمر. و كان علي لا يترّقب أي شيء، لم يعد يترّقب طلوع الصّباح، لأنّ ذلك يعني الشّقاء في المنجم و لم يعد يترقّب مجيء المساء، لأنّ ذلك يعني حزمة من الحطب و دلو من الماء...
يحدث أحيانا أن يترقّب علي لحظة ما، و هي اللّحظة الوحيدة التي لا يغفل عنها، و هي لحظة يخلو إلى تجويد ما حفظ من القرآن و ذلك خوفا على نفسه من النّسيان. أتى المساء فهرول علي لجلب الحطب، و هو يندفع بسرعة. و لم تفهم كاترين سبب ذلك. وصل إلى المكان كالمعتاد، لكنّه لم يحتطب و لم يرم بالدّلو في البئر كالمعتاد. جلس ينتظر و بمجرّد أن اتّكأ على الوتد أحسّ بيدّ حسين تحطّ على طربوشه. قام بسرعة يسأله عن الحلّ.
لم يجبه الرّجل بل انصرف يحتطب، ربط حزمة كبيرة لو وضعت كحاجز أمام الخيل لمّا تمكّنت من القفز عليها. ثمّ ملأ الدّلو و لطّخ شيئا من التّراب و مرغ فيه علي بقوة. بدأ الصّبي يبكي، و يصرخ من دون أن يأتي أحد لمساعدته. توقّف الرّجل فجأة ثمّ أجلس الصّبي في حجره و هو يمسح الدّم الذي سال منه بسبب بعض النّباتات الشّوكية.
طأطأ علي رأسه و قد حلّ محلّ الثّقة الحذر، و حلّ محلّ الطّمأنينة الخوف. شرح له حسين سبب فعلته. فابتسم الطّفل و سرعان ما تحوّلت الابتسامة إلى فرحة فقدت السّيطرة على الضّحك. لم يحمل علي الحزمة و لا الدّلو كالمعتاد. إذ تولى حسين حملهما. و سار مع علي حتّى وصل إلى المنزل الذي يسكن فيه فنادى على أهله. خرجت كاترين فوجدت حزمة كبيرة من الحطب و علي ملطّخ بالتّراب، و عليه بعض الخدوش الدّالة على أنّه سقط بحمولته. أعجبت المرأة بقدرة حسين، فاتّفقت أن تجعله خادما في بيتها. أوهمها بأنّه من الصّعب قبول أمر كهذا.
استدار حسين إلى علي و صفعه صفعة أسقطته على الأرض، بكى الصّبي فعلا من شدّة الألم. و راح يصرخ في وجه رفيقه. و لم يتوان في الهجوم عليه دفاعا عن نفسه فعظّه من يدّه. عاتبه الرّجل على كونه كسول لا يحبّ خدمة العائلة التي آوته. كان كلّ ذلك أمام كاترين التي ازدادت إصرارا على طلبها.
لم يبد حسين أيّ تحمّس للأمر، و اكتفى بوعده أنّه سيفكّر في المسألة. غادر و علي يرشقه بالحجارة، و هو يصرخ في وجهه ألاّ يأتي إلى ذلك البيت.
أتى حسين بعد أيّام يخبر كاترين بقبول طلبها، فرحت المرأة بينما أجهش علي بالبكاء بمجرّد أن رآه. لم يكن أحدهما يحدّث الآخر و قد استمروا أيّاما على تلك الحال.
و ها هي كاترين تزيّنت و خرجت رفقة زوجها للسّهر خارج البيت. و بمجرّد أن غادرا حتّى ألقى علي بنفسه يتسلّق على أكتاف صديقه، الذي حضنه كأنّه عائد من بلاد بعيدة.
إذن كان خصامهما مجرّد تمثيلية. أخرج حسين المصحف الشّريف من تحت سريره فبدأ يعلّم الصّغير التّجويد. و قد استمر على تلك الحال عدّة أيّام. و لكن بمجرّد أن تعود المرأة إلى بيتها يتظاهر حسين بضرب علي. و كأنّ بينهما عداوة قديمة كعداوة الضّحية و الجلاّد. و إذا خلا لهما الجوّ اجتمعا و سار حسين معلّما و عليّ طالبه.مرّت شّهور، و لم يتغيّر وضعهما شأنهما شأن العمّال، الذين راحوا يحفرون تحت الأرض بحثا عن النّحاس. و قضى غيرهم عمره بحثا عن الحديد. دون أن يعلم أحد فيما سيستعمل ذلك الكمّ الهائل من المعادن، التي تكفي لبناء مدينة بأكملها.انتهت معاناة العمّال تحت الأرض، لتبدأ فوقها. حيث سيق الكثير منهم إلى ورشات يقومون فيها برفع الأثقال. و كنس الفضلات النّاتجة عن تصدّأ المعادن، و قد كانت تلك مهمّة الأطفال الذين كان من بينهم علي. لم يعلم أحد ما هي التُحف التي سيقام بصنعها، إلاّ أنّهم على علم بأنّها أفكار عصرت جماجم المؤرّخين و كبار الفنّانين .
تناس النّاس أو نسوا الحديث عن المجازر التي ترتكبها فرنسا في مستعمراتها. فأصبح المشروع الجديد هو الهوس الذي أصابهم.
و في الأخير أشكر جيجيكة ابراهيمي و زوجها اللذان تفضلا علينا بهذه الروائع رغم أنها لا تكفي لتشفي غليلنا و عطشنا من الأدب الراقي و لكن سنكون قنوعين و لو قليلا إلى اليوم الذي ستنشر هذه الرواية و كل أعمالها المدهشة .و لا أنسى أن أشكر أيضا كل القراء و المعلقين الأفاضل و التي تنورت بهم مدونتي...
التعليقات (0)