زمن الورد
بقلم: ثريا نافع :
تلحفت الشمس بحمرتها الخفيفة قبل غيابها الأزلي وخففت من حرارتها. وتابعت شجن بنظرها جمعاً يقف في محطة الباصات الصغيرة، وتساءلت بينها وبين نفسها كيف سيدخل هذا الجمع الباص الصغير القديم؟
أفرغت عقلها من كل ما يشغله ونقلت بصرها بين شباب ورجال متوسطي العمر يروحون ويجيئون في الخلاء المتسع بجانب المحطة في عملية انتظار أبدي ومضن وكأن الجميع يحاول ان يفلت من حصار لحظات الغروب الخانقة التي تخفي تحت لحظاتها كل الألوان، وأرقام السيارات والباصات القديمة المتعبة والتي يري من يمشي بين شوارع المدينة في آخر الليل ان تلك الباصات المتهالكة قد اصبحت ملجأ للكلاب والمشردين من الأطفال.
سيارات تاكسي معدودة علي الأصابع تقف أمام المحطة تنتظر ان تبتلع أحد المارة، فيما يحدق بها الجميع من دون حركة. آه لو أنهم يمتلكون متعة الانطلاق بها عبر أرجاء المدينة ولكن من أين؟
الشبان ينتظرون تحت نيون المحطة صيدا سهلا لفتيات يمشين فرادي باحثات عن لحظات من سعادة ودفء في ذلك الزمن الموغل في التوحش.
أزاحت شجن بيدها عن ورودها آثار سيارة مسرعة خلفت عاصفة من الرمال. نظرت إليها بحزن شديد، تلمستها بحدب وهي تسترق النظر إلي الجمع الذي ينتظر. يمر بأرق ذكري لأمها التي ذهبت ولم تعد، وقد تركت لها رصيداً لا بأس به من الفقر والهوان، مع تدريبها علي تنسيق الورد في باقات صغيرة لبيعه للمحبين.
مازالت تنظر للباصات التي تغادر، وجموع الناس التي تأتي ثم تغادر وأحلامها السعيدة التي تغادر، أوجاعها التي أبدا لا تغادر. مازالت تنتظر مشتريا لوردها الذابل المتوحش الغارق في لحظات الغروب، والذي نسقته في غرفتها التي تشبه إلي حد كبير كهفاً بدائياً في إحدي العمارات وقد كانوا يعيشون فيها كديدان ملتصقة بالأرض مع رطوبة شديدة تجعل أجسامهم دبقة. مازالت تستشعر الرطوبة فوق بشرتها المائلة إلي السمرة البرونزية المحببة بفعل حرارة الشمس.
عاشت بعد وفاة زوجها وحيدة مع أمها المريضة وأبيها العجوز، وتعلمت ان تلعق الصبر حتي أصبحت كتلة بشرية تنتقل من صبر إلي آخر. وحين غادر الأب والأم المحطة الأخيرة، بقيت وحيدة مع ورودها. لم تكن تحتك بأحد ولم تتعرف إلي أحد فقد كان الزوج والأم والأب هم الثلاثي الذي عاشت له ومن أجله.
كان المحبون يأتون إليها لشراء الورد. وكل شاب يتقدم منها كان كأنه فارس أحلامها.. وكان من بينهم فارس الاحلام الذي أحبها وتزوجها، ثم مات ولكن كان هذا زمناً آخر.. كانت للورد فيه قيمة بين المحبين. أما الآن فما بين المحبين يختلف تماما عما كان في ذاك الزمان. تجلس علي الرصيف متعبة تنظر في عيون المارة تمد يدها بالورد بين الحين والآخر تنتظر أن يشتري أحدهم حتي تعود بعدما هدها التعب من طول الجلوس أو الوقوف دون أن تبيع شيئاً.
انتهي زمن الورد!
يقول لها مالك كهفها الرطبة وهو يخلع كل قطعة من ملابسها بنظراته الشبقة القبيحة ويدعوها إليه وإلا كان مصيرها الطرد إلي الشارع. ولكنها لا تجيبه فهي ستبيع الورد وتسدد الايجار ولن تسمح له بالتطاول علي تضاريس جسدها الجميل والذي كم تغني زوجها بتناسق معالمه.
من يشتري الورد؟
قالتها للمرة الألف ربما، ولم يعرها أحد التفاتة، تنظر إلي الباصات وهي تخطف ركاباً وضعت فيهم الأمل للحظات.
تنظر إلي الكلاب وهي تحوم حول أرجل الناس تمسح فيهم وفاء اندثر. شبان يحومون حول فتيات تائهات ضائعات في زمن ضاعت فيه قيم كثيرة.
تلملم بسطتها وترمق رحيل السيارات بزفرات حارة وبمزيج من الحزن الكئيب والصبر المر.
شعرت فجأة بأنها وحيدة، كورودها، فتنهض.. تسوي ملابسها التي تجعدت من طول جلوس ويأس.. تتحرك تجاه مجموعة من الشبان هاتفة فيهم وهي ترسم ابتسامة جائعة ونظرة شقية:
تري!؟ من فيكم يشتري؟
التعليقات (0)