أيتها الدول، يبدو أن التجزئة ما عادت تلبّي شهيّتك، وأننا بتنا في عصر تجارة الوافدين! صفقاتٌ بالجملة، تصديرٌ وتوريد، وفقا للعرض والطلب، ودفاتر شروط الدول... حكوماتٌ ينقصها أن تتخلّص من فائض، في عدد الفقراء أو أصحاب الأدمغة والمهارات، أو "مشاغبين" لا بدّ من إبعادهم، تصدّرهم إلى بلدانٍ أخرى، وفقا لحاجات هذه البلدان، منها مشاكلها صغيرة ينقصها أن ترفع عدد الإناث لإحلال توازن اجتماعي بين الجنسين، أخرى تعيش هاجس العظمة تريد استقطاب أصحاب المهارات لتبني معالمها وحضارتها بلمح البصر، منها خبيث يحتاج إلى تعزيز وجود شريحةٍ دينية أو عرقية لمآربَ سياسية، وأخرى تريد فقط أن تزيد عدد سكانها... بعض الدول هي مصدّر ومورّد في آن، تشتري وتبيع، وفقا لسياسات حكوماتها، تستقبل وتودّع، في واقعها الذي تبنيه جنة للبعض تستقطبه، وجهنم حمراء للبعض الآخر تستعجله على الرحيل.
نرحل وأحيانا لا ندري أن الدول تتدافع بنا عن سابق تصوّرٍ وتصميم. نرحل ظنا منا أن الرحيل نصيبنا في هذه الحياة!... أحيانا نرتمي في أحضان أوّل بلد يرحّب بنا، وأحيانا يعيننا الصبرُ فنصبر وننتظر الجواب من بلد يرضي أحلامنا وحاجاتنا. دولٌ تقدّم حريّة شخصيّة أكبر، وجواز سفر ووعدًا بعيشٍ رغيد، على بعد سنوات ضوئية من البلد الأم. دولٌ أخرى تستقبلنا لأجل، تعطينا حسا بالأمان مدّته عامين أو أكثر، وفقا لمدة الإقامة، مع الوعد بالتجديد.
شبان وشابات، كهول وأطفال، من كل الألوان والأطياف، يختلطون في كل دول العالم في مشاهد جميلة- بما يشبه تحدَّ عالمي لكل العقائد الإجتماعية، والدينية، والنفسية- يختلطون جغرافيا، وإجتماعيا، وأدبيا، وسياسيا، في العرق والدم، في مقرّ العمل، وساحات اللعب، ومنازل الأهل والأصحاب... الحدود مفتوحة، أمام وافدين كرام، وأيضا – وكيف نحميها- أمام متسللين يحلمون بحياة أفضل... شعوب تتنقل وفقا لصفقات العرض والطلب بين الدول، أو صفقات السلاح والنار بين كبار أصحاب القرار.
الرمش ما عاد يرجف، فما حاجة العين إليه يحميها من مشاهد ألفتها؟ ولكن ما هي الحقائق المتخفية خلف هذه المشاهد العابقة حياة وألوانا؟ الشعور بالغربة طبعا، وهو لا يكون على المستوى العقائدي الديني فحسب، وإن كانت وسائل الآعلام تشدّد عليه أكثر من غيره، كجزء من سياسات بعض الحكومات المغرضة. الغربة هي على المستوى الباطني، على مستوى النفس التي لم نكتشف بعد كل طياتها. لقد بيّنت الدراسات مثلا أن الإنسان إنما يتفاعل مع لغته الام تفاعلا أشد من تفاعله مع كل لغات العالم الأخرى. فإن تناهت إلى مسمع رجل عربي إهانة بالإنكليزية ما شعر بذاك الإحراج الكبير، وإن سمع كلمة إستغاثة بالفرنسية ما حثّته همّته إلى النجدة وهي لم تحرّك فيه ساكنا. فهل نحمل لغاتنا ولهجاتنا معنا، وعاداتنا، وتقاليدنا، كل تلك الامور التي اعتادت عليها الأذن، والعين، والأنف؟ ماذا نفعل بأبنائنا؟ هل نحفر في قلوبهم اللغة الإنكليزية لغةً أمّ تعينهم في كل البلدان، ولكن ألا نكون بذلك غرباء عن أطفالنا نكلمهم بغير اللغة التي تحرّك قلوبنا؟... أسترسل في تفكيري: أرى المجتمع العربي يتحدّث بالإنكليزية في عقر داره، هل يحاول الانعتاق من هويته؟ وأي هوية بديلة يختار، وهل في هذا التحرر راحة له من ماضٍ لم يكن على قدر التوقعات؟ أذهب بتفكيري إلى رجال السياسة، هم يلقون خطبهم بلغتهم الأم، وما حاجتهم إلى لغة أخرى وقد أتقنوا، البعض منهم، الكذب وتميّزوا به فنا كبيرا.
أيها الرمش فتّح عينيك، فخلف هذه المشاهد الحية معاناة نفسية كبيرة. العقل شكاك والقلب جبان. ومن هنا يبدأ المد والجزر بين حكومات الدول المورّدة تريد أن تحافظ على هويتها، والجماعات الوافدة تسعى إلى المحافظة على ما يربطها بماضيها. المحاولات الرامية إلى تقريب المسافات محسوسة في كل مكان في العالم، بمواجهة الحملات الإعلامية المغرضة التي تصوّر الروابط النفسية مع الدين تحديدا سببا للدمار في حين أن الدين في صلبه، كل الأديان، يدعو إلى التآخي والسلام. بعض أشكال الانصهار المجتمعي على مستوى العالم مضحك، حمّص إسرائيلي، وكباب أميركي، وهمبرغر إسلامي، وشمبانيا خالية من الكحول، وكوسكوس فرنسي... البعض الآخر تلقائي ناجح نراه في المشاهد الجميلة، موائد، ومدارس، ونوادٍ تجمع أفراد من بلدان وخلفيات مختلفة تراهم يضحكون ويتشاركون المعرفة، والخبرات، وقصص الماضي... النفس الصادقة المحبة ترفض القتال لأسباب واهية والعقل الواعي المسؤول يبحث عن الحلول... التقارب الجغرافي بين مختلف المجتمعات خير معين في تقريب وجهات النظر وتعزيز تقبلنا للآخر في جو من الاحترام والألفة، يقوّينا في مواجهة هذه الحكومات التي تتدافع بنا، عن سابق تصوّرٍ وتصميم.
التعليقات (0)