مواضيع اليوم

زيارة لبيت بدر شاكر السياب

حسن توفيق

2010-03-24 00:40:26

0

 هكذا التقيت مع زوجته وابنتيه

                زيارة لبيت بدر شاكر السياب في البصرة  

                                                                                          بقلم : حسن توفيق

حين أكملت المرحلة الثانوية،‮ ‬كنت قد أكملت‮ - ‬عن ظهر قلب‮ - ‬حفظ قصائد الشاعر الرقيق الدكتور ابراهيم ناجي،‮ ‬المبثوثة في‮ ‬ثنايا دواوينه الثلاثة‮ »‬وراء الغمام‮« - ‬1934،‮ »‬ليالي‮ ‬القاهرة‮« - ٠٥٩١‬،‮ »‬الطائر الجريح‮« - ٧٥٩١ ‬وكنت أحس أن قصائده بمثابة كنز مخبوء في‮ ‬صدري‮. ‬وأدركت‮ - ‬فيما بعد‮ - ‬أني‮ ‬تعلقت بشعر ناجي،‮ ‬لأني‮ - ‬وفقا لتفسير الدكتور محمد مندور‮ - ‬واحد من الشباب المحرومين من متع الحياة،‮ ‬على الرغم من تفتح وعيهم عليها،‮ ‬ولذا‮ ‬يلاقي‮ ‬شعر ناجي‮ ‬المترقرق باللهفة والعطش الروحي‮ ‬استجابة في‮ ‬نفوسهم الظمأى‮.‬
وحين كبرت‮.. ‬وانطلقت إلى الجامعة‮.. ‬كبر معي‮ ‬حبي‮ ‬لناجي،‮ ‬لكن شاعرين كبيرين من رواد حركة الشعر الحر في‮ ‬وطننا العربي‮ ‬أخذا‮ ‬يزاحمانه في‮ ‬قلبي‮ ‬مزاحمة شديدة‮.‬
أولهما‮: ‬بدر شاكر السياب‮ - ‬من العراق،‮ ‬وثانيهما‮: ‬صلاح عبدالصبور‮ - ‬من مصر‮.‬
وأتذكر أني‮ ‬كنت أقلب صفحات مجلة‮ »‬الآداب‮« ‬البيروتية،‮ ‬بحثا عن قصائد منشورة لكليهما أو لأي‮ ‬منهما،‮ ‬فإذا وجدت كنت أشتري‮ ‬المجلة وإلا فلا‮!.‬
لم ألتق بناجي‮ ‬خلال حياته بالطبع،‮ ‬وان كان أبي‮ ‬يؤكد لي‮ ‬أنه قد عالجني‮ ‬في‮ ‬عيادته بحي‮ ‬شبرا ذات مرة،‮ ‬وأن ناجي‮ ‬لم‮ ‬يتقاض منه أجرا،‮ ‬لأنه كان‮ ‬يعالج أبناء الفقراء بالمجان في‮ ‬أغلب الأحيان‮.. ‬كما أن أستاذي‮ ‬الشاعر د‮. ‬كمال نشأت كان‮ ‬يسعدني‮ ‬كثيرا عندما كان‮ ‬يحدثني‮ ‬عن لقاءاته العديدة بناجي‮.‬
أما السياب‮.. ‬فإني‮ ‬كنت أحلم بأن‮ ‬يزور مصر،‮ ‬لكي‮ ‬يقدر لي‮ ‬أن ألقاه،‮ ‬لأن فكرة السفر إلى العراق للقياه كانت أمنية عسيرة المنال،‮ ‬وقد اكتشفت‮ - ‬فيما بعد‮ - ‬أن السياب نفسه كان‮ ‬يحلم بزيارة مصر،‮ ‬لكي‮ ‬يلتقي‮ ‬بأدبائها وشعرائها،‮ ‬مثلما قدر له أن‮ ‬يلتقي‮ ‬بأدباء لبنان خلال فترة مرضه،‮ ‬وهذا ما‮ ‬يتضح في‮ ‬بعض رسائله التي‮ ‬نشرت بعد رحيله‮. ‬وكنت‮ - ‬إمعانا في‮ ‬تأكيد تعلقي‮ ‬به‮ - ‬أسجل اسمه هو في‮ ‬كشوف المترددين على دار الكتب المصرية عندما أرتادها،‮ ‬وأذكر أني‮ ‬زرت الشاعر هلال ناجي‮ (‬وكان مقيما بالقاهرة في‮ ‬الستينيات‮) ‬لكي‮ ‬يزودني‮ ‬بما‮ ‬يعرفه عن السياب،‮ ‬فوجئت بقوله‮: ‬لماذا لا تذهب للسياب نفسه،‮ ‬خاصة أنه موجود في‮ ‬القاهرة،‮ ‬بدليل أنه‮ ‬يسجل اسمه في‮ ‬كشوف المترددين على دار الكتب التي‮ ‬اطلعت عليها بنفسي؟‮!.‬
في‮ ‬الرابع والعشرين من ديسمبر عام‮ ‬1964‮ ‬رحل السياب عن عالمنا بعد صراع مضن وطويل مع المرض الذي‮ ‬افترسه،‮ ‬وأقعده مشلولا في‮ ‬أخريات أيامه‮.. ‬رحل دون أن‮ ‬يتحقق حلمي‮ ‬بلقياه‮. ‬لكن القدر الذي‮ ‬حرمني‮ ‬من لقيا السياب ومن قبله ناجي،‮ ‬شاء أن‮ ‬يسعدني،‮ ‬لأني‮ ‬تعرفت بصلاح عبدالصبور منذ أن كنت طالبا بالجامعة،‮ ‬وتعلقت به إنسانا مثلما تعلقت به شاعرا،‮ ‬وعملت معه سكرتيرا ثم مديرا لمكتبه في‮ ‬الهيئة العامة للكتاب بمصر منذ أن تخرجت،‮ ‬ومنذ أن قيل لي‮ ‬إن صلاح عبدالصبور قد رحل عن دنيانا في‮ ‬الثالث عشر من أغسطس عام‮ ‬1981،‮ ‬وأنا أرفض هذا الذي‮ ‬قيل،‮ ‬مكذبا كل القائلين،‮ ‬لأني‮ ‬أحس بأن‮ ‬غيابه الجسدي‮ ‬لا‮ ‬يشكل لي‮ ‬عائقا في‮ ‬استحضاره في‮ ‬أي‮ ‬وقت أشاء‮.‬


ولنعد إلى السياب‮..‬
حين تهيأت للدراسات العليا بقسم اللغة العربية بآداب القاهرة،‮ ‬كنت مصرا وقتها على أن تكون أطروحتي‮ ‬لنيل درجة الماجستير عن بدر شاكر السياب،‮ ‬وبالفعل فقد تم تسجيل الأطروحة عام‮ ‬1966‮ ‬بعنوان‮ »‬شعر بدر شاكر السياب‮ - ‬دراسة فنية وفكرية‮«‬،‮ ‬وكان الدافع لإصراري‮ ‬على تسجيل هذا الموضوع بالذات هو حبي‮ ‬العميق للسياب،‮ ‬وكان هناك دافع آخر قومي،‮ ‬هو الإيمان بوحدة الثقافة العربية في‮ ‬مختلف أقطار الوطن العربي‮ ‬الكبير،‮ ‬خلال العصور المختلفة التي‮ ‬مرت بها،‮ ‬ومن هنا فإنني‮ ‬اخترت أن أدرس شاعرا عربيا‮ ‬ينتمي‮ ‬إلى قطر عربي‮ »‬العراق‮« ‬غير القطر العربي‮ ‬الذي‮ ‬أنتمي‮ ‬إليه‮ »‬مصر‮« ‬نتيجة هذا الإيمان بوحدة الثقافة العربية في‮ ‬جوهرها‮.‬
كان من حسن حظي‮ ‬أني‮ ‬استطعت الحصول على نسخة من كتاب‮ »‬بدر شاكرالسياب والحركة الشعرية الجديدة في‮ ‬العراق‮«‬،‮ ‬وهو الكتاب الذي‮ ‬أصدره الكاتب والمحامي‮ ‬العراقي‮ ‬محمود العبطة عام‮ ‬1965،‮ ‬أي‮ ‬بعد رحيل السياب بعام واحد،‮ ‬فكان هذا الكتاب أول دراسة متكاملة عنه،‮ ‬وتنبع أهمية هذا الكتاب من ارتباط صاحبه بأواصر صداقة وطيدة بالسياب،‮ ‬ومن اهتمامه برصد النتاج الشعري‮ ‬في‮ ‬العراق في‮ ‬بداية حركة الشعر الحر،‮ ‬ومن ناحيتي‮ ‬فإنني‮ ‬بذلت محاولات مضنية ومتأنية للحصول على دواوين الشعراء العراقيين الذين رصد نتاجهم محمود العبطة،‮ ‬وكان أن حصلت‮ - ‬ضمن ما حصلت عليه‮ - ‬على ديوانين لشاعرة عراقية من جيل السياب،‮ ‬وكشفت لي‮ ‬دراسة هذين الديوانين عن وجود علاقة حب قوية بين تلك الشاعرة وبين السياب،‮ ‬وهذا ما لم‮ ‬يتحدث عنه أحد من الدارسين والباحثين بعد دراسة محمود العبطة،‮ ‬لسبب بسيط‮ ‬يتمثل في‮ ‬أنهم لم‮ ‬يهتموا بالحصول على الديوانين اللين استطعت الحصول عليهما‮.‬
وإذا كان الدارسون والنقاد العرب لم‮ ‬يهتموا بدراسة شعر السياب خلال حياته المضطربة القصيرة التي‮ ‬لم تتجاوز ثمانية وثلاثين عاما،‮ ‬فإن كثيرين درسوا جوانب حياته ومقومات عطائه الشعري‮ ‬ولكن بعد رحيله عن دنيانا‮.‬
هناك من درسوه ضمن دراساتهم عن شعراء آخرين،‮ ‬ومن هؤلاء‮: ‬د‮. ‬جليل كمال الدين في‮ ‬كتابه‮ »‬الشعر العربي‮ ‬الحديث وروح العصر‮«‬،‮ ‬د‮. ‬ابراهيم السامرائي‮ ‬في‮ ‬كتابه‮ »‬لغة الشعر بين جيلين‮«‬،‮ ‬جبرا ابراهيم جبرا في‮ ‬كتابه‮ »‬الرحلة الثامنة‮«‬،‮ ‬محيي‮ ‬الدين اسماعيل في‮ ‬كتابه‮ »‬ملامح العصر‮«‬،‮ ‬د‮. ‬لويس عوض في‮ ‬كتابه‮ »‬الثورة والأدب‮«‬،‮ ‬رجاء النقاش في‮ ‬كتابه‮ »‬أدباء معاصرون‮«.‬
وهناك من أفردوا له دراسات مستقلة،‮ ‬متناولين فيها حياته وشعره،‮ ‬وأول من أصدر كتابا كاملا عن السياب هو كما قلت محمود العبطة عام‮ ‬1965،‮ ‬وفي‮ ‬عام‮ ‬1966‮ ‬أصدر عبدالجبار البصري‮ ‬كتاب‮ »‬بدر شاكر السياب رائد الشعر الحر‮«‬،‮ ‬وأصدر سيمون جارجي‮ ‬كتاب‮ »‬السياب‮ - ‬الرجل والشاعر‮«‬،‮ ‬وفي‮ ‬عام‮ ‬1968‮ ‬صدر كتابان آخران هما‮ »‬بدر شاكر السياب والمذاهب الشعرية المعاصرة‮« ‬لمحمد التونجي‮ ‬و»بدر شاكر السياب‮ - ‬حياته وشعره‮« ‬لنبيلة الرزاز اللجمي،‮ ‬ثم أصدر الدكتور احسان عباس كتابه الضخم‮ »‬بدر شاكر السياب‮ - ‬دراسة في‮ ‬حياته وشعره‮« ‬عام‮ ‬1969،‮ ‬وفي‮ ‬عام‮ ‬1970‮ ‬أصدر محمود العبطة كتابه الثاني‮ ‬عن السياب بعنوان‮ »‬أضواء على شعر وحياة بدر شاكر‮ ‬السياب‮«‬،‮ ‬وأصدر خالص عزمي‮ ‬عام‮ ‬1971‮ ‬كتاب‮ »‬صفحات مطوية من أدب السياب‮«‬،‮ ‬أما الكتاب العاشر من هذه الكتب التي‮ ‬أفردها أصحابها لتناول السياب فكان كتاب‮ »‬السياب‮« ‬الذي‮ ‬أصدره عبدالجبار عباس عام‮ ‬1972‮ .‬
ومن خلال هذه الدراسات مجتمعة،‮ ‬والتي‮ ‬تتباين بالطبع في‮ ‬مستواها العلمي،‮ ‬وفي‮ ‬مدى تعاطف أصحابها مع السياب،‮ ‬ومن خلال الجرائد والمجلات الأدبية العربية التي‮ ‬كان السياب‮ ‬ينشر فيها قصائده أو مقالاته،‮ ‬تكونت لي‮ ‬حصيلة وافرة،‮ ‬استطعت بها أن أنجز دراستي‮ ‬عن الشاعر الكبير،‮ ‬وكان هذا عام‮ ‬1978،‮ ‬حيث نوقشت بإشراف أستاذتي‮ ‬الدكتورة سهير القلماوي،‮ ‬وصدرت في‮ ‬كتاب عام‮ ‬1979‮ ‬لكنني‮ - ‬على الرغم من الجهد والتأني‮ ‬والصبر في‮ ‬جمع مادتي‮ ‬عن السياب‮ - ‬كنت أحس بيني‮ ‬وبين نفسي‮ ‬بغصة كبيرة‮. ‬لأني‮ ‬لم أزر العراق،‮ ‬وبالتالي‮ ‬لم أزر البصرة،‮ ‬ولا قرية‮ »‬جيكور‮« ‬التي‮ ‬شهدت ميلاد السياب عام‮ ‬1926،‮ ‬ولا نهر‮ »‬بويب‮« ‬الذي‮ ‬حفظت اسمه نتيجة تغني‮ ‬السياب به في‮ ‬قصائده‮.‬
وفي‮ ‬سبتمبر عام‮ ‬1980‮ ‬قدر لي‮ ‬أن أزور العراق لأول مرة،‮ ‬ولكن بعد أن كانت دراستي‮ ‬قدر صدرت،‮ ‬ولم‮ ‬يقدر لي‮ ‬في‮ ‬تلك الزيارة أن أزور الجنوب،‮ ‬حيث زرت وقتها الشمال وتجولت بمدنه‮ »‬الموصل‮« ‬و»آربيل‮« ‬و»كركوك‮«‬،‮ ‬وعدت من زيارتي‮ ‬وقد ازددت تعطشا لزيارة جنوب العراق،‮ ‬وهذا ما لم‮ ‬يتحقق لي‮ ‬إلا‮ ‬يوم الخميس‮ ‬28‮ ‬نوفمبر سنة‮ ‬1985‮‬،‮ ‬حيث زرت‮ ‬البصرة‮ ‬ضمن وفود الشعراء العرب الذين استضافهم مهرجان‮ »‬المربد‮« ‬الشعري‮ ‬السادس‮. ‬بل إني‮ ‬سعدت وانتشيت،‮ ‬لأني‮ ‬كنت الوحيد،‮ ‬من بين جميع الشعراء العرب،‮ ‬الذي‮ ‬زار بيت الشاعر الكبير،‮ ‬وكان لي‮ ‬لقاء مع أسرته في‮ ‬هذا البيت‮.‬

لم تكن فكرة زيارتي‮ ‬لبيت بدر شاكر السياب واردة في‮ ‬ذهني،‮ ‬لأن برنامج زيارة ضيوف‮ »‬المربد‮« ‬للبصرة كان محددا من قبل‮. ‬بدأت الفكرة‮ - ‬ببساطة وبشكل عفوي‮ - ‬عندما قدمني‮ ‬من‮ ‬يعرفونني‮ ‬إلى‮ »‬آلاء‮« ‬الابنة الصغرى للسياب،‮ ‬صافحتها محييا قرب قاعدة تمثال الشاعر الكبير،‮ ‬وسألتها عن‮ »‬غيداء‮«‬،‮ ‬فقالت لي‮: »‬هل تعرفها؟‮!«.. ‬أجبتها قائلا‮: »‬نعم‮.. ‬فهي‮ ‬أختك الأكبر منك،‮ ‬وقد ولدت عام‮ ‬1956،‮ ‬أما أنت فقد ولدت عام‮ ‬1961‮«.. ‬ابتسمت‮ »‬آلاء‮« ‬في‮ ‬دهشة،‮ ‬ثم استأذنت لتنادي‮ »‬غيداء‮«.. ‬تصافحنا بحرارة،‮ ‬وبقينا نتحدث قرب قاعدة تمثال السياب،‮ ‬وبين الحين والحين كنت أتطلع إلى التمثال،‮ ‬وتتصارع في‮ ‬أعماقي‮ ‬مشاعر شتى‮.‬
أمام السياب‮.. ‬شعرت بالنشوة تتملكني،‮ ‬وخيل لي‮ ‬في‮ ‬لحظة من لحظات الوهم أنه سيقبل لكي‮ ‬يصافحني،‮ ‬ولكي‮ ‬يربت على كتفي‮ »‬غيداء‮« ‬و»آلاء‮«‬،‮ ‬مانحا إياهما عواطفه الأبوية العميقة‮. ‬وأمام السياب‮.. ‬احتوتني‮ ‬مرارة مالحة‮.. ‬حين سألت نفسي‮: ‬ألا بد للشاعر العربي‮ ‬أن‮ ‬يموت،‮ ‬لكي‮ ‬يكرمه الآخرون،‮ ‬ويوفيه حقه النقاد والدارسون؟‮!.‬
أعادتني‮ »‬غيداء‮« ‬إلى الواقع،‮ ‬وأبعدتني‮ ‬عن مشاعري‮ ‬التي‮ ‬كانت تصطخب في‮ ‬أعماقي،‮ ‬حينما قالت لي‮: »‬ألم تلاحظ هذه الثقوب؟‮!«.. ‬آه‮.. ‬إنها شظايا القصف الإيراني من جراء الحرب التي‮ ‬دخلت عامها السادس‮.. ‬الشظايا لا تستطيع أن تميز بين الأشياء‮.. ‬إنها تقتحم ـ وهي‮ ‬تندفع ـ‮ ‬النبيل والرذيل،‮ ‬والجميل والقبيح على السواء‮.. ‬إنها لا تميز‮.. ‬وهكذا قدر لتمثال السياب أن تقتحمه الشظايا‮.. ‬وكأن الشاعر العربي‮ ‬الكبير الذي‮ ‬تعرض للمتاعب والمصاعب في‮ ‬حياته،‮ ‬لم‮ ‬يسلم أيضا من التعرض للقصف بعد رحيله الجسدي‮ ‬عن دنيانا‮!!.‬
قرأت ما هو مكتوب على اللوحة الرخامية عند قاعدة تمثال السياب‮.. ‬هذا هو اسمه‮.. ‬وهذا عام مولده وذاك عام رحيله عن دنيانا،‮ ‬وفقا للتقويمين الميلادي‮ ‬والهجري‮.. ‬وهذه سطور من قصيدته الرائعة التي‮ ‬كنت‮ - ‬وما زلت‮ - ‬أحفظها منذ سنوات‮.. ‬قصيدة‮ »‬غريب على الخليج‮« ‬التي‮ ‬يضمها ديوانه العظيم‮ »‬أنشودة المطر‮«.. ‬والسطور المختارة،‮ ‬تصور مشاعر السياب عندما كان هائما على وجهه،‮ ‬خارج العراق،‮ ‬يعاني‮ ‬الغربة والضياع عام ‮٣٥٩١. ‬إنها سطور‮ ‬يتكشف منها مدى إحساس السياب بالوحشة وهو بعيد عن شمس العراق،‮ ‬وبعيد كذلك عن ظلام الليل في‮ ‬العراق‮..‬


الشمس أجمل في‮ ‬بلادي‮ ‬من سواها والظلام
حتى الظلام هناك أجمل فهو‮ ‬يحتضن العراق
واحسرتاه متى أنام
فأحس أن على الوسادة
من ليلك الصيفي‮ ‬طلا فيه عطرك‮ ‬يا عراق؟
بين القرى المتهيبات خطاي‮ ‬والمدن الغريبة
غنيت تربتك الحبيبة‮..‬


عندما انتهيت من القراءة مرة‮.. ‬ومرات‮.. ‬قلت لنفسي‮: »‬واحسرتاه‮.. ‬إن الشظايا التي‮ ‬لا ترحم أسقطت العديد من النقاط من فوق الحروف‮.. ‬وعلى سبيل المثال فإن نقطة الجيم في‮ »‬الشمس أجمل‮..« ‬قد سقطت‮.. ‬وتنبهت أيضا إلى أن رقم‮ (‬9‮) ‬من عام مولده بالتقويم الميلادي‮ ‬قد سقط هو الآخر‮.. ‬لكني‮ ‬اندهشت حين قرأت أن عام مولده‮ - ‬وفقا لما هو مكتوب على قاعدة التمثال‮ - ‬هو عام ‮٥٢٩١‬،‮ ‬إن كل الدارسين والباحثين قد ذكروا أن السياب ولد عام‮ ‬1926،‮ ‬بمن فيهم محمود العبطة في‮ ‬كتابه الأول عن السياب،‮ ‬لكنه في‮ ‬كتابه الثاني‮ ‬حاول أن‮ ‬يثبت أن السياب قد ولد عام‮ ‬1925،‮ ‬حيث‮ ‬يذكر أنه راجع سجلات المدرسة المحمودية الابتدائية،‮ ‬وقد عثر على معلومات خاصة بالشاعر نقلها من السجل رقم‮ (‬6‮) ‬وصفحة السجل‮ ‬757‮ »‬والمعلومات هي‮: ‬المحلة‮: ‬قرية جيكور‮ - ‬تاريخ الولادة‮ ‬1925‮ - ‬آخر مدرسة كان فيها قبل دخوله المحمودية مدرسة باب سليمان‮ - ‬أبيض الوجه‮ - ‬أسود العينيين‮ - ‬أحواله الصحية جيدة وسيرته في‮ ‬المدرسة جيدة‮«.‬
إذن فإن من اختاروا ما هو مكتوب على اللوحة الرخامية قد استشاروا محمود العبطة بشأن تاريخ ميلاد الشاعر،‮ ‬مع أن السياب نفسه‮ - ‬خلال حياته‮ - ‬كان قد أشار في‮ ‬مواضع عديدة إلى أنه ولد عام‮ ‬1926،‮ ‬ولم‮ ‬يذكر مطلقا أنه ولد عام‮ ‬1925‮ ‬،‮ ‬وبالمناسبة فإن بلند الحيدري‮ ‬وعبدالوهاب البياتي‮ ‬قد ولدا أيضا عام‮ ‬1926،‮ ‬وهما‮ - ‬كما نعرف‮ - ‬من جيل السياب‮.‬
أنصرف الشعراء قاصدين فندق شيراتون‮ - ‬البصرة،‮ ‬للراحة،‮ ‬واكتشفت أنه لم‮ ‬يبق سواي‮ ‬وغيداء وأختها آلاء وشاب رقيق من البصرة هو أياد سعيد مزعل،‮ ‬وحين انطلقت سيرا على الأقدام إلي‮ ‬الفندق سألت‮ ‬غيداء أن تسمح لي‮ ‬بزيارة البيت‮.. ‬بيت السياب رحبت بطلبي‮ ‬الذي‮ ‬كنت أهدف من ورائه إلقاء نظرة على مكتبة السياب،‮ ‬وعلى ما قد‮ ‬يكون موجودا من قصائد مخطوطة أو رسائل موجهة له من الأدباء العرب،‮ ‬إلى جانب لقائي‮ ‬بزوجته السيدة إقبال طه العبد الجليل‮.‬


أحسست وأنا أدخل بيت السياب أني‮ ‬إنما أدخل بيتي،‮ ‬وأنه كان‮ ‬يتعين علىَّ‮ ‬أن أدخل هذا البيت منذ سنوات‮. ‬واستقبلتني‮ ‬السيدة‮ »‬إقبال‮« ‬بترحاب شديد،‮ ‬أضاف إلى ألفتي‮ ‬الروحية المسبقة ألفة روحية جديدة،‮ ‬لكني‮ ‬لاحظت أن أعماقها تشي‮ ‬بالحزن المقيم،‮ ‬الذي‮ ‬تحاول أن تخفيه عن ملامح وجهها دون أن تفلح،‮ ‬فهي‮ ‬تعرف أن الشعراء العرب ضيوف‮ »‬المربد‮« ‬قد حضروا إلى البصرة،‮ ‬ليضعوا أكاليل الزهور على قاعدة تمثال زوجها الغائب عنها سنة ‮٤٦٩١.‬
زاد من ألفتي‮ ‬الروحية مع المكان ذاته،‮ ‬أني‮ ‬لاحظت أن جدران‮ ‬غرفة الاستقبال مطلية باللون الأزرق الفاتح،‮ ‬وأن الأرائك والمقاعد خضراء اللون‮.. ‬إنني‮ ‬أحب هذين اللونين‮.. ‬الأزرق‮ ‬يعني‮ ‬عندي‮ ‬البحر والسماء،‮ ‬والأخضر عندي‮ ‬يعني‮ ‬الحقول والغابات‮.‬
أقبلت الابنة الصغرى‮ »‬آلاء‮« ‬بالمشروبات الغازية أولا،‮ ‬لكني‮ ‬لم أشرب،‮ ‬بصراحة كنت محتاجا لكوب من الشاي‮.‬
‮.. ‬كان السياب‮ ‬يحب الشاي‮ ‬كثيرا،‮ ‬ويروي‮ ‬أصدقاؤه ومخالطوه أنه كان‮ ‬يجلس في‮ ‬الأمسيات في‮ ‬العديد من المقاهي‮ ‬الشعبية،‮ ‬ومن بينها مقهى‮ »‬الزهاوي‮«‬،‮ ‬وكان لا‮ ‬يشاهد إلا وأمامه كوب الشاي،‮ »‬الاستكان‮« ‬بينما هو منهمك في‮ ‬قراءة أبي‮ ‬تمام‮.. ‬كان هذا في‮ ‬بغداد خلال أواخر الخمسينيات‮.‬
أقبلت‮ »‬آلاء‮« ‬مرة أخرى،‮ ‬حاملة صينية كبيرة تحوي‮ ‬أطباقا مملوءة بالكعك المحشو بالتمر العراقي،‮ ‬ولم آكل إلا‮ ‬بعد أن علمت أن الصناعة محلية‮.. ‬فالسيدة‮ »‬إقبال‮« ‬والدتها هي‮ ‬التي‮ ‬تصنع هذا الكعك‮.. ‬أعترف بأني‮ ‬أكلت منه بشهية مفتوحة‮.‬
أطلعتني‮ »‬غيداء‮« ‬على مخطوطة ديوان‮ »‬شناشيل ابنة الجلبي‮« ‬وهو الديوان الذي‮ ‬صدر في‮ ‬أوائل‮ ‬يناير‮ ‬1965،‮ ‬أي‮ ‬بعد رحيل صاحبه الشاعر الكبير بأيام قلائل‮..‬
وأطلعتني‮ ‬على بعض القصائد الأخرى بخطه‮.. ‬لكن مفاجأتي‮ ‬كانت كاملة حين اكتشفت أن إحدى هذه القصائد لم تنشر من قبل،‮ ‬وبالتالي‮ ‬فهي‮ ‬اكتشاف أدبي،‮ ‬حتى لو لم‮ ‬يكن مستواها هو نفس مستوى قصائد السياب الشهيرة‮.. ‬استأذنتها في‮ ‬تصوير القصيدة،‮ ‬لكي‮ ‬يتسنى لي‮ ‬نشرها فيما بعد‮.‬
القصيدة بعنوان‮ »‬نبوءة حزينة‮«‬،‮ ‬وهي‮ ‬من حصاد عام‮ ‬1948،‮ ‬وهي‮ ‬مؤرخة‮ - ‬على وجه التحديد‮ - ‬بتاريخ‮ ‬2‮ ‬فبراير‮ ‬1948،‮ ‬وهذا العام هو الذي‮ ‬شهد نهاية قصة الحب بين السياب وشاعرة عراقية معروفة،‮ ‬وكنت قد أفضت في‮ ‬الحديث عن هذه القصة في‮ ‬كتابي‮ ‬عن السياب‮.. ‬وأدركت بعد قراءة القصيدة أنها من القصائد الموجهة إلى لميعة عباس عمارة،‮ ‬لكنها ليست في‮ ‬مستوى قصائده التي‮ ‬وجهها إليها،‮ ‬ولعل السياب لم‮ ‬ينشرها ضمن ديوان‮ »‬أساطير‮« ‬الذي‮ ‬أصدره عام‮ ‬1950‮ ‬لهذا السبب‮.


‮... ‬دار الحديث بيني‮ ‬وبين السيدة‮ »‬إقبال‮«‬،‮ ‬وسرعان ما تشعب ليصبح حديثا جماعيا،‮ ‬بعد أن انضمت‮ »‬غيداء‮« ‬و»آلاء‮«..‬
‮> ‬في‮ ‬البداية قلت للسيدة إقبال‮: ‬هل لك ان تحدثينا عن ذكرياتك مع الشاعر الكبير؟‮.. ‬أنا أعلم أنكما قد تزوجتما عام ‮٧٥٩١.‬
‮- ‬قاطعتني‮ ‬السيدة إقبال‮.. ‬قائلة‮: »‬عام‮ ‬1955‮« »‬وحين رجعت إلى كتابي‮ ‬تأكدت أن ذاكرتي‮ ‬قد خانتني،‮ ‬فقد سجلت في‮ ‬كتابي‮ ‬عن السياب أن عقد الزواج قد تم توقيعه في‮ ٩١ ‬يونيو ‮٥٥٩١. ‬إذن فالاعتماد على الذاكرة وحدها قد‮ ‬يضلل‮..«.‬
‮> ‬شكرت السيدة إقبال على تصحيحها لما ذكرته بشأن عام زواجها من السياب‮.. ‬وبدأت هي‮ ‬تتحدث لتضيف إلى ما كنت أعرفه أشياء جديدة‮..‬


‮- ... ‬في‮ ‬الشهر التاسع‮ »‬سبتمبر‮« ‬عام‮ ‬1955‮ ‬كان زواجنا‮.. ‬ولعلك تعرف أن هناك صلة قرابة بين عائلة السياب وعائلتي‮.. ‬كان عقد القران في‮ ‬البصرة،‮ ‬لكننا تزوجنا في‮ ‬بغداد في‮ ‬دار من دور محلة‮ »‬الكسرة‮«‬،‮ ‬وأقمنا في‮ »‬الكسرة‮« ‬عاما واحدا،‮ ‬ثم انتقلنا إلى‮ »‬الأعظمية‮«‬،‮ ‬وبقينا بالأعظمية فترة من الزمن،‮ ‬إلى أن فصل السياب من عمله في‮ ‬زمن عبدالكريم قاسم،‮ ‬فكان أن رجعنا إلى‮ »‬البصرة‮«‬،‮ ‬وبعد فترة صعبة أعيد إلى العمل،‮ ‬وكان عمله في‮ ‬مصلحة الموانىء،‮ ‬وسكنا نحن في‮ ‬مساكن تلك المصلحة‮.. ‬وجاءت الفترة الأصعب‮.. ‬حين ألم به المرض،‮ ‬فانتقلنا إلى بيروت،‮ ‬لكي‮ ‬يعالج هناك،‮ ‬ومكثنا ثلاثة شهور،‮ ‬وحين عدنا إزداد عليه المرض،‮ ‬ودخل مستشفى الموانىء بالبصرة‮.. ‬وفي‮ ‬خاتمة رحلاته بحثا عن الشفاء،‮ ‬انتقل في‮ ‬الشهر السابع‮ (‬يوليو‮) ‬عام‮ ‬1964،‮ ‬ليعالج في‮ ‬الكويت،‮ ‬سافر زوجي‮ ‬وحده في‮ ‬البداية،‮ ‬ثم التحقت به بعد ذلك لفترة ليست كبيرة،‮ ‬لأني‮ ‬كنت مرتبطة بالدوام باعتباري‮ ‬معلمة في‮ ‬المدارس،‮ ‬وكان لا بد أن أعود نتيجة ظروف عملي‮.. ‬وبقي‮ ‬هو هناك إلى أن توفي‮ ‬يوم‮ ‬25‮ ‬ديسمبر ‮٤٦٩١.‬


‮.. ‬لم أشأ‮ - ‬من ناحيتي‮ - ‬أن أصحح للسيدة‮ »‬إقبال‮« ‬تاريخ وفاة السياب،‮ ‬فالصحيح أنه توفي‮ ‬يوم‮ ‬24‮ ‬ديسمبر‮ ‬1964‮ ‬ووصل جثمانه إلى البصرة،‮ ‬حيث دفن في‮ ‬مقابر‮ »‬الحسن البصري‮« ‬في‮ ‬اليوم التالي‮.. ‬أي‮ ‬يوم‮ ‬25‮ ‬ديسمبر‮ ‬1964،‮ ‬وربما ظل التاريخ في‮ ‬ذهن السيدة‮ »‬إقبال‮« (‬25‮) ‬لا‮ (‬24‮) ‬لأن جثمانه ووري‮ ‬التراب‮ ‬يوم ‮٥٢ ‬ديسمبر‮.‬
‮> ‬قلت للسيدة إقبال‮«.. ‬وماذا عن ذكرياتك معه؟‮.. ‬كيف كانت تبدو شخصيته في‮ ‬نظرك؟‮.. ‬وكيف كان‮ ‬يعاملك؟ وماذا عن لحظات‮ ‬غضبه ولحظات سروره هنا داخل البيت؟
‮- ‬لا أذكر أنه كان‮ ‬يغضب أبدا‮.. ‬لحظات الغضب التي‮ ‬تتحدث عنها لم تمر به هنا أمامي‮.. ‬كان دائما متسامحا رقيقا‮.. ‬يحب الكل‮.. ‬ويحب الهدوء‮.‬
‮> ‬وماذا عن شعورك بعد أن كرمته الدولة وكرمه الجميع بعد رحيله عن الدنيا؟‮.. ‬ولماذا لم‮ ‬يحصل على هذا التكريم في‮ ‬حياته؟
‮- ‬أشعر بالراحة النفسية‮.. ‬مثل الراحة التي‮ ‬يحس بها أي‮ ‬إنسان عندما‮ ‬يجد أن إنسانا‮ ‬غاليا وعزيزا عليه‮ ‬ينال حقه من التكريم‮.. ‬وأنا أشكر الحكومة العراقية على هذا التكريم لزوجي‮. ‬والحقيقة أنه خلال حياة السياب،‮ ‬لم‮ ‬يكن هناك اهتمام بالأدب ولا بالأدباء،‮ ‬وبالتالي‮ ‬فلم‮ ‬يكن هناك أي‮ ‬مظهر من مظاهر التكريم له أو لغيره من الشعراء‮.‬
‮> ‬وماذا عن معاناتك أنت‮ »‬وغيداء وآلاء‮« ‬إزاء الباحثين الذين‮ ‬يحضرون إلى البيت،‮ ‬لكي‮ ‬يحصلوا على مصادر أو كتب تدور حول السياب‮.. ‬لكنهم لا‮ ‬يهتمون بعد ذلك بإعادة هذه المصادر أو الكتب إليكم‮..‬؟
‮- ‬نحن دائما نكون مسرورين بقدوم أي‮ ‬ضيف إلى دارنا،‮ ‬فنحن نشعر أن قدومهم هو تكريم للسياب،‮ ‬ولهذا نرحب بهم دائما،‮ ‬ولا نجد أية مضايقة من أحد منهم‮.‬
‮> ‬ولكن ماذا بشأن من‮ ‬يحصلون على كتب أو مصادر،‮ ‬ولا‮ ‬يعيدونها مرة ثانية لكم؟
‮- ‬نحن نتسامح‮.. ‬نحن‮.. ‬لم تستطع السيدة‮ »‬إقبال‮« ‬أن تكمل ما تود أن تقوله‮.. ‬اكتشفت أن عبراتها تختلج‮.. ‬وكأنها على وشك الإجهاش بالبكاء‮.. ‬وتمالكت أنا الآخر نفسي‮ ‬بصعوبة‮.. ‬وأدركت‮ »‬غيداء‮« ‬برقتها وذكائها صعوبة الموقف،‮ ‬وصعوبة أن تتحدث أمها بعد ذلك‮.. ‬فتدخلت هي‮ ‬لكي‮ ‬تكمل الإجابة‮.‬
‮- ‬غيداء‮: ‬دائما نبدو متسامحين‮.. ‬روح التسامح تسيطر علينا‮.. ‬ونقول‮ »‬على الله العوض‮..«.. ‬ونعزي‮ ‬أنفسنا بأن هذه الكتب عزيزة على من أخذها مثلما هي‮ ‬عزيزة علينا‮.. ‬والحقيقة أن بدر شاكر السياب ليس ملكا لنا‮.. ‬للأسرة‮.. ‬فحسب،‮ ‬لكنه ملك لكل العراقيين،‮ ‬بل لكل العرب الذين‮ ‬يقدرونه ويحبونه‮. ‬والحقيقة أننا نعرف الضعف البشري‮ ‬عند الناس،‮ ‬لأنه موجود في‮ ‬طبيعتنا جميعا باعتبارنا من البشر‮.. ‬ولذا فإننا نتسامح كما قلت لك‮.‬
‮> ‬قلت لغيداء‮: ‬أود أن أعرف مدى اهتمامك بشالعر،‮ ‬على الرغم من أنني‮ ‬علمت منك أثناء حديثنا في‮ ‬الطريق إلى الدار انك تخرجت من كلية الهندسة‮ - ‬جامعة البصرة؟
‮- ‬اهتمامي‮ ‬بالشعر‮ ‬ينحصر في‮ ‬قراءته فقط،‮ ‬وللأسف فإنني‮ ‬لا أملك الموهبة التي‮ ‬تتيح لي‮ ‬ممارسة كتابة الشعر وبالتالي‮ ‬أكتفي‮ ‬بالقراءة،‮ ‬وأجد فيها متعتي‮.‬
‮> ‬وما رأيك في‮ ‬شعر والدك؟
‮- ‬يدر شاكر السياب في‮ ‬رأيي‮ ‬قمة‮.. ‬لكني‮ - ‬في‮ ‬مرات كثيرة‮ - ‬أحس بالتعب وأنا أقرأ له‮.. ‬والحقيقة أن انتمائي‮ ‬له وما‮ ‬يسببه هذا الانتماء‮ ‬يمكن أن‮ ‬يكون له تأثيره بالنسبة لرأيي‮.. ‬ولكن‮ ‬يبقى بدر شاكر السياب سارية علم‮.‬
‮> ‬كنتِ‮ ‬صغيرة عندما توفي‮ ‬والدك‮ - ‬رحمه الله‮ - ‬ولكن هل تستطيعين أن تحددي‮ ‬أية مواقف أو ذكريات معه خلال حياته؟
‮- ‬الذكرى الوحيدة التي‮ ‬ستبقى في‮ ‬نفسي،‮ ‬لأني‮ - ‬كما قلت أنت‮ - ‬كنت صغيرة‮.. ‬هي‮ ‬ذكرى رجوعه من الدوام بعد العمل‮.. ‬كان‮ ‬يأتي‮ ‬متوكئا على عكازه الخشبي‮.. ‬وجيوبه مليئة بالشكولاته والسجائر‮.. ‬الشكولاته لي‮ ‬ولغيلان وآلاء‮.. ‬أما السجائر فله‮.. ‬هذه هي‮ ‬الذكرى الوحيدة التي‮ ‬ستبقى في‮ ‬نفسي‮.. ‬أما بقية الأشياء فإنها مجرد أطياف حلوة‮.. ‬أو مجرد آمال أتخيلها وأتوهم أنها حقيقة من شدة شوقي‮ ‬إليه‮.. ‬إلى بدر شاكر السياب‮.‬
‮.. ‬تخيلت كم كان‮ ‬يعاني‮ ‬وهو‮ ‬يتوكأ على عكازه الخشبي،‮ ‬وكم كان‮ ‬يعاني‮ ‬معاناة أشد،‮ ‬وهو‮ ‬يحاول أن‮ ‬يدبر نقودا لكي‮ ‬يشتري‮ »‬الشكولاته‮«.. ‬لغيلان وغيداء والاء‮.. ‬والسجائر له‮.. ‬تخيلت هذه المعاناة،‮ ‬لأني‮ ‬تذكرت رسائله التي‮ ‬كان‮ ‬يرسلها لأصدقائه،‮ ‬وكلها تدور حول هذه المعاناة‮.. ‬رجعت‮ - ‬فيما بعد‮ - ‬إلى هذه الرسائل‮.. ‬وهذه فقرة من رسالة كان قد أرسلها لجبرا ابراهيم جبرا من لندن،‮ ‬أثناء إقامته هاك للعلاج،‮ ‬والرسالة مؤرخة بتاريخ‮ ‬30‮ ‬يناير‮ ‬1963،‮ ‬أي‮ ‬قبل رحيله عن دنيانا بما‮ ‬يقرب من عامين‮..‬
يقول السياب لجبرا في‮ ‬رسالته‮:‬


‮».. ‬فوجئت عندما علمت أمس من السفارة العراقية أن رمضان قد حل‮. ‬لكن همّاً‮ ‬أصابني‮.. ‬سيأتي‮ ‬العيد وليس هناك من‮ ‬يشتري‮ ‬ملابس جديدة لأطفالي‮.. ‬إن راتب أبيهم لا‮ ‬يكفي‮ ‬لأكثر من إطعامهم‮.. ‬أفلا تستطيع إقناع الدكتور محمد الأمين بإرسال ما أستحقه عن ترجمة جزء من كتاب الأدب الأميركي‮ ‬إلى زوجتي‮.‬
إن ذلك سيجعلني‮ ‬مرتاحا ويزيل القلق من أفكاري‮. ‬إذا لم‮ ‬يستطع فلتتفضل أنت بارسال أربعين أو ثلاثين دينارا إليها وسأعطيك إياها حين تعود أو تأخذها مما أستحقه عن الترجمة‮..«.‬


‮> ‬سألت آلاء التي‮ ‬كانت تصغي‮ ‬لحديثي‮ ‬مع‮ ‬غيداء عن اهتماماتها بالقراءة،‮ ‬ومن الذين تقرأ لهم من الأدباء؟‮.. ‬وبالمناسبة فإن آلاء لم تدرس الأدب شأنها شأن‮ ‬غيداء،‮ ‬وشأنهما شأن‮ ‬غيلان‮.. ‬فغيلان‮ ‬يدرس الهندسة في‮ ‬أميركا على نفقة الدولة تكريما لوالده‮ (‬كما قيل لي‮).. ‬وغيداء سبق أن ذكرت أنها درست الهندسة‮.. ‬أما آلاء فقد درست التجارة والمحاسبة‮..‬
‮- ‬على رأس قائمة قراءاتي‮ ‬يأتي‮ ‬بدر شاكر السياب‮.. ‬وأقرأ كذلك لفدوى طوقان‮.. ‬ولشعراء المقاومة الفلسطينية وأذكر منهم سميح القاسم ومحمود درويش‮.. ‬كما أقرأ لنزار قباني‮ ‬وصلاح عبدالصبور وخليل خوري‮.‬
‮> ‬وماذا عن قراءاتك في‮ ‬الرواية؟
‮- ‬قرأت أكثر روايات نجيب محفوظ،‮ ‬وأحيانا أعيد قراءة بعض ما قرأته منها‮.‬
‮> .. ‬وماذا تعملين الآن؟‮.. ‬إن‮ ‬غيداء ذكرت لي‮ ‬أنها تعمل في‮ ‬محطة ضخ الكهرباء بالبصرة‮.. ‬أنت؟
‮- ‬أعمل محاسبة بدائرة الإحصاء في‮ ‬البصرة‮.‬
‮> ‬هل لك هوايات أخرى‮ ‬غير القراءة؟
‮- ‬أحب أن أستمع إلى الموسيقى وإلى الأغاني‮.‬
‮> ‬من هم المطربون الذين تفضلينهم؟‮.. ‬إن والدك‮ - ‬مثلا‮ - ‬كما‮ ‬يروي‮ ‬أصدقاؤه كان مغرما بالاستماع إلى أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب‮.. ‬فماذا عنك أنت؟
‮- ‬عبدالوهاب‮.. ‬اعتيادي‮ ‬أتصور‮.. ‬إن ماكو شخص مو مغرم بعيد الوهاب‮.. ‬وأحب أضيف فريد الأطرش‮.‬
‮.. ‬كان جوابها هذا بالعامية العراقية‮.. ‬وقد تركته كما هو‮.. ‬لأنها كانت متحمسة وهي‮ ‬تجيب‮.‬
‮> ‬هل تحدثينني‮ ‬عن‮ ‬غيلان،‮ ‬لأنه ليس موجودا معنا الآن؟‮.. ‬لقد سمعت أنه‮ ‬يكتب الشعر وينشره‮.‬
‮- ‬عفوا‮.. ‬لا أتصور أن‮ ‬غيلان قد نشر شيئا من شعره‮.. ‬إنه‮ ‬يكتب،‮ ‬لكنه‮ ‬يحتفظ بقصائده لنفسه‮.. ‬ولكني‮ ‬أتصور أن‮ ‬غيداء‮ ‬يمكن أن تفيدك أكثر مني،‮ ‬بصفتها أختي‮ ‬الكبيرة،‮ ‬فضلا عن تقارب السن بينها وبين‮ ‬غيلان‮.‬
‮> ‬غيداء‮: ‬أرى أن‮ ‬غيلان‮ ‬يمكن أن‮ ‬يسير على خطى بدر شاكر السياب،‮ ‬لأنه‮ ‬يبدو متأثرا به إلى حد كبير،‮ ‬ومع ذلك فإن قصائد‮ ‬غيلان تظل مجرد بدايات‮.. ‬لا‮ ‬يزال‮ ‬غيلان في‮ ‬السفح‮.. ‬أما بدر شاكر السياب فإنه في‮ ‬القمة‮.‬
‮- ‬في‮ ‬تقديري‮ ‬أن هذا طبيعي‮.. ‬فأنا أذكر لك مثلا أن‮ »‬حسين‮« ‬وهو ابن‮ »‬أمير الشعراء‮« ‬أحمد شوقي‮ ‬يكتب الشعر،‮ ‬بل له ديوان مطبوع،‮ ‬ولكن شتان ما بين شعر أحمد شوقي‮ ‬وشعر ابنه‮.‬
حان وقت انصرافنا من البيت‮.. ‬غيداء‮.. ‬والشاب العراقي‮ ‬إياد الذي‮ ‬تطوع لتوصيلنا للبيت بسيارته‮.. ‬وأنا‮.. ‬شكرت السيدة‮ »‬إقبال‮« ‬وشكرت‮ »‬آلاء‮«.. ‬وانطلقنا لحضور فقرات برنامج زيارة ضيوف‮ »‬المربد‮« ‬للبصرة‮.‬


يهمني‮ ‬الآن أن أذكر أن‮ »‬غيداء‮« ‬قد ولدت‮ ‬يوم ‮٤٢ ‬ديسمبر عام‮ ‬1956،‮ ‬أي‮ ‬في‮ ‬نفس اليوم الذي‮ ‬رحل فيه السياب عن دنيانا بعد ثماني‮ ‬سنوات من ميلادها‮.. ‬وقلت لنفسي‮ ‬أية آلام سببتها المصادفة وحدها‮.. ‬حين تتذكر‮ »‬غيداء‮« ‬الإنسانة الرقيقة أن‮ ‬يوم ميلادها‮ ‬يصادف‮ ‬يوم رحيل أبيها‮.‬
ويهمني‮ ‬كذلك أن أذكر أن‮ ‬غيداء والاء لم تشيرا مطلقا إلى أبيهما بكلمة‮ »‬والدي‮« ‬أو‮ »‬أبي‮«.. ‬كانتا عندما تشيران إليه تقولان‮: »‬بدر شاكر السياب‮«.. ‬كأنما‮ ‬يحلو لكل منهما ترديد الاسم بالكامل‮.‬
أما‮ ‬غيلان فقد ولد‮ ‬يوم ‮٣٢ ‬نوفمبر عام‮ ‬1957‮ ‬وقد فرح به السياب‮.. ‬ورأى في‮ ‬ميلاده امتدادا حيا لوجوده،‮ ‬على نحو ما‮ ‬يذكر في‮ ‬قصيدته‮ »‬مرحى‮ ‬غيلان‮«.‬


يا سلم الدم والزمان‮: ‬من المياه إلى السماء
غيلان‮ ‬يصعد فيه نحوي،‮ ‬من تراب أبي‮ ‬وجدي‮.‬
ويداه تلتمسان،‮ ‬ثم،‮ ‬يدي‮ ‬وتحتضان خدي‮.. ‬
فأرى ابتدائي‮ ‬في‮ ‬انتهائي‮.‬


‮.. ‬وتبقى‮ »‬آلاء‮«.. ‬ولدت آلاء في‮ ‬البصرة‮ ‬يوم‮ ‬7‮ ‬يوليو‮ ‬1961
وإذا كنت قد حلمت كثيرا‮ - ‬عندما كنت طالبا بالجامعة‮ - ‬أن‮ ‬يأتي‮ ‬السياب ليزور مصر،‮ ‬وبالتالي‮ ‬يقدر لي‮ ‬أن ألقاه‮.. ‬وإذا كنت قد دخلت بيته ولكن بعد رحيله بإحدى وعشرين سنة‮.. ‬فإن السياب نفسه‮ - ‬كما‮ ‬يتضح من إحدى رسائله‮ - ‬كان‮ ‬يحلم وهو في‮ ‬بريطانيا بأن‮ ‬يزور قرية شكسبير ويزور الشاعرين اللذين أفاد منهما في‮ ‬شعره،‮ ‬وهما ت‮. ‬س‮. ‬إليوت وإيديث سيتويل‮.. ‬حيث‮ ‬يقول في‮ ‬رسالة لجبرا ابراهيم جبرا بتاريخ‮ ‬15‮ ‬فبراير‮ ‬1963‮:‬
‮».. ‬لو كنت قد نلت الشفاء لزرت قرية شكسبير على نهر الآفون‮ - ‬ستاتفورد‮ - ‬على الآفون،‮ ‬ولعملت على أن أزور الشاعرة الانكليزية العظيمة ايدث سيتويل وشاعر العصر ت.س.إليوت‮. ‬لعل ذلك سيتحقق مرة أخرى‮.. ‬من‮ ‬يدري؟‮..«.‬


‮.. ‬لكن ذلك لم‮ ‬يتحقق‮.. ‬ولن‮ ‬يتحقق أبدا‮.‬

بالطبع فإن زيارتي لبيت بدر شاكر السياب قد تحققت - كما ذكرت - سنة 1985 ولكن ما الذي جرى بعد ذلك بعدة سنوات وعلى وجه التحديد بعد الاحتلال الأمريكي الغادر والجائر للعراق ابتداء من يوم 8 أبريل سنة 003؟ 

  الذي جرى - وباختصار - أن المليشيات الشيعية قد هددت غيداء وآلاء بالتصفية الجسدية إذا لم تغادرا البصرة بصورة طوعية ، وهذا ما كان .. غيداء الآن في الموصل وآلاء في بغداد  ، والإثنتان هما بنتا شاعر العراق العظيم بدر شاكر السياب!!




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !