اقرأاقرأ كتاباً جيداً ثلاث مرات ، أنفع لك من أن تقرأ ثلاث كتب جديدة .
عباس العقاد
عندما انفجرت فضيحة " سونطراك"، استهلك الجزائريون، بجرعات مدوّخة عبارة "صراع الأجنحة"، و قد فُهم من تلك العبارة أن فضيحة المؤسسة الاقتصادية الأولى في البلد، ما هي في واقع الأمر إلا "ماتش كاتش" يجمع بين الرئيس و جماعته، و بين جماعة حاكمة أخرى، عرّفها البعض على أساس أنها المخابرات.. أي " رأس الفرطاس".
أيام قليلة، بعد تفجير الفضيحة، يُغتال الرجل الأول في جهاز الأمن الوطني، على يد زميل و صديق له. في اليوم نفسه، صدرت رواية رسمية للواقعة عن وزارة الداخلية بوصفها الوزارة الوصيّة. وسائل الإعلام الداخلية و الأجنبية تداولت، من جهتها رواياتها الخاصة، لما يكون قد حصل بالفعل. البعض قال أن القاتل شعيب ولطاش دخل على علي تونسي، في مكتبه، و بعد تبادل لكلمات عنيفة بين الطرفين، أخرج الجاني سلاحه.. و طخ..طخ..طخ.. أطلق النار على مديره و زميله و صديقه.
البعض الآخر، قال أن الجاني فعل فعلته أثناء اجتماع رسمي، بمقر المديرية العامة للأمن الوطني، و بعد تبادل عبارات غاضبة بين الجاني و الضحية، على خلفية قرار مزعوم بإنهاء مهام هذا الأخير، استنجد ولطاش بمسدّسه، و أطلق النار صوب علي تونسي... و روايات مشابهة أخرى، قطعتها رواية جديدة لوزير الداخلية يزيد زرهوني.
الرواية الجديدة.. الأخيرة.. آخر إصدار، مقتضبة جدا، محبوكة من بضع كلمات لا أكثر، و قد جاءت في شكل تصريح جانبي عابر تقريبا. الرواية كما توقّع لها أصحاب البديهة غير المستقيلة، صدمت الكثيرين، عزّزت الشكوك، و أثارت " الهو هو" أي الجدل. كما أنها ( أي رواية زرهوني المختصرة) أخرجت عائلة علي تونسي عن صمتها.
رواية زرهوني قالت أن الجريمة تمّت " بدون شهود" و أن خلفية " شخصية" هي سبب وقوع الجريمة.
اعتبارا من اللحظة التي تفوّه بها يزيد زرهوني، بهذه الكلمات المعدودة، أصبح من حق المعلّقين تجاهل عبارة " صراع الأجنحة" لبعض الوقت على الأقل، و الشروع في استخدام عبارة جديدة هي " حرب الشيفرات".
تصريح يزيد زرهوني القائل بأن جريمة قتل علي تونسي تمّت " بدون شهود"، لأسباب " شخصية بين القاتل " شعيب أولطاش " و الضحية " علي تونسي"، كان بمثابة رسالة رسمية، تعكس رؤية جزءا من السلطة للواقعة. رسالة مشفّرة.. بحاجة إلى تفكيك و إعادة تركيب. عائلة الراحل علي تونسي، يبدو أنها إما أنها هي التي نجحت لوحدها في تفكيك شيفرة رسالة زرهوني، و إما أنها حصلت على مساعدة خارجية لتفكيك شيفرة الرسالة. عائلة علي تونسي كان لها رد فعل سريع جدا على رسالة يزيد زرهوني، و في بيان باسم أفرادها، قالت و هذا ما يجب تسطيره بالأحمر أن العائلة تحرص على التأكيد بقوة أنه لم يكن يجمع بين الشهيد علي تونسي أي خلاف شخصي مع قاتله.
ما أستطيع أنا بفهمي الساذج أن أستنتجه، هو أن عائلة علي تونسي، لم تتقبّل فرضية " الخلاف الشخصي" الذي يكون قد شكّل خلفية جريمة القتل حسب زرهوني ،طبعا. عبارة " الخلاف الشخصي" إذن، أثارت غضب أفراد عائلة الضحية بشكل كبير جدا. فماذا كان يقصد يزيد زرهوني بـ" الخلاف الشخصي" ؟ و كيف فهمت عائلة علي تونسي عبارة " الخلاف الشخصي"؟ و هل فهمت العبارة تماما كما أراد يزيد زرهوني أن يقصد باستعمالها؟ و كيف يجب أن نفهم نحن عبارة " الخلاف الشخصي" ؟
هل قصد يزيد زرهوني أن السبب الذي جعل شعيب ولطاش، يقتل مديره، و زميله و صديقه علي تونسي، لا صلة له مطلقا بتهم الفساد التي نُسبت للجاني، و من ذلك حكاية الصفقات المشبوهة ؟ هل قصد زرهوني أن أصل الخلاف بين الجاني و الضحية، لا يمت بصلة لا لجهاز الأمن، و لا للعلاقات المهنية التي كانت تربط بين الرجلين ؟ في هذه الحالة، و إذا كان هذا هو الفهم المطابق لفحوى كلام زرهوني، يجب أن نتفادى تعقيدات التشفير، و نتساءل: حول ماذا يمكن لرجلين أن يختلفان، إلى درجة أن يتحول الخلاف بينهما إلى جريمة قتل يقترفها أحدهما في حق الآخر؟ عن هذا السؤال، يمكن لأي واحد منا أن يتصوّر، من وحي الحياة، أن رجلين يمكن أن يختلفان حول أموال تجارة مشتركة، أو قطعة أرض صالحة للزراعة أو للبناء، أو حول ملكية عقّارات، أو سيارة أو شاحنة، أو حول راقصة في ملهى ليلي، أو امرأة، كلاهما يريدها زوجة لها، أو لأن كلاهما يريدها خليلة حصرية له دون غيره، أو زجاجات خمر، أو حول اقتسام ارث عائلي، أو غنيمة حرب أو غنيمة سرقة، أو رؤوس ماشية اختلطت بين قطيعين من الغنم أو حول اقتسام مياه السقي و الشرب ...أو حول نزاعات عائلية يمكن أن يتسبب فيها تبادل النسب... باختصار، هذه أسباب كلاسيكية عالمية و تكاد أن تكون كونية، تقود دائما إلى نشوب خلاف بين رجلين. و كل مثل هذه الأسباب يمكن تصنيفها في خانة ما أسماه زرهوني " خلاف شخصي".
يزيد زرهوني، اكتفى بالإشارة إلى أن " خلاف شخصي" هو الذي جعل شعيب ولطاش يقتل مديره و صديقه و زميله علي تونسي. زرهوني لم يقل أكثر من ذلك. لكن عائلة الفقيد علي تونسي لم تتقبّل هذا الكلام، ردّت و قالت: لم يكن هناك أي خلاف شخصي بين الراحل علي تونسي و قاتله شعيب ولطاش. لكن، ما المثير في كلمتي " خلاف شخصي" حتى تخرج عائلة الفقيد من تحفظها، و تعبّر بكل غضب عن رفضها لهاتين الكلمتين.. " خلاف شخصي" ؟!
أنا، مثل حمّه لفردور لا نفقه شيئا لا في التشفير و لا في تفكيك الشيفرات. لكن بعض الذين يفقهون بعض الشيء في هذا المجال، قالوا أن يزيد زرهوني ، باستعماله لعبارة " خلاف شخصي" أراد أن يجرّد الراحل يزيد زرهوني من صفة " البطولة" التي مُنحت له، عندما اعتبرت بعض الأوساط أن الرجل دفع حياته ثمنا لمكافحته للفساد. هل على نفس هذا النحو، فهمت عائلة علي تونسي، الرسالة ؟
ساعات قليلة بعد تصريح زرهوني القائل بأن علي تونسي قُتل لأسباب شخصية، قال دحّو ولد قابلية أن علي تونسي مات في سبيل أداء واجبه تجاه الوطن. هذا ردّ من ولد قابلية على يزيد زرهوني.. لكنه ردّ مشفّر بطبيعة الحال. و لمن نسي، فان دحّو ولد قابلية وزير منتدب للجماعات المحلية، أي أنه يمارسه مهامه تحت وصاية وزير الداخلية يزيد زرهوني. الآن.. يبدو أن اللعب احلو يا جماعة الخير.. لكن " واش مدخّلوا" ولد قابلية هذا، حتى يتكلم عن علي تونسي ؟! .. لا، يا جماعة ولد قابلية " دخّلو.. و نص". شوفوا يا جماعة، دحّو ولد قابلية هذا يمثل في السلطة، جماعة وزارة الارتباطات والاتصالات والتسليح أثناء ثورة التحرير، أي أنه يمثل جماعة MALG و مجموعة "المالغ" هي مجموعة بوصوف التي كانت تضطلع بمهام المخابرات أثناء الثورة. من بين المنتمين إلى هذه المجموعة، الفقيد علي تونسي.
الكلمتان الثانيتان اللتان وردتا في رسالة زرهوني المشفّرة، هما " بدون شهود". بالفعل، يزيد زرهوني كان قد أكد بأن الجريمة حدثت في غياب أي شاهد. هل هذا ما سمعناه، إما عقب قتل تونسي و إما بعد دفنه ؟ لا، طبعا، فكلنا سمعنا أن عدة أسماء من المسؤولين السامين في جهاز الأمن، كانوا شهودا، على صعيد أو على آخر، على ما وقع صباح الخميس 25 فيفري 2010 . لكن، عندما يتوجه يزيد زرهوني للصحفيين، مخاطبا إياهم، و مؤكدا لهم أن الجريمة لم يشهد عليها أي شخص، علينا جميعا ألا ننسى بأن المتحدث هو وزير الداخلية.
أكان، هناك شهود على الجريمة أم لم يكونوا، وزير الدولة وزير الداخلية، قال أنه لم يكن هناك شهود.. و هذه رسالة " مشفّرة" ثانية كان يزيد زرهوني قد بعث بها دون أدنى شك. لمن وجه زرهوني هذه الرسالة المشفّرة الثانية ؟ أنا لا أجرؤ - أعذروني- على تحديد هويّة المرسل إليهم ، لكن ما أنا متأكد منه، و أبصم عليه بالعشرة، هو أن يزيد زرهوني تعامل مع كل الأطراف من خلال عبارة " بدون شهود" بنفس الصيغة التي كانت تنتهي بها نصوص البرقيات قبل زمن الفاكس و الرسائل الالكترونية، و لمن لا يعرف الصيغة التي كانت تنتهي بها les télégrammes فهي: stop et fin !
التعليقات (0)