عبد الوهاب الملوّح
ملمح عن مجمل التجربة : "سأغيّر من عاداتي و تلك أحواليعبد الوهاب الملوّح
ملمح عن مجمل التجربة : "سأغيّر من عاداتي و تلك أحوالي"
تقديم
عبد الوهاب الملوّح أصيل جهة قفصة وهو من الشعراء القلائل الذّين آلوا على أنفسهم أن يحيوا حياتهم الشعريّة منغمسين في إحياء تجاربهم و تنويعها عبر سلاسل إصداراتهم.
أصدر الشاعر أربعة دواوين شعريّة
1)رقاع العزلة الأخيرة
صدر سنة 1995 نشر خاص ضمّنّه عشرين قصيدة و قد وسمه بعتبة لازمة لكامل قصائده " نص الغواية في زمن المحو " توزّعت على 110 صفحة .
مثّلت مجموعة رقاع العزلة الأخيرة أوّل خطوة في تجربة الشاعر كانت مكتنزة عدّة مواضيع تتعلّق أساسا بالأنا الشاعرة المغتربة توزّع فيها الخطاب بين شعريّة التفعيلة و قصيدة النثر مثّلت ملمحا أساسيّا نستشف من خلاله قناعة الشاعر منذ البدء في تنويع مسالك الكلم إذ كان يراوح بين الوزنيّة النمطيّة و بين تجنيحات النثر .
جملة المواضيع نلمسها من خلال العناوين (غربة _ غجريّ_ صعلوك _تحوّلات_ ضيق.....)
مهمل كمساء شتائيّ / و تمضي/تؤسّس مملكة للجنون/و تجتاح أزمنة /ذات عشق بدائيّ/مالذّي قلت / متّهم بالقضّية و الاغنيه.....(ص33)
2 ) : أنا هكذا دائما
صدرت هذه المجموعة عن دارالإتحاف للنشر كتبت نصوصها بين 1995
و 2000 و طلعت غلى الناس سنة 2000 وهي مجموعة مفكّر فيها جيّدا ذلك أنّ شاعرنا صدّرها ببيان شعريّ كان موسوما ب"الإقامة على الأرض شعريّا" ممّا يشيئ بنضح واضح في تبنّي شروط الكتابة الشعريّة ذات مقصديّة حداثيّة بيّنة تجد تناصها مّما أثّثه الشاعر الألماني" هلدرين"
ومن حياته المجنونة بالشعر.
1
و لقد برهن الملوّح عن هذه النزعة من خلال فعل التجاوز الحاف عبر إنشائيّة المتن فلا سلطة على النصّ غير سلطة الكلمة .
منذ العتبة الأولى تراءى لنا عبد الوهاب منخرطا رسميّا في فعل التشظّي فعل الوجود العيني داخل بوتقة الحياة الشعريّة إنطلاقا من تعريفه الضمني لذاته الحيّة المحترقة و من خلال العنونة تجمهرت على السطح جملة من التساؤلات تجاه الكينونة الكاتبة " أنا هكذا دائما" فمن هو هذا الكائن المحدِّث عن نفسه المعلن عن خوالجه ؟ أليس هو الشاعر كتعريف جمعي يختزل الشخصيّة القلقة لينسحب على كافة الشعراء و المبدعين .
تضمّن الديوان 10 قصائد ترواحت أيضا بين قصائد التفعيلة و بين شذارات من قصائد الومضيّة المنضوية تحت سياقات الوزنيّة غير أن مجملها كان على غاية من التحكيك مدفوعة في آتساقيّة المبنى و آنسجاميّة المعنى تتوزّع في نسيجها تعبيرات شتّى تنهل من ثقافة واسعة تحتفي بالوجود و تتبنى أسئلة حرجة تجاه البعد الحضاري القضوي و تحتفل بشتات الأمكنة الحيّة نستشفّ منها فعل الحياة المحكي المترسّب في نبضيّة الحزن الآخذة في التصاعد في تناول للإستعارة المركبّة من ثنائيّة الملفوظات تناولا شفافا لا يبعد المتتبّع عن المعنى المقصد إلاّ أنّه في كثير من الأحيان ما تصنع المراوغة فُجئيّة الأخذ بها لتُجنّح في آفاق أخرى علّها المكتشف المستقبلي لشعريّة تُطبخ على مهل ستأتي مراسمها عبر زمنيّة الإنتظار تدفع بالقارئ إلى نصّ المتاهة.
إنّ رغبة الشاعر الحرّى في المسك بنواحي الكتابة جرّته إلى طرح أسئلتها من خلال قصيدة رغبات نورد منها مقطعا يشهد على حالة التأهب للذهاب بعيدا عن النمطيّة الأولى للدخول إلى عالم المغامرة و التجاوز منحرفا عن كثير من المتقاعسين الذّين بقوا على بعد من الهاوية ، هاوية الإحتراق في بوتقة الشعر ،الشعر الذّي لا يرضى و الّذي لا يقنع و الذّي سنراه في بقيّة أعماله القادمة في جدليّة دائمة بين الرّضى و الرّفض نورده لنكشف ستائر مسرحة الطريق الوعرة التي وعى بها الشاعر إذ يقول "نحتاج ما نحتاجه/ماءا لأزمنة الشعر/قمرا لآخر لحظة في العمر/فجرا للبقاء دقيقة أخرى على قيد الكلام /و شرفة تتبرّد الأحزان فيها ساعة عند السحر.(ص27)
2
"أنا هكذا دائما" هو تلك الدفقة السّاحرة المتجلببة بآستعارات شفافة تلقائيّة تنوّعت فيها معجميّة القول بين التأثّر بالتيّار الرومنطيقي و نوايا الخروج عنه بالذّهاب رأسا إلى منابع الحياة المحرّضة على تأسيس بصمة أخرى خصوصيّة تنطبع قائمة قائلة ذات الشاعر الحقيقيّة تقول عمق الأصالة اللاّحق ورائها الملوّح بإصرار المغامر و تؤدة النمل .
3)سعادة مشبوهة
صدر سنة 2003عن الوكالة المتوسطيّة للصحافة ضمّ قصيدة مطوّلة إمتدّت على 60 صفحة . مثّلت هذه المجموعة المفصل الذّي يصل بدايات تجربة الرّجل بلواحقها حيث آرتأى المنشئُ أن يكون الكتابُ في قصيدة واحدة.
سمة ٌ أخرى في عدم تكرار نفسه و تدلالٌ على شغف المغامرة و التجريب فمنذ العتبة الأولى بدت الحيرة في آئتلاف و آختلاف التركيب في آن من خلال آستعارتها القائمة على ثنائيّة المنعوت و النعت إذ كيف يمكن أن نعثر على وجه التشابه بين السعادة و الشبهة و كيف سنربط بين المعنى على حقيقته و المعنى على المجاز بتقصي البحث عن مواضع الإتفاق فلا يدلّ
في النهاية إلاّ على عنت الحيرة الدائمة في تشويف منفرج ينفتح على عديد الإحتمالات كبداية في التجريب و الحفر بضمّ متناقضات شتّى داخل إطار
و احدٍ ذلك ما جعل الكلام يدور على بعضه البعض سعادة مبتورة تتقصى عوالم مجهولة لتفتح مجراها بجرأة الشّاك متدافعا بين مدّ الدّفق الشعوري الحدسي في رؤى شاسعة و بين قيديّة الأوزان و الحلقات و قد نلحظ ذلك بيسر عند محايثته تفعيلات العروض من المتقارب إلى الكامل و من البسيط إلى الخبب وعيا منه في تكسير جرسيتها عبر توزيعيّة السواد على البياض أوّلا و عبر تدوريّة الكلمات دون قافية محدّدة ثانيا حتّى لكأننا نخال أنفسنا أمام مقاطع سرديّة ترواح بين فعل الحكي و فعل الإنشاء الإستعاري في علقات التواشج و التأويل بين التراكيب نهجا آخرا في خلق مويسقى داخلّية مفضوحة في آن نستشف ذلك بين ضروب الجناس المتنوعة بين المقاطع و الصّواتم إرادة منه في التوغّل نحو لغة حاضنة لا يتقطّع حبلها في القصّ لتبلغ جدواها في الإبلاغ التلميحي تستند إلى لغة مجاورة عبر مجازات مرسلة تقترب من نبضيّة الحياة و لغة أخرى لازمة توقف سرعة السيلان ليبقى الكائن مشدودا إلى وترين واحد يحيل على الإفصاح و الآخر يحيل على التكتم.
3
يقول "الآن سأكتفي بما قلتهِ لي ساعة آلتقينا عند خروبة ذاك العزاء / مساء علّمتنا قبّراتٌ مهاجرة معنى ان يجهش الحلم فينا بالشّجن المؤتلق ....هل تذكرين/ شجر الآكاسيا يذكر /سمك السلمون يذكر /الشّارع الذّي قام من تعب النهار يحيينا يذكر /أنا أذكر و أنت هل تذكرين /سأكتفي بدمعة طاولة كنت تركت على اديم وقتها بعض دمي بل كلّه ليحتسيه الأصدقاء من بعدي .ص(14_15).
"سعادة مشبوهة" نص منفصل متصّل في آن . مفارقة محرجة تجعل القارئ وجها لوجه أما م خياراته التأويليّة ليبرز في النهاية مدى تكتّم الشاعر في الإفصاح عن جلّ المواضيع في سيرة الكائن الحاملة معها حرج الفكر
و غموض الجمال ، وجها لوجه أمام تخلّقات علقات المعاني عبر متواترات الأحرف ضدّا بضدّ مبادرة بالأسئلة ثمّ تركها مفتوحة ، تساؤلات تكتنف سيرة الأنا الجمع في مغامراته الوجوديّة مع المرأة القصيدة و مع القصيدة المرأة مع المحبين و المُجّان في النهاية مع عالم ميّت حيّ داخل الذاكرة المثقوبة فسواسية لديه الأسماء المنشئُ يحي و يميت في رمزيّة هي أشبه برمزيّة "بودلار" في آرتداداته إلى الجوهر الجماليّ الكامن في الحياة أو بحلميّة " رامبو" في تقصّيه للأمكنة و إضاءتها بغلالته الشعريّة الشفافة غير أنّ الملوّح كثير ما قصم ظهر هذه الرّمزيّة عبر تداولّيّة غير مألوفة يقول" حبيباتي مساء الخير يا أيّتها الذّكرى البعيدة / مساء الخير يا نبضة قلبي العنيدهْ /هكذا يبدو سعيدا يتخفّى في العراء يسكن النسيان / أو يلتقط السّلوان كا الطاووس / إذ يبتكر المجد باثقال خطاه.(ص41)
أليس الشعر فعلَ آنزياح بآمتياز وآلتفافا و تكرارا بين المحاور . يبدّد الشاعر المسمّى الأّول بمسمّى آخر و هكذا دواليك لكي يستقيم المتن موافقا لحالة الشّعور لتنبت على السّطح رمزيّات أخرى تتوالد من حمّى التركيب و حرارة الدّفق.
غير أن ما ينفض الغبار عن كلّ هذا الغموض هو تلك القراءة الجسورة التّي تتعاضد مع مقروئيّة الشّاعر في إعادة ترتيب الأشياء و جعل المتعالقات مرايا أخرى تتناوب اللّغة في إحياء أنفاسها و تتواثب المفردات متقافزة عبر النسيج و السّداة . كلمات تأخذ برقاب كلمات أخرى لتضيئَ ما أمكن من سيرة التّائه
و تدخلنا سعادته المشبوهة . سعادة وهميّة تُحرّضنا على تتبّع فلقات الضّوء المنتشرة هنا و هناك .
4
سعادة فعل الحكي أمام مرآة مشروخة لذات متوثّبة دائما إلى الامام تزرغ الألغام و تترك الأرض على حالها لنقع أخيرا على آنفجارات مدويّة أمام غرابة الكشف.
يحثه في ذلك ما آستقرّ في قيعانه الفكريّة من إنماء وشائج القربى بينه و بين القصيدة و بينه و بين العالم و بينه و بين الحلم.
أمّا عن آخر دواوينه فنخصّه يقراءة متأنيّة نفصّل فيها القول في السجلاّت المبسوطة على سطح المتن عبر نوافذ نقديّة كان لزاما علينا أن نحضرها للبرهنة و الإستشهاد حتّى نبرز مقدرة الرّجل في تجشّم حالة الإستنفار القصوى أمام دواعي الكتابة كهدم لمقولة الأجناس و حياة الفنّان في إرادة النفاذ إلى جواهر الأشياء في مردوديّة متنامية توسّع من دائرة النهل و تؤطّر حالة الشعور الكامنة في الذّات الكاتبة ضمن ديوانه " الغائب"
4)الغائب
صدر سنة 2008 تضمّن قصيدة مطوّلة إمتدت أيضا على 60 صفحة .
إنّ أوّلَ ما يشدّ الإنتباه في هذا الدّيوان هو وسم الشاعر له ب"نص" فقط فلا هو شعر و لاهو نثر من أيّ جنس لا بالقصّة و لا بالأقصوصة حسبه ان يظلّ نصا مفتوحا لا يطبعه شيء مفتوحا على جميع الإحتمالات بعيدا عن التجنيس و التقعيد. و إذ نستشفّ ذلك نقف على وعي الشاعر بهتك الحدود بين الاجناس أوّلا و بأنّ الشعريّة يمكن ان نقبض عليها في الشكل المنظوم كما في الأشكال النثريّة . هذا إضافة ما تلوّح به صورة الغلاف من دلالات عدّة عبر مشهد لآخرة اللّيل في مدينة ما و للمرأة في الممرّ ذاهبة إلى بؤرة النّور نحو طريق مرصّعة بأحجار بدت كالأقمار في آنعكاس الضّوء. فاللّوحة المدخل كثيرا ما تبرز جوانب مهمّة في تأوليّة المتن ذلك انّ الرّسم هو صنو الكتابة أيضا مكتنف للصورة و مقرّب للرّؤيا.
أمّا عن التصدير فقد جاء في مقولة للج.م لوكليزيو الفرنسي الحائز على جائزة نوبل للاداب لسنة 2008 إذ يقول " المسألة في الكتابة مسألة إيقاع"
ومن هذا المنطلق نبدأ بآستشعار الطرّيق التّي آرتآها الشاعر عبر تنويعيّة الإيقاعات داخل بنيته النثريّة .
5
4)أ_في الإيقاع
لقد نحى الشاعر في إيقاعه تواترات عدّة أنشأت بنية النصّ النثري ساهمت في تعزيز المقروئيّة الحرّة بعيدا عن المحاسبة فلم يلتزم بشيء ترك الأمر للمخيّلة في آسترجاع الذّكرى و ترداد الأصداء إذ " لا شيءَ من المخيّلة الإراديّة للمتمرّسين في الكتابة لا ثيمات لا تطوّرات أو منهج على العكس ثمّة فقط المخيّلة التّي تتشكّل من العجز على الإمتثال" (1) .يبرز من خلال هذه الحريّة في التناول اللّغوي أنّها حسمت الموقف بشأن الإختيار . النصّ نصّ نثريّ بآمتياز و إن حاول صاحبهُ أن يتّكئَ على التقفية في بعض الأحايين يقول "أُلغي إسمي/ و أمشي في اللّغو / ثملا ادخلُ إسمكِ/أُمجدّهُ بالهذيان
و كثيرا من الغبطةِ / ليسَ الصمتُ سبيلا للنسيان" (ص 11 )
وإن حاول أيضا أن يجعل الكلام وفقَ نظام السّطر كما في شعريّة التفعيلة فالحصيلة واحدة و إن قرّبَ الأجراس بعضها ببعض لخلق ما يسمّى بالموسيقى الدّاخليّة عبر أواخر الكلم و أواسطهِ " يتقطّر متقطّعا" ص11)
فحتّى و إن توسّلها فإنّه لا ينثني عن كسرها مستمرّا في منحى لا يستقرّ على حال و إنّ " فهمنا للإيقاع على أنّه ظاهرة موزنة في تكرارها و تشابهها حكم مسبق يظلّ دائما إدراك حقيقة الإيقاع الحاملة لمعنى التعدّد و الكثافة و الثراء وإعادة إنتاج المعنى الذّي هو حصيلة غير متكرّرة لخطابات إنسانيّة متفرّقة مختلفة في منابتها الثّقافيّة و في سياقاتها الإجتماعيّة التداوليّة " (2)
لذلك يضحي الإيقاع نظاما لا ينضج أبدا في مستوى التقنين الجاهز المتداول
و لايدرك ذاته على أنّه نظام فكلّ إيقاع توقيع كما أشار إلى ذلك الأستاذ محمد الهادي الطرابلسي و ليسَ كلّ توقيع إيقاعا و الأوزان العروضيّة تغدو بذلك فروعا متولّدة عن طاقة إيقاعيّة فالإيقاع بهذا المعنى حركة غير محدودة حياة لا تنتهي .بهذا آندرجت كتابة الملّوح في هذا الديوان الملجمة عبر قصيدة طويلة في كتابة حضور الغائب فإنّه" فقط عندما تتوّحد الرّوح بالفكر في تأمّلات شاردة بفضل ذلك نحصل على وحدة التخييل إنّه في هكذا إتّحاد نملك ان نعيش من جديد ماضينا و نتخيّل أن كينونتنا الماضية نفسها تعيش ثانية " (3) فعبر هذه النغميات المخصوصة تمظهرت على السطح المعاني وفق إنتاج العلامة اللّغويّة متلبّسة بـتأولية تمسخ دلالتها الأولى للوقوع في شرك دلالات ثانية و ثالثة و رابعة غير منتهية مع كلّ سيرة قرائيّة تريد أن تنبش في أعماق النصّ بانية مشروعيتها في التحليق مع الشاعر إلى آفاقه الشاسعة أليس الإيقاع في أصوله الأولى الصورة على النحو الذّي شرحه
" بينفيست" في درسه اللّساني البنيوي .
6
4)_ب: تركيب الصّورة الشعريّة
إنطلاقا ممّا أورده الجاحظ في كتابه الحيوان " إنّ الشعر صناعة و ضرب من الصّبغ و جنس من التصوير " كان التصوير في الغائب قائما على آستعارتين الأولى آتكأَ على التراكيب الثنائيّة كان منبتها المجاز و الثانية قامت على الإستعارة الموسّعة الحاضنة للتجربة الإنسانيّة في الحياة تتراءى عبر لغة مجاورة حافلة بالتماس مع دوائر عدّة كانت هي موضوعات النصّ أو هي معقوفات الذّات المنضوية في رحم الأحلام.يقول الشاعر"عبر أفنية المجاز الماكر يتوالى ظهور أسراب اللّقالق /تعد الظّلال أجنحة غيوم تهتدي في ظلال الرّيح إلى منابع مسرّاتها لتهطلَ شرودا رحيما" (ص24) و يقولُ "ولنا في العتمة عربدة المجازات" (ص24).
إنّ صياغة الصورة ملتبسة بشيئين اساسين هما تفكير الشّاعر في كيفيّة نحت نصّه وهو ما يجعل نصّه نصّا واصفا يتكلّم عن نفسه إذ كيف تكون الكتابة حكّاءة عن نفسها و بنفسها تستعير كلمات النقد (مجاز _كلمات _لغة _احذف..) جداولها لتنفذ إلى تقوّلاتها المصطلحيّة في بناية إطارها الحاضن للرّؤيا رؤيا الذّات عبر تواشجات اللّغة و خلقها من جديد و عبر مرآة الحياة
و ثانيا هو تفكير في الذّات الأنا حول مواضيع ملتصقة بالهموم القضويّة بآلتزمات الفنان لما يراه عبر شاشة العين في نبرات هي أشبه بالصّرخات داخل الحياة الحيّة المنسابة بين أعطاف الزّمن.
هي شعريّة الدّاخل و الخارج ، شعريّة الدّاخل أو هي شعريّة ماوراء الكشف ميتافيزيقا الشكل و المضمون معا يحاو رفي اللّغة و باللّغة ذاته المنكسرة يقول" المجاز آحتمال وحيد للبقاء على قيد الرّيح" (ص32) .
المجاز إذا بتنويعاته الشتّى في البلاغة العربيّة القديمة يُجدّد نفسه و بنفسه لتينع بلاغة أخرى من الإبانة الحيّة يرتّب بها الشّاعر أكوانه بالكوس
و الفرجار يرسم أوّلا توطئته المفتوحة على مجرّات أخرى يستقي منها الإيقاع الحيّ عبرَ تصاعديّة الأخذ و النهلِ من انفاس الحياة ليرسم طريق الشعر طريق الحياة يقول"هكذا قالَ لي متسوّلٌ خبيرٌ /هل أنت جديدٌ في المهنة /قلت بشيءٍ من التذمّر .لا/و لكنّني ما زلتُ أحبو الطريق.../
"فلا تحتفلُ الصّورة بالقائمِ الجاهز و لا يهمّها المعنى الموجود المنتهي و إنّما هي بحث لاهث وراء الممستتر و اللا منكشف و اللا معقول الذّي يندسُّ في تخوم هشّة المحدود هي رحلة مسالك التيه و الغربة " (4) فالإستعارة الواسعة المفتوحة قد فسحت الرؤية للعين على مفارقات شتّى تأخذ بأسبابها المتشابهة عبر تداوليّة اللّغة متجاورة تمتح من اليوميّ ألفاظها.
7
إذ يقول أيضا"السّفر على متن باص شعبيّ أشبه بسعال متقطّعٍ/للباص مواعيد وصول ثابتة " ثمّ يتبعها بتجنيح مجازي لازم "المتاهة حيلة الإثم لآنتهاكِ البياض المملّح بالكساد و تقاعس العناصر" (ص13) .
ضمن هذا السياق يتضّح جليّا هاجس التجريب إذ يقول في لازمة تكرّرت بين ثنايا المتن"سأغيّر من عاداتي و تلك أحوالي " ويقول"أحتاج رائحة صوتكِ دليلا إليكِ /احتاج لغة الرّيحِ سبيلا إلى ما ضاع منّي فيك" بذلك إذن يتّحد الشعر في الشعر معرّفا و منغّما أجراسه كشدو رخيم يلتفّ على بعضه البعض ليقول العالم و يعيد تشكيل الأشياء "يطمح إلى ان يؤسّس لغة التساؤل و التغيير ذلك انّ مهمة الشاعر الثوريّ إنّما هي تفجير نظام اللّغة و الثقافة
و القيم السّائدة و تغييره" (5) معنى ذلك "انّ اللّغة تتجاوز حدود التوصيل حدود التوصيل إلى الـإتّحاد بالوجود لتصبح بالنفي قوّة فاعلة تهدم الواقع
و تعيد بناء المفاهيم " (6) تستقي القصائد متنوّعة ماسكة بخيطها الناظم داخل الدّيوان عبر مجريات الوقائع و الأحوال فهيَ" ليست إفصاحا عن الذّات
و إنمّا مستمرّ منها و الفنان يزداد تكاملا كلّما آزداد آنفصالا في نفسه بين الإنسان الذّي يتألم و الفكر الذّي يبدع" (7) إذ يقول صاحبنا "نحن بداية المفترقات و لا معنى نتخذّه مأوى عند كلّ مفترق" " لهذه الفوضى بلاغة الطّين أون التشكيل
و كبرياء العصيان"
و قد لا نبالغ إذا قلنا أنّه في مستوى المضامين يتضّح بجلاء تقلّص الحنين إلى الماضي و تضخّم نزعة التمرّد و التحدّي حيث آرتأى الشّاعر نبريّة الشّاك في كلّ شيء فلا آستقرار و لا طمأنينة الذّهاب إلى المجهول هو الحلّ و إن دسّ تفاصيل الحياة فما هيّ إلاّ قوادح للإتيان بالمعنى من أغواره السّحيقة محاولة منه في إتاحة الإطلالة على مداراته المرعبة فالقصيدة المعاصرة تسعى فيما تسعى إليه إلى شدّنا إلى اوتارها المشدودة بين الحريّة و التذكّر فهي إن آستعرنا عبارة رولان بارط" حرّية تتذكّر" فعلى العكس من لاعب الشّطرنج يخلق الفنّان قواعده بنفسه و لنفسه فحين يرتجلُ يكون إذا أكثر حريّة أكثر ممّا يكون عندما يبتكرُ منظومة قواعدهِ الخاصّة .فشعريّة الملّوح في هذا الدّيوان أقامت مناطق آتصّال غير معلنة مع مجموعة من المعاني و أدوات التعبير حواملها متعدّدة و على شيء من غموضه تدرك المسافة الفاصلة بين اللّفظ
و المعنى .
8
نصّ مفتوح ينهل من تعبيرات الفنون جميعها من الموسيقى و من المسرح
و الرّسم و المنولوج و من الموروث الخطابي تشكيلات أثرت جسد المتن.
إذ يقول " قال أبو إسحاق : اليد من أطراف الأصابع إلى الكفّ هي أنثى محذوفة اللاّم" و يقول " أنا الغائب أسماؤكم أقنعتي المتعدّدة لا رائحة لالون لي و بكم ظمأٌ لي أنا الغائب بينكم قابل لجميع التأويلات " (ص49)
فتعدّدت طرائق التصوير في نسيجه لإشاعة الإئتلاف بين كلّ المكوّنات داخيّة كانت تعلن خلائطها اللّغويّة أو خارجيّة تدعك ضوء الرّؤيا من نثار التفاصيل اليوميّة و طاقات الحلم الخامة الرّاسية في الذّهن أو من علقات التفكير في العالم و الإنسان .
4)ج بين المنشئ و قارئه
إنّ أثر الملوّح الأخير أنبأ بشعريّة الإختراق و التجاوز " فكلّ خلاّق غامض بالنسبة إلى معظم معاصريه و بهذا يمكن أن نسمّي المعاصرة حجابا بين الخلاّقين و القرّاء" (8). فخلخلة المفاهيم هي الدّهشة و المفاجئة و الخروج بمستوى التلقّي عن المحتمل و المتوقّع تستوجب المشاركة الفعالة لقارئ لا يتوانى في رصد أصداف الكلمات وهيّ تشعّ بين السطور و تشريكه في التخليق لمحاصرة لحظات الكشف يمثل فيها الشاعر في حضرة النصّ فالجمهور الّذّي آعتاد على التلقين لن يجد متعة في متابعة الرّحلة يريد الشّاعر جمهورا لم يُروّض بع لكي يرى معه أو يفترسه و لا ادلّ من قولة حازم القرطاجنّي عن غربة الشاعر إذ يقول " كثير من أنذال العالم و ما أكثرهم يعتقد أنّ الشعر نقص و سفاهة " لذلك على القارئ اليوم ان يكشف الّلسعات الشعريّة فحسب الشعر أن يوحيّ " ينظم لا ليفهم و لكنّ لتأثّر به القارئ من غير فهم " فقصيدة النثر اليوم كما أشار إليها واحد من كبارها ألا وهو شارلز سيمك أشبه بكلب يتكلّم فضمن هذا السياق لا ينفكّ المملّوح أن يربط آصرة القربي بشيء من الحميميّة لكيّ يستدعيَ قارئه إليه دون تعسّف بائن إذ يقول "قلت:كن بسيطا تزّوج الحياة و دعنا لشأننا / قلنا ما نشغله في آنتظار أن نصنع نحن النهايات / فاسد هذا المعنى " (23).
يقول العظيم درويش " إن قصيدة المستقبل هي موطن الرّفض لذا يتحتّم علينا أن نكفّ عن قول لشاعر أن يمسي واضحا و فهم القصيدة يعني أن نرهف السّمع إليها أن نحياها إنّها منفتحة على القابليّات كافة ".
9
خاتمة
لقد مثّل ديوان الغائب قدرة فائقة على الإغارة على أراض أنواع أدبيّة كثيرة و زهوا بالمنطقة العمياء من الذّاكرة الجوّابة تلك هي من سمة قصيدة النثر كخلق أدبي خالص فهي الطّفل الوحش لإستراتجيتين متنافرتين السّرد
و الغنائيّة مولّدة للدّهشة و منبئة عن مسارات في المجهول.
غير أنّ الملوّح دائم التجراب عير نصوصه الآتيه مازال تلك الشعلة الآخذة في الصّعود عبر نصوص مخصوصة تحتفي بالقريب الحيّ متجاوزة نبراتها الضيّقة من المجازات الإستعاريّة للإحتفاء أكثر بالحياة كيف تتدفّق في الأنساق .
الإحالات:
1_ هنري ميشونيك :_مجلّة الكرمل ص:125 89/89 صيف 2006
2_هنري ميشونيك: نقد الإيقاع ص 225 ذكرته بوراس في ص 22
3_ غاستون بشلار :(شعلة بشلار) بيار بوديه ص15
4_ حمادي صموّد :من تجلّيات الخطاب الأدبي قضايا نظريّة ص: 123
5_ فتحي النصري : السرديّ في الشعر العربي المعاصر_فشعريّ القصيدة السرديّة ص89
6_لمياء خليفي باشا: مجلّة الحياة الثقافيّة العدد 193 ماي 2008 ص 78
7_ت_س_إليوت : التراث و الموهبة الفرديّة
8_أدونيس: من كتاب لحمادي صمود : من تجليات الخطاب الأدبي قضايا نظريّة ص 113
الدواوين
رقاع العزلة : 1995
أنا هكذا دائما 2000
سعادة مشبوهة2003
الغائب 2008
"
التعليقات (0)