زكريا جعفر الضرير : أبو عصام :
شخصية ذات تأثير إيجابي وكبير في الحياة الاجتماعية والتعليمية في نبل ، على مدار عقديْ الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي ..
فهو ـ بحق ـ أستاذ الأساتذة ، ومعلم الأجيال التي تعاقبت على الدراسة في مدرسة نبل الريفية منذ تأسيسها ..
وله فضل السبق على أهالي نبل ، إضافة إلى فضل الريادة ، لأنه :
أول من حاز لقب " الأستاذ ".. واقترن اللقب به ..
أول من رُشـِّح لمنصب وزاري ..
أول عضو في مجلس الشعب ..
أول محام مسجل في النقابة ..
أول من حاز شهادة جامعية ..
أول من عمل مديرا في دوائر الحكومة المختلفة ..
( وهذا غيض من فيض ) ..
1 ـ من أعماق الذاكرة :
هي أوقات انعطافية في تاريخك العقلي ، وفي زاوية من زوايا وعيكَ الذي تشكـَّلَ مبكرا .. تجدها معششة في أصداف دماغكَ ، لا تفارقه ، ولا تستطيعُ تجاهلها ، وتفرضُ نفسَها عليكَ كلما مررتَ بشيءٍ يشبهها .. أما هي ، فقد تختبئ هنا أو هناك ، في زوايا القلب الغريب ، وبين سطور عتمة الليالي ، وزحمة الأيام التالية وأهوالها .. لكنها سرعان ما تبرز لك ، طازجة ً، حارة ً، تملأ خياشيمَكَ بروائح توابلها ، كوجبةٍ شهيةٍ دسمةٍ من بيت العيلة " مثلا " ..
معظم الذين توافدوا إلى بيتنا في حلب ، تلك الليلة ، لم أكن أعرفهم .. جاؤوا يودعون أخي فتح الله ، ليلة التحاقه بالكلية الحربية ـ وهم شلته المقربون من الضيعة ـ يوم 9/كانون الثاني/1965 ، فسهرَ بعضُهم حتى الصباح ، وهجَعَ الآخرون ، في ليلة شتائية كانونية قارسة .. وحين انبلجَ الصباح المكفهرُّ الماطر ، ذهبوا معه إلى الكراج ..
أذكر منهم : زكريا الضرير " الأستاذ " ، ومحمد السيد علي ، وسعيد مصطو التقي ، وعدنان الزم ، ووحيد أبو راس ، وعباس حنيف طبرة .. وبعض الأقارب ..
ومثل هذه السهرة ، كانت مألوفة جدا في حالة كهذه .. ((ولعلني أروي المزيد عنها في المقال الثاني ، عن سيرة الشهيد فتح الله ، في وقت لاحق إن شاء الله )) ..
يومها ، عرفتُ هؤلاء عن قربٍ ، وقد رأيتُ وسمعتُ مزاحَهم ونكاتِهم ، وجوّ الألفة الذي كان سائدًا بينهم .. وما أحلاه ..
وكنت الفتى الذي يؤدي واجبات الضيافة ، ويسجل في ذاكرته مواقف كثيرة ، وجديدة عليه ، من أشخاص يكبرونه بسنوات ، ولهم تجارب حياتية مشتركة فيما بينهم ، وهذا ما لم أكن واعيا له آنذاك ، بحكم الفرق في سنوات العمر ..
مضت الأيام إلى الصيف ، كنت أمشي بُعيْد العصر باتجاه الطريق العام ، فرأيت " الأستاذ " جالسا في غرفة صفيّة من مدرسة البنات ـ ( التي أنشئ محلها الآن عبّارة الضرير) ، نوافذها مفتوحة على الطريق ، ويكسو مقاعدَها كثيرٌ من الغبار ـ ومعه مهدي نصر الله ..
وقفتُ على الشباك ، حييتهما ، كان بين يديّ " مهدي " كتابٌ .. سألته : كأنك تدرس ؟؟ قال : لا .. أنا أقرأ له ، وهو يستمع .. فلديه امتحان قريب ..
كان الموقف غريبا عليَّ ، والأغرب الذي أدهشني وقتذاك : كيف يستطيع " الأستاذ " أن يحفظَ ما يسمع ، وأن يتقدمَ للامتحان الجامعي ، وأن ينجحَ ؟؟!!
2 ـ في أعماق الوجدان ..
قبل أن يُنتخبَ أبو عصام عضوًا في أول مجلس للشعب ، منتخبٍ بعد الحركة التصحيحية ، كانت علاقتي به عادية وفي حالتها الابتدائية .. فهو " الأستاذ " .. وأنا طالب في الثانوية .. وعادة ما يبدو الفارق العمري كبيرًا في سنوات الفتوة ، ومرحلة الشباب الأولى .. فخمس سنوات من الفارق ، تجعل من الأصغر ولدًا يلهو ، بينما تبدو على الأكبر علاماتُ الرجولة .. لكن ، مع التقدم في العمر ، يتضاءل هذا الفارق كثيرا ، حتى يكاد يتلاشى ، كما هو الحال بيني وبين أبي عصام في لقائنا الأخير ..
3 ـ البدايات :
نلتُ الثانوية العامة قبيل حرب تشرين ، ودخلنا الجامعة في أول يوم لنشوب الحرب ، فتأجلت الدراسة ، وبعد وقف إطلاق النار ، وانتظام الدوام المدرسي والجامعي من جديد ، أصرّ عليَّ الصديق عبد القادر يبرق ، أن أتقدمَ بأوراقي الثبوتية للحصول على وظيفة معلم وكيل ، لأن مديرية التربية بحلب تحتاج إلى عدد كبير من المعلمين الوكلاء ، تعويضًا للنقص الذي نتج عن تعبئة كثير منهم في الجيش بسبب ظروف الحرب .. ووعدَني أن يتمَّ تعييننا في المدينة ، لكون والده على صلةٍ ومعرفةٍ تامةٍ بأبي وحيد " الأستاذ جودت عدل " رئيس ديوان التعليم الابتدائي ، وهو المُخوَّل بتعيين الوكلاء ، وأنه لن يتوانى في الضغط عليه ، لتعييننا في مدرسة واحدة ، نذهب إليها معا ، ونعود معا ..
أعجبتني الفكرة ، خاصة بعد أن زيّنها لي ، وزركشها على عادته المألوفة ..
وحين انحشرْنا مع المحتشِدين في غرفة ديوان التعليم الابتدائي لاستلام التكليف والتعيين ، إذا بصديقي مُعَيَّنٌ في قرية " شَرّان " التي تقع بعد كفر جنة وميدانكي ، وأنا مُعَيَّنٌ في قرية " مامللي " التابعة لمنطقة راجو ، على الحدود السورية التركية .. كانت المفاجأة قاسية جدا على صديقي عبد القادر .. فقد أحبطه هذا التعيين غير المتوقع ، وزاد عليه حَرجُهُ مني ، وخجلـُه الشديد من الورطة التي أنزلني فيها معه ..
المهم .. التحقَ كلٌّ منا بمكان عمله ، بعد أن استحصلَ عبد القادر على وعدٍ من أبي وحيد بنقلنا من هناك في أول فرصة سانحة ..
وكانت تجربة فريدة بالنسبة لي ، ربما يأتي الوقت للحديث عنها فيما بعد ..
الرحلة شمالا إلى ما بعد " راجو " في غاية المشقة ، في ظل ظروف جوية شديدة القسوة .. زمهرير ، وثلوج ، وصقيع ، وشحٌّ في المحروقات ، وندرة في وسائل النقل ..
ومع ذلك ، بقينا " وعلى الوعد يا كمون "..
والوضع الحالي ليس محتمَلا .. فهي المرة الأولى التي أنام فيها لياليَ كثيرة خارج بيتي ، وبعيدًا عن أسرتي ..
ولم أعد أذكر مَن الذي اقترح عليّ اللجوء إلى " واسطة " الأستاذ زكريا ـ النائب في مجلس الشعب ـ : " فهو بلا شك ، لن يقصرَ معكَ ! ويده طايلة " ..
اتصلتُ به ، واتفقنا أن نذهب معًا إلى مديرية التربية غدا صباحا باكرا .. كان بيته في البنايات الجديدة ، بين مفرق طلعة الزبدية ، وآخر خط سيف الدولة ، أي خلف بيته الحالي ..
باكرْته .. خرج هو والسيدة أم عصام .. انتظرتني أم عصام حتى دخلتُ إلى الكرسي الخلفي من سيارته " الفولكس فاكن ـ الزلحفة " ذات البابين ، ثم جلستْ في الكرسي الأمامي .. لم يكن الجو داخل السيارة صافيا يومها .. ولم أكن واثقا من تحقيق معجزة تنقلني من " مامللي " إلى حلب .. لكنها مجرد محاولة .. إن نجحتْ فلا بأس ، وأكون قد انتقمت لنفسي من أبي وحيد وعبد القادر .. وإنْ لم تنجحْ ، فلن أعودَ إلى " مامللي " أو غيرها .. فلستُ مضطرًا لذلك ..
نزلتْ السيدة أم عصام إلى دوامها ، وأكملنا إلى مديرية التربية ، وكانت بجانب القلعة ..
كان الزحام شديدًا في كل نواحيها ، وخصوصًا أمام باب مكتب الأستاذ علي درويش معاون مدير التربية .. لمحَ الأستاذ علي أبا عصام من خلال الباب المُوارَب ، فأومأ للحاجب بإدخاله .. تفاءلتُ .. همسَ أبو عصام في أذنه قليلا ، ثم جلسنا ننتظر .. فجيء له بورقة ، وقـّعَها ، ومدّها إلي ، وهو يقول : في المدينة لا يوجد سوى شاغر ٍواحد هو " معلـّم سَيَّار " .. وطلب مني أن أرافق الموظف الذي جلب الورقة ليعطيَني تعليمات التنفيذ ـ إذا كنت أرغب ـ !!
انصرفتُ معه .. شرحَ لي الأستاذ " سمّاني " بهدوء ، ما يجبُ عليَّ فِعله ، وأضاف ـ وهو يشجعني على القبول ، بعد أن لاح له اعتراضي ، ورفضي ، وكدت أنهض مغادرا ـ : هذه أفضل وكالة لطالب جامعي مثلك .. فبإمكانك أن لا تفوِّت عليك أيَّ محاضرة ، إذا رتبْتَ دوامك في هذه المدارس السبع ، بالشكل الذي يتوافق مع أوقات فراغك .. وإذا اعترضتك عقبات ، اتصل بي ، وأنا سأحلها لك ..
فعلا ، أقنعني الأستاذ " سمّاني " وسجَّل لي عناوينَ وهواتفَ المدارس السبع التي يجب أن أباشر اليوم في إحداها ، ليكون بداية عملي ..
وكانت هذه هي الصلة المباشرة الأولى ، التي جمعتني بأبي عصام في الأيام الأخيرة من عام 1973 ..
4 ـ سيرة حياة وعمل :
هو : الأستاذ ..
ـ وهو زكريا جعفر الضرير ..
ـ ولد في نبل ، في /04/05/1934
ـ درس الابتدائية فيها ، متنقلا مع تنقل المدرسة من بيت شمال الضيعة ( بيت شربو ) ثم إلى بيت الشيخ محمود زم ، ثم إلى بيت يوسف أحمد يوسف ، ثم إلى مدرسةٍ للدولة شرق بيت السيد علي صرصر عام 1945 ، لكن الشارع الرئيسي أكل جزءًا منها ، وما تبقى اشتراه يحيى السيد علي ، وضـُمَّ إلى بيتهم ..
ـ من زملائه في المدرسة : يحيى السيد علي ، عبد الأمير سعيد شربو ، يحيى حسن سلوم ، شربو كاظم شربو ، محمد علي شحادة ، علي هادي شحادة ، علي حمزة شربو ، حسين فرج شربو ، نديم مرسال شحادة ، سامي فجر شحادة ، يحيى جعفر الضرير ..
ـ في الصف الثالث ، بدأ يعمل على النول الذي كان يملكه : حج هلال الطشت .. وكان النول موجودًا في دكاكين الشيخ إبراهيم الضرير ، شرق بيت وحيد أبو راس حاليا ..
ـ كان معلم المدرسة وحيدًا ، اسمه "غريب أفندي إبراهيم " ، وكان حينما يلعب " بالضاما " مع جعفر الضرير ، يكلف زكريا بمهمة الإشراف على التلاميذ ، لشخصيته المتميزة ، وقدرته على ضبط إيقاع التلاميذ ..
ـ بعد الصف الثالث ، انتقل إلى مدارس حلب .. هو ومحمد علي شحادة ، وعلي هادي شحادة ، وشربو كاظم شربو ، ويحيى السيد علي ، ويحيى حسن سلوم ..
ـ كانت الدراسة في مدرسة داخلية ، اسمها ( مدرسة الخالدية ) ، تقع في محلة السبع بحرات حاليا ، وهي مدرسة خاصة يديرها الشيخ : طاهر عنجريني ، فدرسوا فيها الصفين الرابع والخامس ..
