هكذا التقيت مع زوجته وابنتيه
زيارة لبيت بدر شاكر السياب في البصرة
بقلم : حسن توفيق
حين أكملت المرحلة الثانوية، كنت قد أكملت - عن ظهر قلب - حفظ قصائد الشاعر الرقيق الدكتور ابراهيم ناجي، المبثوثة في ثنايا دواوينه الثلاثة »وراء الغمام« - 1934، »ليالي القاهرة« - ٠٥٩١، »الطائر الجريح« - ٧٥٩١ وكنت أحس أن قصائده بمثابة كنز مخبوء في صدري. وأدركت - فيما بعد - أني تعلقت بشعر ناجي، لأني - وفقا لتفسير الدكتور محمد مندور - واحد من الشباب المحرومين من متع الحياة، على الرغم من تفتح وعيهم عليها، ولذا يلاقي شعر ناجي المترقرق باللهفة والعطش الروحي استجابة في نفوسهم الظمأى.
وحين كبرت.. وانطلقت إلى الجامعة.. كبر معي حبي لناجي، لكن شاعرين كبيرين من رواد حركة الشعر الحر في وطننا العربي أخذا يزاحمانه في قلبي مزاحمة شديدة.
أولهما: بدر شاكر السياب - من العراق، وثانيهما: صلاح عبدالصبور - من مصر.
وأتذكر أني كنت أقلب صفحات مجلة »الآداب« البيروتية، بحثا عن قصائد منشورة لكليهما أو لأي منهما، فإذا وجدت كنت أشتري المجلة وإلا فلا!.
لم ألتق بناجي خلال حياته بالطبع، وان كان أبي يؤكد لي أنه قد عالجني في عيادته بحي شبرا ذات مرة، وأن ناجي لم يتقاض منه أجرا، لأنه كان يعالج أبناء الفقراء بالمجان في أغلب الأحيان.. كما أن أستاذي الشاعر د. كمال نشأت كان يسعدني كثيرا عندما كان يحدثني عن لقاءاته العديدة بناجي.
أما السياب.. فإني كنت أحلم بأن يزور مصر، لكي يقدر لي أن ألقاه، لأن فكرة السفر إلى العراق للقياه كانت أمنية عسيرة المنال، وقد اكتشفت - فيما بعد - أن السياب نفسه كان يحلم بزيارة مصر، لكي يلتقي بأدبائها وشعرائها، مثلما قدر له أن يلتقي بأدباء لبنان خلال فترة مرضه، وهذا ما يتضح في بعض رسائله التي نشرت بعد رحيله. وكنت - إمعانا في تأكيد تعلقي به - أسجل اسمه هو في كشوف المترددين على دار الكتب المصرية عندما أرتادها، وأذكر أني زرت الشاعر هلال ناجي (وكان مقيما بالقاهرة في الستينيات) لكي يزودني بما يعرفه عن السياب، فوجئت بقوله: لماذا لا تذهب للسياب نفسه، خاصة أنه موجود في القاهرة، بدليل أنه يسجل اسمه في كشوف المترددين على دار الكتب التي اطلعت عليها بنفسي؟!.
في الرابع والعشرين من ديسمبر عام 1964 رحل السياب عن عالمنا بعد صراع مضن وطويل مع المرض الذي افترسه، وأقعده مشلولا في أخريات أيامه.. رحل دون أن يتحقق حلمي بلقياه. لكن القدر الذي حرمني من لقيا السياب ومن قبله ناجي، شاء أن يسعدني، لأني تعرفت بصلاح عبدالصبور منذ أن كنت طالبا بالجامعة، وتعلقت به إنسانا مثلما تعلقت به شاعرا، وعملت معه سكرتيرا ثم مديرا لمكتبه في الهيئة العامة للكتاب بمصر منذ أن تخرجت، ومنذ أن قيل لي إن صلاح عبدالصبور قد رحل عن دنيانا في الثالث عشر من أغسطس عام 1981، وأنا أرفض هذا الذي قيل، مكذبا كل القائلين، لأني أحس بأن غيابه الجسدي لا يشكل لي عائقا في استحضاره في أي وقت أشاء.
ولنعد إلى السياب..
حين تهيأت للدراسات العليا بقسم اللغة العربية بآداب القاهرة، كنت مصرا وقتها على أن تكون أطروحتي لنيل درجة الماجستير عن بدر شاكر السياب، وبالفعل فقد تم تسجيل الأطروحة عام 1966 بعنوان »شعر بدر شاكر السياب - دراسة فنية وفكرية«، وكان الدافع لإصراري على تسجيل هذا الموضوع بالذات هو حبي العميق للسياب، وكان هناك دافع آخر قومي، هو الإيمان بوحدة الثقافة العربية في مختلف أقطار الوطن العربي الكبير، خلال العصور المختلفة التي مرت بها، ومن هنا فإنني اخترت أن أدرس شاعرا عربيا ينتمي إلى قطر عربي »العراق« غير القطر العربي الذي أنتمي إليه »مصر« نتيجة هذا الإيمان بوحدة الثقافة العربية في جوهرها.
كان من حسن حظي أني استطعت الحصول على نسخة من كتاب »بدر شاكرالسياب والحركة الشعرية الجديدة في العراق«، وهو الكتاب الذي أصدره الكاتب والمحامي العراقي محمود العبطة عام 1965، أي بعد رحيل السياب بعام واحد، فكان هذا الكتاب أول دراسة متكاملة عنه، وتنبع أهمية هذا الكتاب من ارتباط صاحبه بأواصر صداقة وطيدة بالسياب، ومن اهتمامه برصد النتاج الشعري في العراق في بداية حركة الشعر الحر، ومن ناحيتي فإنني بذلت محاولات مضنية ومتأنية للحصول على دواوين الشعراء العراقيين الذين رصد نتاجهم محمود العبطة، وكان أن حصلت - ضمن ما حصلت عليه - على ديوانين لشاعرة عراقية من جيل السياب، وكشفت لي دراسة هذين الديوانين عن وجود علاقة حب قوية بين تلك الشاعرة وبين السياب، وهذا ما لم يتحدث عنه أحد من الدارسين والباحثين بعد دراسة محمود العبطة، لسبب بسيط يتمثل في أنهم لم يهتموا بالحصول على الديوانين اللين استطعت الحصول عليهما.
وإذا كان الدارسون والنقاد العرب لم يهتموا بدراسة شعر السياب خلال حياته المضطربة القصيرة التي لم تتجاوز ثمانية وثلاثين عاما، فإن كثيرين درسوا جوانب حياته ومقومات عطائه الشعري ولكن بعد رحيله عن دنيانا.
هناك من درسوه ضمن دراساتهم عن شعراء آخرين، ومن هؤلاء: د. جليل كمال الدين في كتابه »الشعر العربي الحديث وروح العصر«، د. ابراهيم السامرائي في كتابه »لغة الشعر بين جيلين«، جبرا ابراهيم جبرا في كتابه »الرحلة الثامنة«، محيي الدين اسماعيل في كتابه »ملامح العصر«، د. لويس عوض في كتابه »الثورة والأدب«، رجاء النقاش في كتابه »أدباء معاصرون«.
وهناك من أفردوا له دراسات مستقلة، متناولين فيها حياته وشعره، وأول من أصدر كتابا كاملا عن السياب هو كما قلت محمود العبطة عام 1965، وفي عام 1966 أصدر عبدالجبار البصري كتاب »بدر شاكر السياب رائد الشعر الحر«، وأصدر سيمون جارجي كتاب »السياب - الرجل والشاعر«، وفي عام 1968 صدر كتابان آخران هما »بدر شاكر السياب والمذاهب الشعرية المعاصرة« لمحمد التونجي و»بدر شاكر السياب - حياته وشعره« لنبيلة الرزاز اللجمي، ثم أصدر الدكتور احسان عباس كتابه الضخم »بدر شاكر السياب - دراسة في حياته وشعره« عام 1969، وفي عام 1970 أصدر محمود العبطة كتابه الثاني عن السياب بعنوان »أضواء على شعر وحياة بدر شاكر السياب«، وأصدر خالص عزمي عام 1971 كتاب »صفحات مطوية من أدب السياب«، أما الكتاب العاشر من هذه الكتب التي أفردها أصحابها لتناول السياب فكان كتاب »السياب« الذي أصدره عبدالجبار عباس عام 1972 .
ومن خلال هذه الدراسات مجتمعة، والتي تتباين بالطبع في مستواها العلمي، وفي مدى تعاطف أصحابها مع السياب، ومن خلال الجرائد والمجلات الأدبية العربية التي كان السياب ينشر فيها قصائده أو مقالاته، تكونت لي حصيلة وافرة، استطعت بها أن أنجز دراستي عن الشاعر الكبير، وكان هذا عام 1978، حيث نوقشت بإشراف أستاذتي الدكتورة سهير القلماوي، وصدرت في كتاب عام 1979 لكنني - على الرغم من الجهد والتأني والصبر في جمع مادتي عن السياب - كنت أحس بيني وبين نفسي بغصة كبيرة. لأني لم أزر العراق، وبالتالي لم أزر البصرة، ولا قرية »جيكور« التي شهدت ميلاد السياب عام 1926، ولا نهر »بويب« الذي حفظت اسمه نتيجة تغني السياب به في قصائده.
وفي سبتمبر عام 1980 قدر لي أن أزور العراق لأول مرة، ولكن بعد أن كانت دراستي قدر صدرت، ولم يقدر لي في تلك الزيارة أن أزور الجنوب، حيث زرت وقتها الشمال وتجولت بمدنه »الموصل« و»آربيل« و»كركوك«، وعدت من زيارتي وقد ازددت تعطشا لزيارة جنوب العراق، وهذا ما لم يتحقق لي إلا يوم الخميس 28 نوفمبر سنة 1985، حيث زرت البصرة ضمن وفود الشعراء العرب الذين استضافهم مهرجان »المربد« الشعري السادس. بل إني سعدت وانتشيت، لأني كنت الوحيد، من بين جميع الشعراء العرب، الذي زار بيت الشاعر الكبير، وكان لي لقاء مع أسرته في هذا البيت.
لم تكن فكرة زيارتي لبيت بدر شاكر السياب واردة في ذهني، لأن برنامج زيارة ضيوف »المربد« للبصرة كان محددا من قبل. بدأت الفكرة - ببساطة وبشكل عفوي - عندما قدمني من يعرفونني إلى »آلاء« الابنة الصغرى للسياب، صافحتها محييا قرب قاعدة تمثال الشاعر الكبير، وسألتها عن »غيداء«، فقالت لي: »هل تعرفها؟!«.. أجبتها قائلا: »نعم.. فهي أختك الأكبر منك، وقد ولدت عام 1956، أما أنت فقد ولدت عام 1961«.. ابتسمت »آلاء« في دهشة، ثم استأذنت لتنادي »غيداء«.. تصافحنا بحرارة، وبقينا نتحدث قرب قاعدة تمثال السياب، وبين الحين والحين كنت أتطلع إلى التمثال، وتتصارع في أعماقي مشاعر شتى.
أمام السياب.. شعرت بالنشوة تتملكني، وخيل لي في لحظة من لحظات الوهم أنه سيقبل لكي يصافحني، ولكي يربت على كتفي »غيداء« و»آلاء«، مانحا إياهما عواطفه الأبوية العميقة. وأمام السياب.. احتوتني مرارة مالحة.. حين سألت نفسي: ألا بد للشاعر العربي أن يموت، لكي يكرمه الآخرون، ويوفيه حقه النقاد والدارسون؟!.
أعادتني »غيداء« إلى الواقع، وأبعدتني عن مشاعري التي كانت تصطخب في أعماقي، حينما قالت لي: »ألم تلاحظ هذه الثقوب؟!«.. آه.. إنها شظايا القصف الإيراني من جراء الحرب التي دخلت عامها السادس.. الشظايا لا تستطيع أن تميز بين الأشياء.. إنها تقتحم ـ وهي تندفع ـ النبيل والرذيل، والجميل والقبيح على السواء.. إنها لا تميز.. وهكذا قدر لتمثال السياب أن تقتحمه الشظايا.. وكأن الشاعر العربي الكبير الذي تعرض للمتاعب والمصاعب في حياته، لم يسلم أيضا من التعرض للقصف بعد رحيله الجسدي عن دنيانا!!.
قرأت ما هو مكتوب على اللوحة الرخامية عند قاعدة تمثال السياب.. هذا هو اسمه.. وهذا عام مولده وذاك عام رحيله عن دنيانا، وفقا للتقويمين الميلادي والهجري.. وهذه سطور من قصيدته الرائعة التي كنت - وما زلت - أحفظها منذ سنوات.. قصيدة »غريب على الخليج« التي يضمها ديوانه العظيم »أنشودة المطر«.. والسطور المختارة، تصور مشاعر السياب عندما كان هائما على وجهه، خارج العراق، يعاني الغربة والضياع عام ٣٥٩١. إنها سطور يتكشف منها مدى إحساس السياب بالوحشة وهو بعيد عن شمس العراق، وبعيد كذلك عن ظلام الليل في العراق..
الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام
حتى الظلام هناك أجمل فهو يحتضن العراق
واحسرتاه متى أنام
فأحس أن على الوسادة
من ليلك الصيفي طلا فيه عطرك يا عراق؟
بين القرى المتهيبات خطاي والمدن الغريبة
غنيت تربتك الحبيبة..
عندما انتهيت من القراءة مرة.. ومرات.. قلت لنفسي: »واحسرتاه.. إن الشظايا التي لا ترحم أسقطت العديد من النقاط من فوق الحروف.. وعلى سبيل المثال فإن نقطة الجيم في »الشمس أجمل..« قد سقطت.. وتنبهت أيضا إلى أن رقم (9) من عام مولده بالتقويم الميلادي قد سقط هو الآخر.. لكني اندهشت حين قرأت أن عام مولده - وفقا لما هو مكتوب على قاعدة التمثال - هو عام ٥٢٩١، إن كل الدارسين والباحثين قد ذكروا أن السياب ولد عام 1926، بمن فيهم محمود العبطة في كتابه الأول عن السياب، لكنه في كتابه الثاني حاول أن يثبت أن السياب قد ولد عام 1925، حيث يذكر أنه راجع سجلات المدرسة المحمودية الابتدائية، وقد عثر على معلومات خاصة بالشاعر نقلها من السجل رقم (6) وصفحة السجل 757 »والمعلومات هي: المحلة: قرية جيكور - تاريخ الولادة 1925 - آخر مدرسة كان فيها قبل دخوله المحمودية مدرسة باب سليمان - أبيض الوجه - أسود العينيين - أحواله الصحية جيدة وسيرته في المدرسة جيدة«.
إذن فإن من اختاروا ما هو مكتوب على اللوحة الرخامية قد استشاروا محمود العبطة بشأن تاريخ ميلاد الشاعر، مع أن السياب نفسه - خلال حياته - كان قد أشار في مواضع عديدة إلى أنه ولد عام 1926، ولم يذكر مطلقا أنه ولد عام 1925 ، وبالمناسبة فإن بلند الحيدري وعبدالوهاب البياتي قد ولدا أيضا عام 1926، وهما - كما نعرف - من جيل السياب.
أنصرف الشعراء قاصدين فندق شيراتون - البصرة، للراحة، واكتشفت أنه لم يبق سواي وغيداء وأختها آلاء وشاب رقيق من البصرة هو أياد سعيد مزعل، وحين انطلقت سيرا على الأقدام إلي الفندق سألت غيداء أن تسمح لي بزيارة البيت.. بيت السياب رحبت بطلبي الذي كنت أهدف من ورائه إلقاء نظرة على مكتبة السياب، وعلى ما قد يكون موجودا من قصائد مخطوطة أو رسائل موجهة له من الأدباء العرب، إلى جانب لقائي بزوجته السيدة إقبال طه العبد الجليل.
أحسست وأنا أدخل بيت السياب أني إنما أدخل بيتي، وأنه كان يتعين علىَّ أن أدخل هذا البيت منذ سنوات. واستقبلتني السيدة »إقبال« بترحاب شديد، أضاف إلى ألفتي الروحية المسبقة ألفة روحية جديدة، لكني لاحظت أن أعماقها تشي بالحزن المقيم، الذي تحاول أن تخفيه عن ملامح وجهها دون أن تفلح، فهي تعرف أن الشعراء العرب ضيوف »المربد« قد حضروا إلى البصرة، ليضعوا أكاليل الزهور على قاعدة تمثال زوجها الغائب عنها سنة ٤٦٩١.
زاد من ألفتي الروحية مع المكان ذاته، أني لاحظت أن جدران غرفة الاستقبال مطلية باللون الأزرق الفاتح، وأن الأرائك والمقاعد خضراء اللون.. إنني أحب هذين اللونين.. الأزرق يعني عندي البحر والسماء، والأخضر عندي يعني الحقول والغابات.
أقبلت الابنة الصغرى »آلاء« بالمشروبات الغازية أولا، لكني لم أشرب، بصراحة كنت محتاجا لكوب من الشاي.
.. كان السياب يحب الشاي كثيرا، ويروي أصدقاؤه ومخالطوه أنه كان يجلس في الأمسيات في العديد من المقاهي الشعبية، ومن بينها مقهى »الزهاوي«، وكان لا يشاهد إلا وأمامه كوب الشاي، »الاستكان« بينما هو منهمك في قراءة أبي تمام.. كان هذا في بغداد خلال أواخر الخمسينيات.
