أين ستتناول إفطارك اليوم؟
في البيت طبعاً..
اليوم هو آخر أيام رمضان المبارك.. فما رأيك في أن نتصل بأصحابنا ونفطر في الحسين..
ونقضي ليلة رمضانية بقاهرة المعز ونستنشق عبق التاريخ؟
فكرة رائعة .. موافق طبعاً..
آه نسيت أن أخبرك أن صديقنا "خ" أدخل ابنته التي شعرت ببعض الإعياء مستشفى "ز"
فنريد أن نعرج عليه في طريقنا إلى القاهرة للسؤال عنها والاطمئنان عليها..
واجب طبعاً..
تجمّعنا وأصحابنا متوجهين إلى القاهرة ونحن نُمني النفس بأحلى الليالي الرمضانية ..ضيوفاً علي سيدنا الحسين ..ولنتنسم عبق القاهرة الفاطمية حيث الزمن لم يبرح مكانه .. تكاد أنفك تشم رائحة ألف عام من التاريخ ..وكأنك أحد أبطال رواية آلة الزمن الشهيرة ..
• لم نشعر بالوقت ونحن نتبادل الحديث حتى انتبهنا حين انعطفت السيارة إلى الطريق الفرعي المؤدي إلى مستشفى "ز" ..
هناك بمجرد دخولك المستشفى تجد نفسك وكأنك دخلت الغلاف الجوي للصمت الرهيب والرهبة الموحشة ...
• بحثنا عن صاحبنا حتى عثرنا عليه متكوماً ومتكوراً و محنياً .. كأن رأسه سقط منه بين ركبتيه .. ويداه لا تدري أهي تحت رأسه تسنده أم على قلبه تحجزه وتمنعه من القفز من بين ضلوعه ..
• وعلى بعد مسافة منه كانت زوجته جالسة على حافة مقعد طويل خال واعتمدت بإحدى يديها على عامود المظلة بينما تمسك بيدها الأخرى شيئا ما ..
• بادرته بالسؤال عن صحة ابنته .. لم يجبنا بلسانه .. بل أجابنا بنهر من الدموع انسال على خديه جزعت له أنفسنا وأدركنا أن الأمر جد .. وتهيأنا لسماع أخبار مؤلمة عن "ن" الصغيرة التي لم تتعدى بعد الخط الفاصل بين نهاية عامها السادس وبداية عامها السابع .. كانت "ن" الوسط بين أختها التي تكبرها بعامين وأخيها الذي يصغرها بعامين ..
ثلاثة أبناء لصاحبنا كنا نجدهم دوماً في أناقة ملموسة وحسن هندام وأدب جم .. نتعجب كيف استطاع صاحبنا أن يروض طفولة أولاده بما لا يمس براءتهم ... ومن فرط العناية بهم كان صارما في أوامره بالبعد التام عن حلوى الأطفال والأغذية والمقرمشات المحفوظة ذات مكسبات الطعم التي سحرت الدعاية الإعلانية أطفالنا بها فلا تكاد تفرغ أيديهم ولا أفواههم منها ..
• لذلك ما كان يخطر ببال أكثرنا تشاؤماً أن ما ألم بالصغيرة يتعدى الوعكة البسيطة.. ا
نتظرنا حتى كف نهر دموعه عن الجريان لينساب نهر آخر من الأحزان يتدفق من بين شفتيه .. أنصتنا إليه .. فقال لنا
• لا أدري من أين أبدأ.. كان يوما جميلاً وحافلاً.. اشترينا ملابس العيد للأولاد ... كانوا في قمة سعادتهم وكل منهم يحتضن ملابسه ويتخيل نفسه فيها يوم العيد .. أعجبت ابنتي "ن" لعبة" وطلبت مني أن اشتريها فاشتريتها لها ... فقد كانت أحب أولادي إليّ .
حاولت أن تفتح اللعبة لتتفرج عليها إلا أن أمها نهرتها ورفضت بشدة أن تفتحها أو تلهو بها إلا يوم العيد ..
فهي هدية العيد .. ولم تجدي توسلاتها أمام رفض أمها الصارم ..
أذعنت ابنتي لقرار أمها ولكنها قالت لها " لن أنام حتى يأتي يوم العيد لأفتح لعبتي والعب بها "!!!..
• كانت رغم صغر سنها تقوم على شئوني وكأنها قد سلبت أمها دورها كزوجة .. كانت تعد لي كوب الشاي .. وتناولني حذائي بل وتلمعه بنفسها .. وكانت تقوم بكي ملابسي .. كنت أخشى عليها من أن تصيبها سخونة المكواة فتطمئنني .. يشهد لها الجميع بشدة الذكاء ... حتى انها فاقت سنهاوأقرانها في الحيوية والنشاط ...
• في الطريق ونحن عائدون إلى المنزل اشتكت ابنتي "ن" من أعراض ارتفاع في درجة حرارتها أعقبها قيء متكرر ..
أرجعت الأمر لمشقة رحلة شراء ملابس العيد ... خاصة وأنها مداومة على الصوم رغم صغر سنها ..
طمأنني الطبيب بعد أن كتب لها علاجا يمنع القيء ويخفض الحرارة .. فوجئت بحالتها تسير إلى الأسوأ بعد تناول العلاج ..
فذهبت إلى طبيب آخر .. بعد أن فحصها بدقة طلب مني على عجل عمل تحاليل دم .... عدت إليه وما إن ألقى النظرة الأولى على نتيجة التحاليل حتى امتقع وجهه .. إنزيمات الكبد مرتفعة جدا جدا ..أمرني بلهجة صارمة صادمة طالباً مني وعلى وجه السرعة إدخال ابنتي مستشفى "ز" ..
تعجبت من طريقته فابنتي فعلا تشتكي الألم ... ولكنها أمامي طبيعية إلى حد أنني شككت في دقة تشخيص الطبيب وفي تهويله للأمر .. عدنا إلى المنزل وابنتي "ن" تحدثني عن ضيق حذائها الجديد .. وعن ملابس العيد الموضوعة في دولابها وتخشى أن يبعثرها أخوها كعادته في العبث في دولابها على نحو يكرهه حبها للنظام..
لم أستطع أن أستكمل كلامي .. خنقني البكاء .. وشنق أمها النحيب ..
ما كدنا نهدأ سويعات حتى دوت أجهزة الإنذار وتعالت النداءات وهرع الجميع يخرجون يتصادمون في الطرقات ويتدافعون على حجرة العناية الفائقة ... حيث ابنتي .. ماذا حدث .. يا إلهي .. عاودني الحزن والفزع .. لقد توقف القلب الصغير مرة أخرى .. أعادوا استخدام الصدمات الكهربائية .. جسد ابنتي ينتفض بين أيديهم عقب كل صدمة ..
والله كنت أشعر بتلك الصدمات وكأنها تصعق قلبي أنا .. تدخلت السماء مرة أخرى .. وأبي القلب الصغير إلا أن يعود للنبض ... لتعود ابنتي مرة أخرى للحياة ..
وهي الآن راقدة بالدور الخامس ... وأنا وأمها لا نبرح مكاننا هنا في باحة المستشفى نعاودها بين حين وآخر ونعود لمكاننا هنا ..
في الصباح استدعوني وطلبوا مني شراء نوع من الدواء لها من الصيدلية وجدتني أهرول في الشارع حتى وصلت إلى صيدلية
تبعد حوالي الكيلومتر قطعتها ذهابا وإيابا هرولة في دقائق.. ذاهلاً عن سيارات التاكسي التي تمرق من حولي خالية ...
كنا نستمع لصاحبنا ونحن واجمون وكأن على رؤوسنا الطير ..غير مصدقين أنه عاش هذه الأهوال وحده دون أن يكون معه أحد منا ودون أن نشعر بما حدث لابنته .. كأنه كابوس دهمه في نومه فجلس يحكي لنا عنه .. أفقنا على سؤاله لنا عن وجهتنا قبل المرور عليه .. استحيينا أن نجيبه .. وجدناه يطلب منا بأن نواصل سفرنا إلى وجهتنا مطمئنا إيانا عنه وعن ابنته ؟؟
رفضنا رفضا قاطعا وأصررنا على البقاء معه.. فوجئنا به يقسم علينا بابنته وهو يبكي بألا نخالفه طالباً منا أن نتركه وحده . ..
أسقط في أيدينا .. لم نملك إلا الصمت .. والانصراف مودعين.. واصلنا سفرنا إلى القاهرة .. دخلناها قبيل آذان المغرب ..
عرجنا على أقرب مطعم لتناول الإفطار فيه ..جلسنا وقد بلغ منا الحزن كل مبلغ ..
انطلق آذان المغرب وقبل أن ينتهي الآذان دق جرس تليفون أحدنا المحمول ... تسمرنا جميعا ..
ما إن وضع تليفونه على أذنيه حتي تخشبت عيناه وانفتح فاه ...
كان الاتصال من صاحبنا ... ماتت ابنته .. ماتت .... ماتت
انتفضنا مذعورين .. انقلبت المائدة الخاوية من فرط ارتجالنا ..
قفزنا جميعا في السيارة كالمجانين .. عائدين لنلحق به ..
اتصلنا بكل من نعرفه ليسبقنا إلى المستشفى للوقوف إلى جانب صاحبنا لحين وصولنا .. فقد كان وحيدأ ليس معه إلا زوجته ..
الطرق في القاهرة تبدأ في الازدحام بعد الإفطار .. والسيارة تكاد تطير .. نتابع الاتصالات مع باقي أصدقائنا الذين سبقونا إلى المستشفى ..
لقد تم تغسيلها وتكفينها ..
لقد خرجوا بها من المستشفى ... إنهم في الطريق إلى المسجد .. سيصلون عليها العشاء ثم صلاة الجنازة ..
قتلنا الندم على أننا لم نمكث بجوار صاحبنا حتى ولو رغماً عنه .. الجسد الصغير غادر المسجد في الطريق إلى المقابر ..
ركبنا بساط الجنون .. وسابقنا الريح .. وصلنا المقابر .. ركضنا من السيارة .. قوائم النعش كانت تستقر على الأرض ..
رفعت الأيدي الجسد الصغير ملفوفأ في كفنه الأبيض ...
غاص الجسد بين الأكف التي اندفعت لحمله وسط انتحاب الرجال ودموعهم التي أغرقتهم ... دخل الجسد الصغير إلى قبره ..
توارى ضوء الكفن الأبيض داخل جوف القبر الأسود ...بدأ التراب ينهال على القبر.. وصوت الواعظ تتداخل فيه أصوات تراتيل وأغنيات الفرح وتهليلات العيد آتية من الأماكن السكنية المجاورة للمقابر !!
وعويل الأب المكلوم يمزق نياط القلوب .. ضممته بين ذراعي ..
تساقط بجسده عليّ.. كأن ثقل جبل أًُحد وقع على صدري ...
حاولت أن أسنده فوقعت من يده " لعبة أطفال" !!!!
" بعد شهرين من اليوم تحل ذكراها السنوية الأولى"
التعليقات (0)