مواضيع اليوم

زعماء العهد الأول من الاستقلال بين صدق الوطنية والنزعة الاستبدادية

جمعة الشاوش

2009-10-20 14:17:41

0


لا نجد صعوبة في التدليل على وطنية زعماء "العهد الأول من الاستقلال" لأنّ سجلاّت نضالهم في مقاومة الاستعمار تنصفهم وتزخر بما يُفيد أنهم عرّضوا حياتهم للخطر وبطش آلة القمع الاستعمارية الرهيبة،وأنّ العديد من رفاقهم الذين كانوا في مقدّمة جبهة المقاومة التحريرية استشهدوا...لكنّ الذي نحتاج إلى فهمه-أكثر من التدليل عليه-هو كيف ولماذا يكون القائد الوطني مستبدا؟
والحقيقة أنّ الوطنية والاستبداد لا يتعايشان في قلب زعيم واحد إلا ليتصارعا ولينتهي الصراع باختفاء أحدهما أو-وهذا أخفّ الأضرار-بهيمنة أحدهما على الآخر...
لكن لماذا النزعة الاستبدادية لدى الزعيم الوطني؟..
لمّا كان للاستعمار نظريته الاستبدادية التي أقام عليها سيطرته على مستعمراته وتحكّمه في أقدار شعوبها وإذلالها، فإنّ حكام الاستقلال، أو لنقل جلّهم إقرارا بقاعدة الاستثناء، كانت لهم بديهة التقليد ومهارة النسخ على النموذج الاستبدادي الاستعماري الذي ورثوه...لقد استفادوا من هذا النموذج وحذقوا فنونه لأنهم كانوا الأكثر اكتواء بجحيمه و تمرّسا بإيذائه وضحيّة له ولوقعه البغيض في النفوس الأبية الحرّة وتضرّروا من قسوة زبانيته...إنهم، في تجربتهم مع الاستعمار، لم يتسنّ لهم الاستفادة-عمليا-من أوجه أسباب قوّة المستعمر الحضارية إلا الوجه الآخر البغيض منه وهوالمكر والمناورة والبطش...
ولمّا اقتنع الاستعمار الغربي بوجوب رحيله أو تغيير قناعه،حسم زعماء الدول المستقلة-على عجل- أمر شرعية الحكم لفائدتهم بعد أن حازوا على وثيقة ملكيّة مسجّلة بأسمائهم الشخصية لأوطانهم مكّنهم منها المستعمر وفقا لمصالحه وأيضا شعوبهم بناء على شرعية نضالهم وتوسّم الخير في صدق وطنيّتهم...هكذا أضحت جلّ الدّول المستقلّة-فجر استقلالها-ملكا لزعمائها الوطنيين:أرضا وشعبا وتشريعا وقضاء وجيشا وكلّ وسيلة تُتيح النّفوذ المطلق...

وبما أنّهم لم يحذقوا عن المحتلّ الأجنبي شيئا آخر بمثل حذقهم عنه للهيمنة والاستبداد، فلقد تفتّقت مواهبهم العدوانية المكتسبة على فنون رهيبة من هذا الميراث الاستعماري البغيض، «وكلّ إناء بما فيه يرشح"...

وبذات أسلوب التضليل والمناورة ووسائل إذلال الشعوب وقمعها،تقريبا،أُرسيت الأسس التي تقوم عليها سلطة عهد الاستقلال الأول،وراح الماسكون بمقاليدها يُضيفون ما يُحكم قبضتهم على رقاب شعوبهم،فتفطّنوا إلى ما حُرم الاستعمار من ادّعائه وهو أنّهم،بخلافه، سلطة وطنية نابعة من رحم معاناة شعوبها،بما لا يسمح بالتشكيك في نزاهة نواياهم ونبل مقاصدهم حتى وسياط عذابهم تجلد أجساد الأصوات التي لا تروق لهم،المتناهية من نسيج شعوبهم المنهكة...راحوا يستحثّون في هذه الأخيرة مواهبها على التغنّي بأمجادهم المزعومة وبطولاتهم الأسطورية في مقاومة شراسة المستعمر والتصدّي لجبروته ويُغوون من برع في مديحهم ومن اكتشف فيهم عبقرية لم تخطر حتى على بالهم بكلّ ما تتيحه الغواية من وقوع في شرك الرّذائل.. .
وإذا كانت بطولات الحكّام الوطنيين وتضحياتهم "ملحمة وطنية وهبة أقدار" لشعوب كانت مستضعفة مستعبدة عاجزة عن الفعل،فإنّه يحقّ لهم أن يُذكّروا بأنّ الاستقلال ثمرة زرعهم والمحافظة عليه مسؤوليّتهم،وعليه فلا يجوز لهذا المكسب المجيد أن يُترك لعبث العابثين من"الرعاع والدّهماء والخونة والمناوئين"...

إنّ هذا الاعتقاد كان في الواقع نابع من قناعة لا يرقى لها الشكّ لدى جلّ هؤلاء الحكّام والمخلصين لهم من أنصارهم ،كان حبّهم لأوطانهم الجارف يجعلهم لا يُفرّقون بين ما هو ملك شخصي لهم يجوز أن يتصرّفوا فيه كما يشاءون وبين ما هو ملك لشعوبهم لا يجوز التّصرّف فيه إلا بتشريك المالك وتفويض منه حتى إن كانت النية حسنة والحصيلة خيرها أكثر من شرّها،إذ الشعوب تكره أن "تُقاد إلى الجنّة بالسلاسل"،بل إنها لا ترى،والحال تلك،جنّة مطلقا...
لكن ما هي مطالب شعوبهم غير حياة الكرامة ورغد العيش؟...وأنّى لحكاّمهم أن يحقّقوا لهم ذلك والمشروع الحضاري غائب أو غير واضح المعالم، وهل "أحكام الزّمن السياسي" تسمح بالتّأمّل والتّريث وانتقاء المشروع الأفضل والبطون خاوية والأمية سائدة والتّخلّف مهيمن؟...

ما من حلّ سوى التعويل على بلاغة الخطاب السياسي في صياغة متسرّعة لعناوين مشاريع مستوحاة من الأحلام والأوهام تُصاغ في شعارات دعائية جوفاء لكنها أنيقة خادعة كشعارات التسويق التجاري..هي شعارات تُحقن من الحكّام أفيونا تقتات من وهمه الشعوب وعودا وتأميلا،وكلّما تضاءل مفعول الأفيون استُزيد منه جرعات أكثر تخديرا مُعزّزة بالوعيد والويل والثبور...

لم تكن ثمّة مشاريع جادّة تُحقق مطالب الشعوب، لا لنوايا مبيّتة لا تريد الانجاز الذي يُسعد الجميع،بل لقصور عن تمثّل السّبيل المُحقق لذلك...ذلك أنّ أيّ بناء حضاري جدير بهذه التسمية لا تُنتجه مراهقة فكريّة ولا نزوة زعاماتية،هو عصيّ عن الرّغبة العابرة ومساحيق التجميل وضبابية الرّؤى،يأبى التسطيح والارتباك والتعويل على "لعبة الحظ" مهما كانت النوايا حسنة...
والعبرة من كل هذا أنّ أحداث الحاضر في واقعنا العربي،مثلا،لا يمكن أن تكون وليدة اللحظة الراهنة،بل إنّ فهمها وتفسيرها كامن في التراكم التاريخي الذي أفرزها،فالتاريخ لا تحكم حركته لحظة أو نزوة نعيشها نخوة أو انكسارا، إنما هو ثمرة مسار وجهد،والحاضر يولد من رحم الماضي ،كما المستقبل يولد من رحم الحاضر...

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !