مواضيع اليوم

زئبقية و ضلالية المفاهيم

نزار يوسف

2013-11-14 08:38:23

0

 

من كتابي ( المنطق الثاني ) - ص / 29 / .

 

 

 

إن المنطق الثاني يقول .. ما فائدة المبادئ أياً كان نوعها و مصدرها و صحتها و صوابيتها ، إذا لم تحقق الفائدة الحقيقية الفعلية لبني البشر ؟؟!! بل ما فائدة المبادئ و القيم و المفاهيم الأخلاقية السامية العليا إذا حققت الخير و الفائدة لقسم أو جزء أو صنف أو عرق من البشر و أغفلت السواد الأعظم و تركتهم هُمَلاً ، لا بل كانت وبالاً عليهم ، أياً كان التفاوت العددي و الكمي بين الطرفين ؟؟!! . المنطق الثاني يقول .. إن المبادئ و المفاهيم الأخلاقية جميعاً ، هي ظواهر اعتبارية صورية موجية لا مادية ، و الإنسان هو وحده من يمتلك مفاتيح تحويلها إلى حيز التطبيق و الممارسة المادية العملية أو تحويلها إلى وهم و سراب و إبقاؤها قيد المجال المنطوق لا تتعداه و تبقى حبيسة دوائره . و المنطق الثاني يقول أيضاً .. إن هذه المفاهيم هي بمجملها ليس لها تعاريف ثابتة واضحة يمكن إمساكها بها و ضبطها بموجبها ، كما إن معظمها مجهول المنشأ تقريباً ( خلا الدينية السماوية منها ) كالحرية و العدالة و الديمقراطية و الشعب .. الخ. و بشيء من التدقيق و التمحيص نجد أنها تحوي في حيثيات تعريفها و هوية مضمونها ، شيء من الزئبقية التي يمكن أن تتفلت من يد التوصيف المحكم الدقيق و تتسرب من وثاق الضبط الذهني العقلي . و لا غرو إذا ما رأينا هذا التفاوت الكبير في التعاريف الاصطلاحية لتلكم المفاهيم ، و الفارق الأكبر في التعامل الذاتي معها و معاملة الغير بها ، ليس على مستوى الأفراد بل حتى على مستوى المؤسسات و الفِرَق و الدول و المجتمعات .

 

المنطق الثاني يقول أيضاً .. إن هذه المفاهيم هي مشبوهة الوجود الحقيقي الفعلي عبر التاريخ فضلاً عن المنشأ بالرغم من جمالية الجوهر و إيجابية المضمون . و إننا نتساءل على سبيل المثال .. الديمقراطية .. أين نشأت ؟؟ و من الذي اخترعها ؟؟ و الأهم من هذا كله ، متى طُبِّقت ، منذ بدء الخليقة و إلى الآن ؟؟!! و في أية دولة أو مجتمع مارستها السلطة الحاكمة بشكلها الكامل المستوفي لشرائطه و مقوماته ؟؟!! .

 

تاريخياً لم يثبت لنا أن الديمقراطية قد طُبِقت بشكلها الحقيقي الكامل إلا مرة واحدة فقط ، و كان ذلك في اليونان القديمة حيث على ما يبدو أنها قد ظهرت هناك . و كان من نتائجها ، إعدام الفيلسوف اليوناني الكبير ( سقراط ) بضغط من دهماء الشعب و عوام الجمهور . و بعد هذه الحادثة أغلق اليونانيون الإغريق دكان الديمقراطية و ختموا عليه بالشمع الأحمر ، و كان لهم الجرأة الحقيقية بأن تبنّوا المنطق الثاني الذي قالوا فيه علانية و صراحة .. إن الديمقراطية ليست هي نظام الحكم الأمثل .. هذا ما تفوه به فلاسفة الإغريق القدماء .

و من يومها و إلى الآن ، خرجت الديمقراطية من حيز التداول الفعلي العملي للتطبيق و التنفيذ و تم وضعها في مجال التداول الشفهي الكلامي للاستهلاك المحلي و التسويف السياسي .