أقبلت »آلاء« مرة أخرى، حاملة صينية كبيرة تحوي أطباقا مملوءة بالكعك المحشو بالتمر العراقي، ولم آكل إلا بعد أن علمت أن الصناعة محلية.. فالسيدة »إقبال« والدتها هي التي تصنع هذا الكعك.. أعترف بأني أكلت منه بشهية مفتوحة.
أطلعتني »غيداء« على مخطوطة ديوان »شناشيل ابنة الجلبي« وهو الديوان الذي صدر في أوائل يناير 1965، أي بعد رحيل صاحبه الشاعر الكبير بأيام قلائل..
وأطلعتني على بعض القصائد الأخرى بخطه.. لكن مفاجأتي كانت كاملة حين اكتشفت أن إحدى هذه القصائد لم تنشر من قبل، وبالتالي فهي اكتشاف أدبي، حتى لو لم يكن مستواها هو نفس مستوى قصائد السياب الشهيرة.. استأذنتها في تصوير القصيدة، لكي يتسنى لي نشرها فيما بعد.
القصيدة بعنوان »نبوءة حزينة«، وهي من حصاد عام 1948، وهي مؤرخة - على وجه التحديد - بتاريخ 2 فبراير 1948، وهذا العام هو الذي شهد نهاية قصة الحب بين السياب وشاعرة عراقية معروفة، وكنت قد أفضت في الحديث عن هذه القصة في كتابي عن السياب.. وأدركت بعد قراءة القصيدة أنها من القصائد الموجهة إلى لميعة عباس عمارة، لكنها ليست في مستوى قصائده التي وجهها إليها، ولعل السياب لم ينشرها ضمن ديوان »أساطير« الذي أصدره عام 1950 لهذا السبب.
... دار الحديث بيني وبين السيدة »إقبال«، وسرعان ما تشعب ليصبح حديثا جماعيا، بعد أن انضمت »غيداء« و»آلاء«..
> في البداية قلت للسيدة إقبال: هل لك ان تحدثينا عن ذكرياتك مع الشاعر الكبير؟.. أنا أعلم أنكما قد تزوجتما عام ٧٥٩١.
- قاطعتني السيدة إقبال.. قائلة: »عام 1955« »وحين رجعت إلى كتابي تأكدت أن ذاكرتي قد خانتني، فقد سجلت في كتابي عن السياب أن عقد الزواج قد تم توقيعه في ٩١ يونيو ٥٥٩١. إذن فالاعتماد على الذاكرة وحدها قد يضلل..«.
> شكرت السيدة إقبال على تصحيحها لما ذكرته بشأن عام زواجها من السياب.. وبدأت هي تتحدث لتضيف إلى ما كنت أعرفه أشياء جديدة..
- ... في الشهر التاسع »سبتمبر« عام 1955 كان زواجنا.. ولعلك تعرف أن هناك صلة قرابة بين عائلة السياب وعائلتي.. كان عقد القران في البصرة، لكننا تزوجنا في بغداد في دار من دور محلة »الكسرة«، وأقمنا في »الكسرة« عاما واحدا، ثم انتقلنا إلى »الأعظمية«، وبقينا بالأعظمية فترة من الزمن، إلى أن فصل السياب من عمله في زمن عبدالكريم قاسم، فكان أن رجعنا إلى »البصرة«، وبعد فترة صعبة أعيد إلى العمل، وكان عمله في مصلحة الموانىء، وسكنا نحن في مساكن تلك المصلحة.. وجاءت الفترة الأصعب.. حين ألم به المرض، فانتقلنا إلى بيروت، لكي يعالج هناك، ومكثنا ثلاثة شهور، وحين عدنا إزداد عليه المرض، ودخل مستشفى الموانىء بالبصرة.. وفي خاتمة رحلاته بحثا عن الشفاء، انتقل في الشهر السابع (يوليو) عام 1964، ليعالج في الكويت، سافر زوجي وحده في البداية، ثم التحقت به بعد ذلك لفترة ليست كبيرة، لأني كنت مرتبطة بالدوام باعتباري معلمة في المدارس، وكان لا بد أن أعود نتيجة ظروف عملي.. وبقي هو هناك إلى أن توفي يوم 25 ديسمبر ٤٦٩١.
.. لم أشأ - من ناحيتي - أن أصحح للسيدة »إقبال« تاريخ وفاة السياب، فالصحيح أنه توفي يوم 24 ديسمبر 1964 ووصل جثمانه إلى البصرة، حيث دفن في مقابر »الحسن البصري« في اليوم التالي.. أي يوم 25 ديسمبر 1964، وربما ظل التاريخ في ذهن السيدة »إقبال« (25) لا (24) لأن جثمانه ووري التراب يوم ٥٢ ديسمبر.
> قلت للسيدة إقبال«.. وماذا عن ذكرياتك معه؟.. كيف كانت تبدو شخصيته في نظرك؟.. وكيف كان يعاملك؟ وماذا عن لحظات غضبه ولحظات سروره هنا داخل البيت؟
- لا أذكر أنه كان يغضب أبدا.. لحظات الغضب التي تتحدث عنها لم تمر به هنا أمامي.. كان دائما متسامحا رقيقا.. يحب الكل.. ويحب الهدوء.
> وماذا عن شعورك بعد أن كرمته الدولة وكرمه الجميع بعد رحيله عن الدنيا؟.. ولماذا لم يحصل على هذا التكريم في حياته؟
- أشعر بالراحة النفسية.. مثل الراحة التي يحس بها أي إنسان عندما يجد أن إنسانا غاليا وعزيزا عليه ينال حقه من التكريم.. وأنا أشكر الحكومة العراقية على هذا التكريم لزوجي. والحقيقة أنه خلال حياة السياب، لم يكن هناك اهتمام بالأدب ولا بالأدباء، وبالتالي فلم يكن هناك أي مظهر من مظاهر التكريم له أو لغيره من الشعراء.
> وماذا عن معاناتك أنت »وغيداء وآلاء« إزاء الباحثين الذين يحضرون إلى البيت، لكي يحصلوا على مصادر أو كتب تدور حول السياب.. لكنهم لا يهتمون بعد ذلك بإعادة هذه المصادر أو الكتب إليكم..؟
- نحن دائما نكون مسرورين بقدوم أي ضيف إلى دارنا، فنحن نشعر أن قدومهم هو تكريم للسياب، ولهذا نرحب بهم دائما، ولا نجد أية مضايقة من أحد منهم.
> ولكن ماذا بشأن من يحصلون على كتب أو مصادر، ولا يعيدونها مرة ثانية لكم؟
- نحن نتسامح.. نحن.. لم تستطع السيدة »إقبال« أن تكمل ما تود أن تقوله.. اكتشفت أن عبراتها تختلج.. وكأنها على وشك الإجهاش بالبكاء.. وتمالكت أنا الآخر نفسي بصعوبة.. وأدركت »غيداء« برقتها وذكائها صعوبة الموقف، وصعوبة أن تتحدث أمها بعد ذلك.. فتدخلت هي لكي تكمل الإجابة.
- غيداء: دائما نبدو متسامحين.. روح التسامح تسيطر علينا.. ونقول »على الله العوض..«.. ونعزي أنفسنا بأن هذه الكتب عزيزة على من أخذها مثلما هي عزيزة علينا.. والحقيقة أن بدر شاكر السياب ليس ملكا لنا.. للأسرة.. فحسب، لكنه ملك لكل العراقيين، بل لكل العرب الذين يقدرونه ويحبونه. والحقيقة أننا نعرف الضعف البشري عند الناس، لأنه موجود في طبيعتنا جميعا باعتبارنا من البشر.. ولذا فإننا نتسامح كما قلت لك.
> قلت لغيداء: أود أن أعرف مدى اهتمامك بشالعر، على الرغم من أنني علمت منك أثناء حديثنا في الطريق إلى الدار انك تخرجت من كلية الهندسة - جامعة البصرة؟
- اهتمامي بالشعر ينحصر في قراءته فقط، وللأسف فإنني لا أملك الموهبة التي تتيح لي ممارسة كتابة الشعر وبالتالي أكتفي بالقراءة، وأجد فيها متعتي.
> وما رأيك في شعر والدك؟
- يدر شاكر السياب في رأيي قمة.. لكني - في مرات كثيرة - أحس بالتعب وأنا أقرأ له.. والحقيقة أن انتمائي له وما يسببه هذا الانتماء يمكن أن يكون له تأثيره بالنسبة لرأيي.. ولكن يبقى بدر شاكر السياب سارية علم.
> كنتِ صغيرة عندما توفي والدك - رحمه الله - ولكن هل تستطيعين أن تحددي أية مواقف أو ذكريات معه خلال حياته؟
- الذكرى الوحيدة التي ستبقى في نفسي، لأني - كما قلت أنت - كنت صغيرة.. هي ذكرى رجوعه من الدوام بعد العمل.. كان يأتي متوكئا على عكازه الخشبي.. وجيوبه مليئة بالشكولاته والسجائر.. الشكولاته لي ولغيلان وآلاء.. أما السجائر فله.. هذه هي الذكرى الوحيدة التي ستبقى في نفسي.. أما بقية الأشياء فإنها مجرد أطياف حلوة.. أو مجرد آمال أتخيلها وأتوهم أنها حقيقة من شدة شوقي إليه.. إلى بدر شاكر السياب.
.. تخيلت كم كان يعاني وهو يتوكأ على عكازه الخشبي، وكم كان يعاني معاناة أشد، وهو يحاول أن يدبر نقودا لكي يشتري »الشكولاته«.. لغيلان وغيداء والاء.. والسجائر له.. تخيلت هذه المعاناة، لأني تذكرت رسائله التي كان يرسلها لأصدقائه، وكلها تدور حول هذه المعاناة.. رجعت - فيما بعد - إلى هذه الرسائل.. وهذه فقرة من رسالة كان قد أرسلها لجبرا ابراهيم جبرا من لندن، أثناء إقامته هاك للعلاج، والرسالة مؤرخة بتاريخ 30 يناير 1963، أي قبل رحيله عن دنيانا بما يقرب من عامين..
يقول السياب لجبرا في رسالته:
».. فوجئت عندما علمت أمس من السفارة العراقية أن رمضان قد حل. لكن همّاً أصابني.. سيأتي العيد وليس هناك من يشتري ملابس جديدة لأطفالي.. إن راتب أبيهم لا يكفي لأكثر من إطعامهم.. أفلا تستطيع إقناع الدكتور محمد الأمين بإرسال ما أستحقه عن ترجمة جزء من كتاب الأدب الأميركي إلى زوجتي.
إن ذلك سيجعلني مرتاحا ويزيل القلق من أفكاري. إذا لم يستطع فلتتفضل أنت بارسال أربعين أو ثلاثين دينارا إليها وسأعطيك إياها حين تعود أو تأخذها مما أستحقه عن الترجمة..«.
> سألت آلاء التي كانت تصغي لحديثي مع غيداء عن اهتماماتها بالقراءة، ومن الذين تقرأ لهم من الأدباء؟.. وبالمناسبة فإن آلاء لم تدرس الأدب شأنها شأن غيداء، وشأنهما شأن غيلان.. فغيلان يدرس الهندسة في أميركا على نفقة الدولة تكريما لوالده (كما قيل لي).. وغيداء سبق أن ذكرت أنها درست الهندسة.. أما آلاء فقد درست التجارة والمحاسبة..
- على رأس قائمة قراءاتي يأتي بدر شاكر السياب.. وأقرأ كذلك لفدوى طوقان.. ولشعراء المقاومة الفلسطينية وأذكر منهم سميح القاسم ومحمود درويش.. كما أقرأ لنزار قباني وصلاح عبدالصبور وخليل خوري.
> وماذا عن قراءاتك في الرواية؟
- قرأت أكثر روايات نجيب محفوظ، وأحيانا أعيد قراءة بعض ما قرأته منها.
> .. وماذا تعملين الآن؟.. إن غيداء ذكرت لي أنها تعمل في محطة ضخ الكهرباء بالبصرة.. أنت؟
- أعمل محاسبة بدائرة الإحصاء في البصرة.
> هل لك هوايات أخرى غير القراءة؟
- أحب أن أستمع إلى الموسيقى وإلى الأغاني.
> من هم المطربون الذين تفضلينهم؟.. إن والدك - مثلا - كما يروي أصدقاؤه كان مغرما بالاستماع إلى أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب.. فماذا عنك أنت؟
- عبدالوهاب.. اعتيادي أتصور.. إن ماكو شخص مو مغرم بعيد الوهاب.. وأحب أضيف فريد الأطرش.
.. كان جوابها هذا بالعامية العراقية.. وقد تركته كما هو.. لأنها كانت متحمسة وهي تجيب.
> هل تحدثينني عن غيلان، لأنه ليس موجودا معنا الآن؟.. لقد سمعت أنه يكتب الشعر وينشره.
- عفوا.. لا أتصور أن غيلان قد نشر شيئا من شعره.. إنه يكتب، لكنه يحتفظ بقصائده لنفسه.. ولكني أتصور أن غيداء يمكن أن تفيدك أكثر مني، بصفتها أختي الكبيرة، فضلا عن تقارب السن بينها وبين غيلان.
> غيداء: أرى أن غيلان يمكن أن يسير على خطى بدر شاكر السياب، لأنه يبدو متأثرا به إلى حد كبير، ومع ذلك فإن قصائد غيلان تظل مجرد بدايات.. لا يزال غيلان في السفح.. أما بدر شاكر السياب فإنه في القمة.
- في تقديري أن هذا طبيعي.. فأنا أذكر لك مثلا أن »حسين« وهو ابن »أمير الشعراء« أحمد شوقي يكتب الشعر، بل له ديوان مطبوع، ولكن شتان ما بين شعر أحمد شوقي وشعر ابنه.
حان وقت انصرافنا من البيت.. غيداء.. والشاب العراقي إياد الذي تطوع لتوصيلنا للبيت بسيارته.. وأنا.. شكرت السيدة »إقبال« وشكرت »آلاء«.. وانطلقنا لحضور فقرات برنامج زيارة ضيوف »المربد« للبصرة.
يهمني الآن أن أذكر أن »غيداء« قد ولدت يوم ٤٢ ديسمبر عام 1956، أي في نفس اليوم الذي رحل فيه السياب عن دنيانا بعد ثماني سنوات من ميلادها.. وقلت لنفسي أية آلام سببتها المصادفة وحدها.. حين تتذكر »غيداء« الإنسانة الرقيقة أن يوم ميلادها يصادف يوم رحيل أبيها.
ويهمني كذلك أن أذكر أن غيداء والاء لم تشيرا مطلقا إلى أبيهما بكلمة »والدي« أو »أبي«.. كانتا عندما تشيران إليه تقولان: »بدر شاكر السياب«.. كأنما يحلو لكل منهما ترديد الاسم بالكامل.
أما غيلان فقد ولد يوم ٣٢ نوفمبر عام 1957 وقد فرح به السياب.. ورأى في ميلاده امتدادا حيا لوجوده، على نحو ما يذكر في قصيدته »مرحى غيلان«.
يا سلم الدم والزمان: من المياه إلى السماء
غيلان يصعد فيه نحوي، من تراب أبي وجدي.
ويداه تلتمسان، ثم، يدي وتحتضان خدي..
فأرى ابتدائي في انتهائي.
.. وتبقى »آلاء«.. ولدت آلاء في البصرة يوم 7 يوليو 1961
وإذا كنت قد حلمت كثيرا - عندما كنت طالبا بالجامعة - أن يأتي السياب ليزور مصر، وبالتالي يقدر لي أن ألقاه.. وإذا كنت قد دخلت بيته ولكن بعد رحيله بإحدى وعشرين سنة.. فإن السياب نفسه - كما يتضح من إحدى رسائله - كان يحلم وهو في بريطانيا بأن يزور قرية شكسبير ويزور الشاعرين اللذين أفاد منهما في شعره، وهما ت. س. إليوت وإيديث سيتويل.. حيث يقول في رسالة لجبرا ابراهيم جبرا بتاريخ 15 فبراير 1963:
».. لو كنت قد نلت الشفاء لزرت قرية شكسبير على نهر الآفون - ستاتفورد - على الآفون، ولعملت على أن أزور الشاعرة الانكليزية العظيمة ايدث سيتويل وشاعر العصر ت.س.إليوت. لعل ذلك سيتحقق مرة أخرى.. من يدري؟..«.
.. لكن ذلك لم يتحقق.. ولن يتحقق أبدا.
بالطبع فإن زيارتي لبيت بدر شاكر السياب قد تحققت - كما ذكرت - سنة 1985 ولكن ما الذي جرى بعد ذلك بعدة سنوات وعلى وجه التحديد بعد الاحتلال الأمريكي الغادر والجائر للعراق ابتداء من يوم 8 أبريل سنة 003؟
الذي جرى - وباختصار - أن المليشيات الشيعية قد هددت غيداء وآلاء بالتصفية الجسدية إذا لم تغادرا البصرة بصورة طوعية ، وهذا ما كان .. غيداء الآن في الموصل وآلاء في بغداد ، والإثنتان هما بنتا شاعر العراق العظيم بدر شاكر السياب!!
التعليقات (0)