مواضيع اليوم

زورْبَا .. رواية : كازانتزاكي

يوسف رشيد

2010-05-10 16:37:08

0

 

نيكوس كازانتزاكي : هو أشهر الكتاب اليونانيين في القرن العشرين .. ولد سنة 1885 ، وفي عام 1946 دخل الحياة السياسية اليونانية ، وعُين رئيسًا للمجلس الأعلى للحزب الاشتراكي ، ثم وزيرًا ، لكنه استقال بعدها بعام واحد ليكون أديبا مستقلا ..
وفي عام 1947 ذهب إلى فرنسا حيث أدار مكتب ترجمة حتى توفي في عام 1957 .

أهم مؤلفاته :

ـ رواية " حياة أليكسس زوربا " التي اشتهرت باسم " زوربا " ..
ـ الملحمة الشعرية " الأوديسة " التي تتكون من 33 ألف بيت شعر ، وتبدأ من حيث تنتهي " أوديسة هوميروس " .

كازانتزاكي كان مولعًا بالترحال وعاشقا للسفر ، واشتهرت عنه العبارة : " اهدئي يا روحي ، لطالما كان موطنك هو الترحال " وهذا ما أعطى رواية " زوربا " البعدَ النفسي لأدب الرحلات ..

الرواية :
على أحد شواطئ جزيرة كريت ، يلتقي رجلان لاستثمار منجم للينيت .. يحاول أحدُهما ـ وهو الراوي ـ أن يفرَّ من عالم
المعرفة المحموم المخيِّب . فالتقى رفيقا " ألكسس زوربا " وهو إنسانٌ مدهشٌ ، مغامرٌٌ ، سندبادٌ بريٌّ ، فعَهد إليه بإدارة الأعمال .. وسرعان ما انعقدتْ أواصرُ صداقة عميقة بين ذلك المتحضِّر الممتلئة نفسه بالفلسفة الشرقية ، وهذا المتوحِّش الرائع الذي تقوده غرائز قوية ، والذي يعيش الحياة بكل امتلائها وزخمها ، ويحب الطبيعة والمرأة ، ويروي مغامراته الغرامية بحيوية نادرة المثال ، وينطق بالحكمة أروع مما ينطق بها فيلسوف .
وقد انتهى استثمار المنجم بإخفاق ، ولكن القصة التي يعيشها
القارئ مع هذين البطلين والأبطال الآخرين ، ولا سيما
تلك المرأة المغامرة التي وقعت في غرام زوربا ، تظلُّ
إحدى الروائع الكبرى في الأدب الحديث ..

الشخصية الأولى في الرواية هي " الراوي ـ الرئيس " الابن المدلل للمدينة ، الذي أمضى حياته بين الكتب والفلسفة ، وظل حبيسًا في غرفته الصغيرة .. لم يخرج حتى يعيش الحياة , ويعرف فلسفتها ، في الشمس ، وفي الشاطئ ، وفي الطيور المهاجرة , حتى أتى " زوربا " وعلمه الدروسَ التي لن تستطيعَ الكتبُ يومًا ما ، تلقينه إياها .. لأن الحياة : هي كل شيء خارج الكتب ، ولا شيء منها داخل الكتب ..