 

أيضاً هنالك مفهوم آخر مثّلَ مبدأ فكرياً هاماً لدى الناس . و لطالما شاع انتشاره مشافهة ، و تداولته الألسن و كان مادة الكلم و وجبة شهية دسمة لوسائل الإعلام بأصنافها الثلاث و لمحترفي السياسة و الشعراء و الفلاسفة و النقاد بل و حتى عوام الجمهور و سفهاء الناس و الدهماء منهم ألا و هو .. الحرية . هذا المفهوم أو المصطلح الذي كثيراً ما حاولنا أن نجد له طعماً أو لوناً أو رائحة عبر التاريخ البشري فما استطعنا . و كثيراً ما حاولنا أن نمسك بتلاليبه عبر مفصل من مفاصل التاريخ و حَدَث و من أحداثه ، علة و توثيقاً فما استطعنا إلى ذلك سبيلاً . فقد كانت زئبقيته الرهيبة أكبر من أية قدرة لنا على إحاطته أو حصره أو حدِّه بحيز ما. و المكان الوحيد الذي استطعنا أن نحدّه و نعدّه فيه ، هو نيويورك حيث يقبع صنم ملاطي ضخم يقال له ( تمثال الحرية ) .

 

لقد حاولنا عبر التاريخ أن نجد حادثة واحدة أو واقعة أو وثيقة أو أحفور أثري يدلنا على تطبيق الحرية و شيوع منطقها في ميدان الممارسة التطبيقية العملية و وجود شيء من منهجها ، فلم نجد . لكن المنطق الثاني يقول .. إن الحرية كثيراً ما وُجِدت عبر التاريخ ، لكن للقوي الغالب الكاسر بسطوته و بطشه و الذي اتخذها محظية له و غانية من غوانيه .. هو السلطان الذي اغتصبها و حلّلها لنفسه فقط ، و ضمها إلى حريمه و منَعَ أحد غيره من الوصول إليها أو لمسها أو التمتع بها . و كل من فعل أو حاول أن يفعل ذلك ، كان مصيره حد السيف لأنه تجرأ على حرمة من حريم السلطان ، و ذلك ما يستوجب أن يُقام عليه حد الزنا .

لكن السلطان سمح أحياناً للناس أجمع أن يتكلموا عن غانيته تلك و يلهجوا ألسنتهم بذكرها و وصف حسنها و جمالها و أحياناً أخرى ، مفاتنها و أن يحلم كل منهم بمنامه بمضاجعتها أو الاستنماء لأجلها في خلواته .

 

أجل .. لقد كانت الحرية موجودة عبر التاريخ و لا زالت ، لكن في ( الحرملك ) حيث حريم السلطان ، تهيئها القهرمانة الموكلة بها و تشذّبها ما بين الحين و الحين و تجمّلها لتقودها إلى السلطان حيث يقضي وطراً منها . و لعل قارئنا اللبيب قد لاحظ أن الحرية دائماً ما كانت تُصَور على هيئة امرأة إما متفلتة من عقالها أو مبرزة مفاتنها . و عندما اختار رسام الثورة الفرنسية ( أوجين دولاكروا ) أن يجسد رمز الحرية في رسمه ، صوّرها على شكل امرأة شبه عارية تقريباً تدلى أحد أثدائها و تجسّمت أفخاذها و أوراكها ، ما يستوجب حضور دلالة الشبق الجنسي، و حولها أشخاص يقتتلون بالسيوف و السواطير و المسدسات و البنادق. حتى تمثال الحرية ، ذاك الوثن الصخري القابع في ميناء نيويورك ، تم تجسيده بصورة امرأة ..

 

 

يقول المنطق الثاني إن مفهوم الشبق الجنسي كان دائماً يشكل ثنائية جدلية مع المحّرم أو الممنوع تماهياً مع المثل القائل ( الممنوع مرغوب ) .

و ختام الإعراب .. لم تصُحّ الحرية بياناً و واقعاً عبر التاريخ إلا بامرأة من ( حريم السلطان ) أو حجر جامد أصم أبكم لا ينفع بشيء . و بالثبت التاريخي أيضاً ، يتضح لنا أن المبادئ و القيم بمجملها كانت عرضة لأمرين اثنين .. الاحتكار و الاختراق .. الاحتكار من قِبل أصحاب السطوة و القوة ، ما يعني حق الاختراق بموجب حق الاحتكار ، فمحتكِر الشيء يحق له أن يفعل به ما شاء . أيضاً الاختراق من قبل الطرف الآخر متى استطاع لذلك سبيلاً .

 

 

نزار يوسف




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !