ناشر كتابات الأديب العربي الفلسطيني عدنان السمان يقدم :
(حكايات من زمن التيه)
هذا هو القسم الثاني من كتاب " زمن التيه" ويشتمل على أربعين عنوانًا تشكل القسم الثاني من هذا الكتاب:
4. زواج!!
صديقُ طفولتي "جلال" يحتفظُ بكثيرٍ من الحيويةِ والنضارةِ والشبابِ رغمَ تَقدُّمِه في السنّ.. ماتتْ زَوْجُهُ منذُ مدة.. لا يرغبُ في العيشِ مَعَ أحدٍ من أبنائِه.. قادر على توفيرِ ما يلزمُ البيت.. صحتُهُ جَيّدة.. عرضَ عليهِ "أولادُ الحلالِ" أن يقترنَ بأرملةِ الحيِّ الجميلةِ التي لَزِمَتْ بيتَها، وَعَزَفَتْ عن التّفكيرِ بمتاعِ الحياةِ بعدَ وفاةِ المرحوم.
أقنَعها أولادُ الحلالِ بأنَّ صديقي "جلال" هو الزوجُ المناسبُ الذي قد يُؤنسُ وحْدَتَها، ويبدّدُ وحشَتَها، ويخرجُها من عُزلتِها بما يتمتعُ بهِ من الحكمةِ والتجربةِ، وطيبةِ القلبِ، والمكانةِ الاجتماعيةِ، والقدرةِ على الإنفاق.
كما قامَ هؤلاءِ أيضًا بالدَّورِ نفسِهِ في إقناعِ "جلال" بأنَّ أرملةَ الحيَّ الجميلةَ بحاجةٍ إلى رجلٍ يعيلُها، وزوجٍ يحميها، ويُعيدُ إليها الثقةَ بالنفسِ، ويبعثُ فيها حبَّ الحياةِ من جَديد.. وهذه هي طبيعةُ الحياةِ، وسُنَّةُ اللهِ في خَلْقِه.. ولنْ تجدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْديلا.
قال جلال: ماذا يريدُ هؤلاءِ الرفاقُ مني بعد أن بلغَ الكبرُ مني مبلَغَهُ؟
قلتُ: يريدونَ أن تعيشَ حياتَك أيُّها الصديق.
قال: إنني أعيشُها كما أريد.. لا كما يريدون..
قلت: الحياةُ بدون امرأةٍ ليستْ حياة.
قال: عجيب أمرُك.. إن لَكَ في كل يومٍ رأيًا فيهِنّ!!
قلت: أبدًا والله، إن رأيي فيهنَّ لم يتغيّرْ منذُ عرفتُهنّ.. وإنني أتّفق في ذلكَ معَ صديقنا الشاعرِ إذ يقولُ:
بِسوى المرأة عَيْشٌ لا يَسُوغْ فَهْيَ أَصْل في ذَكاءٍ وَنُبوغْ
وأرى أَسْعَدَ شَيْءٍ في الدُّنا رَجُلاً واصَلَها مُنذُ الْبُلوغْ
قال: لِلهِ دَرُّك! ولا فُضَّ فمُ شاعرنا عليّ·.. قل لي: وماذا بشأنِ أرملةِ الحيِّ الجميلةِ التي تتحدثونَ
عنها؟
قلت: هي سيّدة جميلة حقًّا.. هاجرَ أهلُها إلى أقصى شمالِ القارةِ الأوروبيةِ منذ زمن.. وبقيتْ هنا معَ زوجها الذي رحل عنها، فأصبحت وحيدة ليس لها من معيل.. والآنَ يريدُ رفاقُكَ أن يَزُفّوها إليكَ أيها الرفيقُ المحترم.. ونصيحَتي إليكَ أن لا ترفضَ هذا العَرْضَ.. فأنتَ بحاجةٍ لزوجةٍ كهذه!
قال: سأرى..
وبقيتْ هذه النّخبةُ الطيبةُ من أهلِ الحيِّ تبذلُ مساعيها حتى تكَلّلتْ هذه المساعي بالنجاح.. واقترنَ العروسان..ولكن شهدَ الحيُّ في تلك الليلةِ اجتياحًا مُرعبًا.. وكانت المداهماتُ، والمصادماتُ، والاعتقالاتُ، والاغتيالاتُ، وإخلاءُ البيوتِ من سكانِها.. والقذفُ بهم في العَراءِ.. كانتْ ليلةً حالكةَ السّوادِ.. مخيفةً مرعبةً رهيبة... لم يمتْ "جلال" في تلك الليلةِ.. ولكنّه اعتزلَ الحياةَ والناسَ.. وانطوى على نفسه.. وساءتْ حالُهُ أكثر بعد أن عَرفتْ نوْبات من البكاءِ المرِّ طريقَها إليه.. لقد زرتُه كثيرًا.. وتحدثتُ إليه مُستفسِرًا عمّا جرى.. ولماذا يحدثُ كلُّ ما يحدث، وأين هي عروسُه التي زُفَّتْ إليه في ليلةِ الاجتياح تلك.. ولكنّه لم يكنْ لينطقَ بكلمةٍ واحدةٍ.. بل يبكي كالأطفالِ بكاءً يمزِّقُ القلوب..
وفي ليلة من الليالي.. وأمام إلحاحي عليهِ، وتوسّلاتي إليه بأنْ يُجيبني عن أسئلتي واستفساراتي.. نظر إليَّ وعيناهُ مغرورقتانِ بالدمعِ وَقال:
"أما أنا فقد انتهى أمري.. أتعرفُ ما الذي تَعنيه هذه الكلمات؟ لقد كانت الصدمةُ أقوى من مَقْدرتي على الاحتمال.. أرأيتَ كيفَ دخلوا بيتي؟ لا أحدَ يعرفُ كيفَ اختفتْ حقيبتي الصغيرةُ التي أحتفظُ بها منذ أيامِ الشباب والتي أُودِعُها فلوسي، وأَوراقي الثبوتيةَ، وكثيرًا من المستنداتِ والوثائقِ الرسميّةِ.. صحّتي الجسديّةُ في أسوأ أحوالِها.. ولم يعدْ لديَّ الحدُّ الأدنى من الرغبةِ في هذه الحياة.. والصحةُ النفسيةُ في الحضيض.. لقد خرج الأمرُ من يدي.. وفقدتُ السيطرةَ على "جلال" المهزومِ المحطّمِ الذي ينتظرُ نهايتَهُ في كل لحظة".
قلت: هذا مرعب.. و"فلانة"؟
قال: في اليومِ التالي لذلك الاجتياح المرعبِ، وبعد أن أصبحتِ الحركةُ ممكنةً نسبيًّا سلكتْ "فلانة" ذلك الطريقَ الجبليَّ وحيدةً (بعد أن فقدتُ القدرةَ على المشي كما ترى) متوجهةً إلى بيتِ قريبٍ لي هناك في قريةٍ خلفَ الجبلِ يعملُ مُسْعِفًا، وصيدلانيًّا، وطبيبًا، وممرضًا مَعَ عَدَدٍ من أصدقائِهِ العاملينَ في مجالِ المهنِ الطبيّةِ يُقدّمونَ العونَ للناس.. وقد حمَّلتُها رسالةً إليه.. وقد وصلتْ "فلانة"، كما وصلتِ الرسالةُ.. هل فهمتَ؟
ثم اعتــدل "جلال" في جلستِهِ قليلاً.. وقالَ (كَالمخاطبِ نَفسَهُ) بصوتٍ خافتٍ: "مكانَكُمْ أيها المعتَدونَ الباغونَ الطامعون.. مَكانَكُمْ أيها العتاةُ السفّاحونَ.. يا مَن أرعبتُمْ الأطفالَ، وَرَوَّعْتُمْ رَبّاتِ الحِجال، ونَسَفْتُمْ كل جُسورِ الثقة، وقَتَلتُمْ كلَّ كلمةٍ طيبةٍ كان من الممكنِ أن تُقالَ لتحلَّ محلَّ كلِّ هذا الخرابِ والدَّمارِ الذي يَغشى البِلادَ والعباد... مَكانَكُمْ أيُّها المخدوعونَ اللاهثون خلفَ السَّراب.. رُوَيْدَكُمْ رويدكم.. فقد أتى يومُ الحساب.. لقد روى لنا الأجدادُ قصّةً مثيرة كانوا يسمعونها من آبائهم عن أناس كانوا يعيشون هناك خلف مغرِبِ الشمسِ بقليل، وكانوا دائمًا يرددون في ختام هذه العبارات الساخنة قولَهم:
"لن تُفلتوا.. لن تُفلتوا من العقاب". أفهمتَ الآن؟ هل فهمت؟
قلت: نعم.. يا جلال.. بقي أن تفهمَ أنتَ أن علاجَك ممكن.. وأنّك ستُغادرُ غدًا إلى المشفى الذي سَيتولّى أمْرَك.. وَثِقْ يا "جلالُ" أنَّنا في الحيِّ سَنَظَلُّ ننتظرُ عودتَكَ إلينا سالمًا.. على أحرّ من الجمر.
(2007)
التعليقات (0)