كازنتزاكي يخبرنا بأن الكتبَ لا تحملُ الإجاباتِ ، وإنما فقط كما يقول الرئيس : تحكي عن عذابِ أولئك الذين لم يستطيعوا أن يجدوا الإجابات ..
ويؤكد كازنتزاكي نظرته عن هذه النوعية من الأشخاص الذين يسمّيهم : " قوارض الورق " .. فيقول على لسان الرئيس في إحدى عبارات الرواية :
((ولم أقل شيئا , كنتُ أعرفُ أن زوربا محقّ , كنتُ أعرفُ ذلك , ولكنني أفتقدُ الشجاعة .. لقد تنكبتْ حياتي الدربَ الصحيح , ولم يكنْ احتكاكي بالبشر إلا مونولوجًا داخليًا .. لقد انحدرتُ وانحدرتُ ، حتى إنه لو كان عليّ أن اختار بين الوقوع في حبّ امرأة ، أو قراءة كتابٍ جيدٍ عن الحبّ , لاخترتُ الكتاب )) ..
هذه هي الحياة التي قضاها الرئيس ..
لكن ، ما الذي غيّرَها فجأة ؟ وكيف جعلته يحملُ نفسَه ليقومَ بتلك المغامرة الخطيرة التي لم تكنْ من شِيَمِه أو عاداتِه وليذهبَ إلى القرية كي يبحثَ عن الذهب ، ويتحولَ إلى رأسمالي صغير ، كما يقول في إحدى رسائله ساخرًا ؟

كازنتزاكي كان حريصًا جدًا على بناء الشخصيات في الرواية والإمساك بحبالها باحترافية ومرونة يُحسد عليها ..

هذا التحول الكبير في شخصية بطل الرواية كان بسبب الصدمة الكبيرة ، أو بالأصح ، بسبب ذلك الشخص الغامض " زوربا " الذي يأتي في الرواية بين حين وآخر , يطلُّ علينا حينما يفتح له " كازنتزاكي " نافذة الفجر ، ثم يغلقها ، ويترك في داخلنا لهفة إلى معرفة المزيد عنه ، واكتشاف تلك العلاقة الغامضة التي جمعته مع الرئيس ..

وإذا أردتَ أن تكون مثل زوربا , فيجب ألا تنظر إلى العرق والدين والشكل واللغة , بل انظر إلى الإنسان فقط .. إنه إنسان , يأكل , ويشرب , ويحب , ويخاف , وسيلقي سلاحه لاحقاً , ويرقد جثة متصلبة تحت الأرض ..

أن تكون " زوربا " , معناه أن تعيشَ صخبَ الحياة. ..

إن شخصية " أليكسس زوربا " ستبقى واحدة من أعمق الشخصيات وأعظمها في القرن العشرين , شخصية مثيرة للجدل دومًا ، ومثيرة للعاطفة أيضاً , يصعُبُ على أي شخص قرأ الرواية ألا يقع في حبّ هذا العجوز ..
إن ذلك الاستحقار الذي يشع من قلب زوربا ، لا تملكُ إلا أن تصفقَ له ، وأن تعجبَ به ، حتى ولو لم تتفقْ معه ..

زوربا ، لم يتعلم الدين من بوذا أو المسيح .. اتبَعَ فطرته ، وكان كافيًا لأنْ يفهمَ الحياة وعبثيتها .. يقفُ بهامته الكبيرة كواحدة من أفضل الشخصياتِ الفلسفية الذي ولدَها عالمُ الروايات ، وواحدة من أكثر الشخصيات إلهامًا ..
زوربا ، ليس ذلك الفتى الشاب المقبل على الحياة ، بل هو العجوز الذي خبرَ الحياة ، وعرفَ سرَّها ، وهاهو الآن بعمر الستينات ..
إن تصرفاتِ زوربا الطائشة ، أقرب ما تكون إلى الحكمة ، منها إلى الرعونة .. وربما سيختلفُ الوضعُ كليا لو لم يكن زوربا بهذا العمر ، لأننا قد نصادفُ أشخاصًا مثله مُتخمين بالطبائع الخشنة واللامبالية ، لكنْ ، لن نحبَّهم ، وسنقول : " غدا يكبرون ويعلمون أن الحياة ليست مجردَ لهو ولعبٍ " .. وفي حالة زوربا ، فإنه كبرَ وشاخ ومرَّ بتجاربَ ورحلاتٍ في حياته ، حتى عرَفَ أنّ الحياة مجردُ لهو ولعبٍ .. وهذه العبثية التي تفوحُ من شخصية زوربا ، تعكسُ شخصية رجل مرّ بالكثير ، وعرفَ الكثير ، وخسرَ الكثير ..
فعندما يحكي عن الوطن والتضحيات التي فعلها لأجل هذا الشيء الهلامي المسمّى وطنًا ، يقول :