ـ انتقل زكريا الضرير ويحيى حسن سلوم إلى مدرسة هنانو بحلب لدراسة المرحلة الإعدادية ، التي تبدأ من الصف السادس .. أما بقية التلاميذ ، فانتقلوا إلى المعهد العربي الإسلامي الخاص ، في موقعه بجانب المشهد ، ليكملوا تعليمهم فيه ..
ـ في الصف التاسع ، تزوج .. وترك المدرسة ، تحت ضغطٍ نفسي ٍ، كان يعاني منه كلُّ أبناء الريف حين يَفِدون إلى المدينة .. لأن كلمة " فلاح " مترافقة ًمع نظرة استعلاءٍ ، وامتعاض ٍفي الوجه ، كانت تمثل أقسى شتيمةٍ يتلقاها الطالب من زملائه ، فكيف إذا كان متزوجا أيضا ؟؟!!
ـ تقدَّم لامتحان الشهادة الإعدادية عام 1952 ، كطالب حرّ ..
ـ في هذه الفترة ، عمل كاتبا عند بعض التجار ، ليغطيَ نفقات أسرته ..
ـ التحق بخدمة العلم عام 1954 ، فأمضى فيها قرابة مئة يوم ، ثم دفع البدل النقدي ..
ـ تقدَّمَ لمسابقة تعيين معلمين عام 1955 ، ونجح بترتيب 22/180 ، فعُيِّن في منطقة عين العرب ، قرية المتين ..
ـ انتقل إلى مدرسة نبل الريفية في العام الدراسي نفسه 1955/1956 ..
ـ تأسست في نبل جمعية فلاحية عام 1958 ، رئيسها حج كاظم شربو ، ونائبه محمد طاهر ، وأمين السر فيها زكريا الضرير ..
ـ نال الثانوية العامة في عام 1961 ، بعد تسع سنوات مرت على ترك الدراسة ..
ـ تزوج للمرة الثانية عام 1962
ـ في نهاية العام الدراسي 1963/1964 ، سهّل نجاحَ جميع تلاميذ الصف السادس في امتحان نهاية العام ، ليتوفر العدد الكافي للحصول على موافقة مديرية التربية بتأسيس مدرسة إعدادية .. فعُوقب بالنقل من الضيعة إلى " راجو " شمال عفرين .. لفترة وجيزة ، أعيد بعدها إلى قرية " ماير" ..
ـ أمضى عشرة أعوام في التعليم ، مديرا للابتدائية ، ومديرا منتدَبًا لإعدادية البنين ، التي تأسست في خريف 1964 ، وكان مقرها في سفح التل الجنوبي ، في بيت عبد الهادي الضرير ..
ـ انتسب إلى كلية الحقوق في جامعة حلب ، وتخرج فيها عام 1965 ، حاملا أول شهادة جامعية في نبل ..
ـ عُيِّنَ مديرا لمركز إنعاش الريف في منطقة عفرين ، بتاريخ 27/آذار/1967 وبقي فيه لمدة عامين ..
ـ في عام 1969 ، وُضِع تحت تصرف مديرية الشؤون الاجتماعية والعمل بحلب ..
ـ تقدَّمَ لمسابقة الحقوقيين ، للتعيين في وزارات الدولة ، فنجح ، وعين في وزارة التموين ..
ـ عيّنتـْه الوزارة مديرا للتموين في مدينة دير الزور ..
ـ تعرض لمحاولة اغتيال في دير الزور ، نتيجة حرصه على تطبيق النظام والقانون ، على المحلات والأفران ومحطات الوقود والمطاعم والتجار ...
ـ انتقل بعدها إلى مديرية تموين حلب عام 1971، فأسندَ إليه مديرُها " محمد ديب رحّال " ، رئاسة إحدى دوائرها ، وكان عمله الأبرز متمثلا في لجنة منح البطاقات التموينية لمواطني ريف حلب ..
ـ ترشح لأول انتخابات للإدارة المحلية في سورية عام 1971 ، ورسب بالتزوير ـ كما قال ـ بعد أن انسحب له جميع المرشحين الآخرين وعددهم 14 مرشحا ، بينما لم ينسحب له أحمد زكريا الباشا ..
ـ صار عضوًا في أول مجلس للشعب منتخب في سورية عام 1972 ..
ـ عمل على إحداث منطقة إدارية ، تكون نبل مركزا لها ، ووافق مجلسُ محافظة حلب على ذلك ، لكن وزير الإدارة المحلية ، امتنع عن الموافقة ، رضوخا لضغوط المُتنفذين من القرى المجاورة ..
ـ يقول أبو عصام : أنا انتسبت للحزب عام 1955 ، حين كان مقره في شارع إسكندرون ، بحلب ، ثم فـُصِلتُ عام 1971 ، بعد الحركة التصحيحية ..
وحين صرتُ عضوًا في مجلس الشعب ، أعِيدَ ارتباطي بالحزب ، بمبادرة من فهمي اليوسفي ، رئيس مجلس الشعب .. وذلك عام 1973 ..
ـ رُشِّحَ وزيرا للتموين في عام 1977 ، كمرشح أول ، ورُشِّحَ محمد غباش ثانيا ، لكنه اعتذر عن قبول المنصب ، وأصر على اعتذاره حتى اللحظة الأخيرة ، فعُيِّنَ محمد غباش وزيرا للتموين ..
ـ ولأنه لا يحب عبادة " الراتب في أول الشهر " ، استقال من العمل الحكومي في نهاية عام 1977 ..
ـ في 1/1/1978 انتسب إلى نقابة المحامين ..
ـ سجله العدلي محكوم .. بجنحة " تحقير قاض ٍ على مِنصة الحكم " لتهجمه ـ افتراءً ـ على أهالي قريته ..
فيه هدوء الفيلسوف ، وصرامة العسكري الملتزم .. حَيـِيٌّ وخجول فيما يتعلق بحقوقه .. جريء فيما يتعلق بحقوق الآخرين .. يُحسن الخروج من المآزق ، وابتكار حلول مناسبة للمشكلات التي تعترضه .. ذاكرته وقادة ، وحديثه يتشعب في متاهات واعتراضات كثيرة .. ووراء هدوئه الظاهري أعصاب متوفزة متحفزة ، زادها التدخين اضطراما .. يحسب حسابا شديدا لخطواته العملية والاجتماعية .. لا يتوانى عن تقديم العون إذا طلب منه .. اجتماعي لبق .. ودود .. متواضع .. منفتح ومعتدل ، يقبل الرأي الآخر ، ولو اختلف معه ، لكنه مبدئي عند أفكاره ومعتقداته التي يؤمن بصوابها .. منسجم مع ذاته ومع أسرته ..
كانت أمسية رمضانية بامتياز .. فمنذ أن زارني في صيفٍ مضى ، قبل قرابة عشر سنوات ، لم نلتق بعدها في جلسة طويلة كما اعتدنا في الثمانينيات .. حيث توطدت علاقتنا بشكل متنام ، وتعددت لقاءاتنا وسهراتنا ..
تقريبا ، لم ألحظ تغيّرا جوهريا في بيته ، منذ أن رأيته آخر مرة قبل سنوات .. كان الليل حارا ، خرجنا إلى الحديقة .. أبو عصام ، وصديقي أبو محمد ، وأنا ، جلسنا حول طاولة صغيرة .. وعندما تـُحضِر لنا السيدة أم عصام مشروبات شهر رمضان المفضلة ، كانت تجلس معنا ، تستمع ، وتسأل عن أحوالنا العائلية .. وهي المعلمة التي عُينتْ في نبل في مطلع الستينيات ، وصارت كنتها حتى اليوم .. أمّا معطاءة أضافت لقائمة الشباب الجامعيين في نبل ، طبيبيْن ، ومهندسيْن ..
لم يكن أبو عصام عارفا بموضوع زيارتنا ، ولم يُفاجأ به حين شرحته ، ولم يتردد في الجواب على أي سؤال وجهته له ، ولم يكن يعتبر أن لديه أشياء لا يجب نشرها .. فكل تاريخه كدٌّ وعملٌ ، وهو ما يزال يمارس عمله حتى اليوم ، وقد تجاوز الخامسة والسبعين ، أمدّ الله في عمره ..
هو أب لابنتين من زواجه الأول ، ولابنتين وولدين من زواجه الثاني .. وكلهم مثال للأخلاق والعلم ..
زكريا جعفر الضرير الذي بدأت الحياة معه بلقب : الأستاذ ، لكنها مرت معه بألقاب أخرى ، منها : النائب ، والمحامي .. وأخيرا .. الجَدُّ لعدد لا بأس به من الأحفاد المتميزين أيضا .
التعليقات (0)