((إذن حملتُ بندقيتي ومضيتُ .. ودخلتُ المقاومة كجندي متطوع غير نظامي ، وفي ذاتِ يوم وَصلتُ فجرًا إلى قرية بلغارية ، واختبأتُ في إسطبل , في منزل كاهن بلغاري ، بالذات الذي كان ـ هو أيضا جندي شرس من رجال العصابات ـ وحشًا دمويًا , كان في الليل يخلعُ بذته الكهنوتية ويرتدي ثيابَ راعٍ , ويأخذ سلاحَه ويتغلغلُ في القرى اليونانية ، وعند الصباح يعودُ قبلَ الفجر ، ملوّثا بالوحل والدم ، ثم يقوم بقداسه ..
وكان ـ قبل بضعة أيام من وصولي ـ قد قتلَ معلمًا يونانيًا في فراشه أثناء نومِه .. دخلتُ إلى إسطبل الكاهن واستلقيتُ على ظهري فوق الروثِ ، وراءَ بقرتين ، ورحتُ انتظر .. وعند المساء دخلَ الكاهنُ ليقدمَ علفًا لبقرتيْه ، فألقيتُ بنفسي عليه وذبحتُه كالخروف ، وقطعتُ أذنه ، ووضعتها في جيبي , فقد كنتُ أجمعُ الآذان البلغارية ...
بعد عدة أيام عدتُ إلى القرية نفسِها في وهْج الظهيرة متظاهرًا بأنني بائعٌ جوّالٌ ، كنتُ قد تركتُ سلاحي في الجبل ، ونزلتُ لأشتريَ خبزًا وأحذية للرفاق .. وأمامَ أحدِ المنازل ، رأيتُ خمسة أطفال في ثيابٍ سودٍ ، عراة الأقدام يتماسكون بالأيدي .. لم يكنْ أكبرُهم يتجاوز العاشرة ، وأصغرُهم كان لا يزال طفلا رضيعًا , وكانتْ أكبرُ البناتِ تحمله بين ذارعيْها ، تقبّله وتلاطِفه لعله يكفّ عن البكاء ..
لستُ أدري كيف خطرَ لي ، أو إنه كان إلهاما إلهيًّا ، أن أقتربَ منهم وأسألهم بالبلغارية :
- أطفالُ منْ أنتم يا صغاري ؟
فرفعَ أكبرُ الصبيان رأسَه الصغيرَ وأجابني :
- أولادُ الكاهن الذي ذبحوه منذ عدة أيام في الإسطبل ..
اغرورقتْ عينايَ بالدموع ، وأخذتِ الأرض تدور كرحى الطاحون ، فاستندت إلى جدار ، وقلت لهم :
- اقتربوا يا أطفال .. تعالوا قربي ..
وأخرجتُ كيسَ نقودي من حِزامي ، وكان مليئا بالليرات التركية والمجيديات ، وركعتُ على ركبتيَّ وأفرغته على الأرض ، وصحتُ :
- خذوا , خذوا , خذوا ))

أي جنون هذا الذي يعصف بزوربا ؟؟!! يقتل شخصًا ، ثم يجد أطفاله ، فيحنو عليهم ، ويفرغ لهم كيس نقوده ؟؟!!
أليس للمحاربين أطفال وعائلة وأسرة ؟ كيف نقتلهم ثم نتصدق على أبنائهم ؟
هذا التناقضُ الذي ركع له زوربا أخيرا ، في كنيسة العقل ، وقرّر أنْ تكونَ حياته كلها عبثية ، بدون " لماذا؟ " أو " ثم " كما يقول هو ..! فقط يعيشُ حياته بكل ما شهقته رئتاه من أحزان , يمتصُّ الحياة حتى النخاع ، ويشربُ كأسَها حتى الثمالة ..
هذا هو زوربا .. مليءٌ بالحياة .. مليءٌ بالتناقض .. مليءٌ بالعبثية .. مليءٌ بكلّ شيء .. وفارغ من كلّ شيء ..

(( - هكذا تخلصتَ من الوطن ؟
فأجاب بصوتٍ حازم وهادئ :
- نعم من الوطن ..
ثم بعد فترة :
- تخلصتُ من الوطن , تخلصتُ من الكاهن , تخلصتُ من المال , إنني أغربلُ نفسي ..
كلما تقدّمَ بي العمرُ ، غربلتُ نفسي أكثر , إنني أتطهّر .. كيف أقول لك ؟ إنني أتحرّر .. إنني أصبحُ إنسانًا حرًّا )) ..

كازنتزاكي خَلقَ الحياة كلها في داخل هذه الشخصية ..!

وقد أخرجَت الرواية في فيلم سينمائي ضخم ورائع ، تولى دورَ زوربا فيه الممثلُ أنطوني كوين ، إلى جانب " إيرين باباس " التي مثلتْ دورَ تلك الأرملة التي ضحتْ بنفسها لمجد القرية .


من الرواية :

ـ الطريقة الوحيدة لإنقاذ نفسكَ ، هي أن تناضلَ لإنقاذ الآخرين ..
ـ إذًا ، فلا بد من الجرائم والنذالات الكثيرة حتى تحلَّ الحرية في هذا العالم ..
ـ إن الله بدلا من أن يرسلَ الصواعقَ علينا لحرقنا ، أعطانا الحرية ..
ـ إن هذا العالم سرٌ ، وإن الإنسانَ ليس سوى وحش كبير ..
ـ وراءَ كل امرأة ينتصبُ وجه "أفروديت" ، صارمًا ، مليئًا بالأسرار ..
ـ إن في المرأة جرحًا واحدًا لا يلتئم أبدًا ..إن جميعَ الجراح تلتئمُ ، لكن هذا لا يلتئمُ أبدًا ..
ـ إن متوحشي إفريقيا يعبدون الثعبانَ لأنه يلمسُ الأرضَ بكل جسده ، فيعرف جميع أسرار العالم ..
ـ إن المرأة لسرٌّ .. إنها تستطيعُ أن تسقطَ ألف مرة ، لكنها تنهضُ ألف مرة من جديد ، عذراء .. لكن قد تسألني لماذا ؟؟
حسنا .. لأنها لا تتذكر ..
ـ آآآآآآآآه .. يا للشقاء .. لو أن جميعَ النساء الجميلات يَمُتـْنَ على الأقل ، في الوقت الذي أموتُ فيه أنا ..
ـ ليس للحم طعمٌ ، إلا إذا كان مسروقا ..
ـ هناك أسوأ ممن هو أصم .. إنه الذي لا يريدُ أن يسمعَ ..
ـ إذا نامت امرأةٌ لوحدها ، فهذه خطيئتنا نحن الرجال ..
ـ عليكَ أن تشربَ دون أن تتفحصَ الماءَ بعدسة مكبرة ، وإلا متَّ عطشا ..
ـ إن الخطيئة التي تعترف بها ، يغفر لك نصفها ..
ـ إن المرأة الحقيقية تتمتع باللذة التي تمنحها أكثر من تمتعها باللذة التي تأخذها من الرجل ..
ـ لو كنا نعرفُ ما تقوله الأحجارُ والأزهارُ والمطرُ, لعلها تنادي .. تنادينا ونحن لا نسمعُ , متى ستنفتحُ آذانُ الناس ؟ متى ستنفتحُ أعيننا لنرى ؟ متى ستنفتحُ الأذرعُ لنعانقَ الجميعَ , الحجارة , والأزهارَ, والمطرَ والبشرَ ؟

06/07/1984
السبت ـ 08/أيار/2010

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !