الفصل الثاني :
قلتُ لها ألا تتصلَ بي قبل الثانية ، فلن أكونَ موجودًا قبل ذلك ، وحاولت أن أتخلص من بعض الأعمال لأعود إلى مكتبي باكرا ..
لكن لقاءً هاما في بيت صديقة قديمة ـ التقيتها مؤخرا تعمل في أحد فروع الشركة ـ كان يجب حضوره ، لإزالة حساسياتٍ وخلافات شخصية أعاقت حسن سير العمل ، وكلفتُ رسميا بتطويقه ..
وبالأمس ألحت عليّ " زينة " ـ خلال حديث ناعم مطول ـ بضرورة أن نلتقي في بيت غالية ، وبحضور أم وسام ، لنتفق على خطوات الحل ، آملة ألا أخذل لها موقفها أمام الآخرين ..
ومع ذلك ، لم أعِدْها إلا بحلٍّ يرضي الجميع ، ولا يهضم حق أحد ، فقبلتْ على مضض ، لأني حذرتها بالاعتذار عن لقاء الغد إن لم تكن مستعدة لقبول مقترحاتي ..
وحين شرحتُ لأم وسام وجهة نظري ، وطريقة الخروج من المأزق ، انجلى وجه زينة ، وتورد ، وضحكت عيناها الخضراوان كما لم تضحكا من قبل ، وهي منحنية أمامي تقدم لي فنجان القهوة ..
كنت أراقب مرور الوقت ، وكانت زينة تتباطأ ، وتستمهلني ، مختلقة أحاديث لم يكن بوسعي ألا أسمعها لولا الموعد الذي ينتظرني في المكتب .. فشربت قهوتي على عجل ، وودعتهن ، على أن نجتمع غدا في المكتب الرئيسي لاستكمال إجراءات الحلحلة ..
RRR
بالفعل ، ذهبت إلى اللقاء الذي اتفقنا عليه بالأمس ، سمعت من كلا الطرفين أسباب الخلاف ، ثم عرضت مشروع الحل ، تناقشنا فيه مطولا .. كانت زينة تجلس قريبا مني ، ولم تتفوه .. وحين فاض بي الكيل ، وقفت قائلا : سأرفع الجلسة لربع ساعة ، ونعود .. فإما الموافقة على مشروعي ، وإما هناك طريقة أخرى للحل ، ستأتيكم عبر كتاب رسمي .. ثم طلبتُ من الجميع مغادرة قاعة الاجتماع ، فغادروا .. لكن زينة عادت قبيل الموعد بقليل ، ترفع لي إبهامها ، مؤيدة موقفي ، وقالت : سيوافقون لا تقلق .. وسيكون الاحتفال بذلك عندي في البيت ، في السادسة مساء .. أرجو أن لا تتأخر ..
لم أجبْها .. كنت أدخن ، زفرتُ في وجهها دخان سيكارتي ، حركتْ رأسها تتأكد من عدم دخول أحد ، قبل أن تشهق عميقا ، والتفتت خارجة وهي تقول : سأنتظرك على ...
ولمّا عادوا بعد انتهاء المهلة ، وافق الجميع ، وصفقوا للاتفاق .. فهمست لي زينة ونحن آخر من نغادر القاعة : ألم أقل لك سيوافقون ؟؟
سألتها قاصدًا سبرَ نواياها : منْ ضيوفك في المساء ؟؟
قالت وهي تلكزني وترمقني بنظرة خاصة : أأدعو مختار الحارة معك ؟؟!!
" زينة ، فراشة ناعمة حتى الذوبان ، رقيقة كياسمينة عذراء ، أنثى كفلـَّة متفتحة للتو في صباح ربيعي دافئ ..
" هي بحرٌ من الدلع والغنج المكنون ..
" إنها سيدة ملكات بني جنسها .. يحوم ويطير ويسبح حولها وخلفها كل أنواع الدبابير ، وتسعى الأخريات بين يديها ، وصيفاتٍ لها .. وعن طيب خاطر ..
" كنت لا أزيد في ملاطفتها خوفا من أن ينفرَ الدم من وجنتيها الملتهبتين دوما .. وأتحاشى أن أمدَّ لها يدًا غير متثلجة ، حتى لا أقتحم عليها قفصَها الذهبي الذي تناثرت من حوله همهماتٌ لستُ بصدد تصديقها أو تكذيبها .. كل ذلك لا يعنيني ..
" هي الأنثى ، لكنها ليست النموذج الذي أستشعر معه سعادة تنتشلني من الرمادي الذي يغلف حياتي ..
" فما دنوتُ منها إلا بمقدار ما تتطلب ظروف العمل ، وما ابتعدت عنها إلا كي أتجنبَ نظرات الفضوليين ، وأقطعَ ألسنة يمكن أن تنهشنا بلا رحمة ..
" لقد كنت أدرك سرّ إلحاحها على اللقاء في بيت غالية .. وتأكد حدسي ، حين قدمَّتْ القهوة لي قاصدة أن تعطيهما ظهرها لتهمس لي : يسلملي الحمش ..
" وقد أعطتني رقم الهاتف الثاني في بيتها ، والذي لا يعرفه أحد في الشركة ، على أن أكلمها عليه وقتما أشاء .. فهذا الخط لها فقط ، ولا يَردُّ أحدٌ عليه سواها ..
" وإذا ردّت الشغالة ، فيكون ذلك بإذنها ، ولا بأس من أن أطلبها منها ، فستردّ عليّ من السماعة اللاسلكية أينما كانت ..
" حتى الآن ، أعتقد أنه لم يلحظ أحد شيئا في تصرفاتها تجاهي .. لكن غمزات الأستاذ مصطفى لم تكن مجانية .. فهو الذي يشم هذه الأشياء على ظاهر كفه ، كما يقولون .. وقد حذرني بأبوة : " ابتعدْ عن هذه النار " ..
" وأنا لزمت الحيطة والحذر الشديدين في تعاملي معها ، وهي التي أطلقت العنان لنفسها ، لكنها تـُلبسها لبوسا رسميا وجديا ، حين تجد المكان غير آمن ..
" وظنّي ، أن غالية على دراية غير مباشرة بذلك ، لأنها ليست مضطرة لاستقبالنا في بيتها ، للتداول في أمور العمل .. وإن كنت لا أستبعد حاسّة أم وسام .. فهي سيدة خبيرة ومجربة ..
" ما من أحد لم ينصبْ لها شرَكا ، أو يحاول .. وهي تعرف كيف تحمي نفسها وتتجنب كل الأفخاخ .. ولا أعرف إن كانت قد نصبتْ شركا لأحد قبلي .. لكنها الآن ـ وبالتأكيد ـ هي من تنصبُ لي الشرك .. فهل أنجو بنفسي ، وأنا أعرف مكانه وزمانه وخطورته ونتائجه ؟؟ أم أتجاهل كل ذلك ؟؟
ذهبت في الموعد متأخرا دقائق قليلة .. بيتها في حي راق هادئ .. الباب مُوارَبٌ .. كبست الجرس ، سمعتُ صوت هرولتها .. انفتح الباب عنها .. كانت أجمل من كل الأوصاف التي مرت ، وأروع من أي خيال ..
لاحظتْ جمودي وتسمّري في مكاني ، فأمسكتْ يدي وقادتني إلى الصالون .. جلستْ بقربي ، أسندتْ ظهرها ورأسها إلى الوراء ، كأنها تحلم .. المكان عبق برائحتها المميزة ، والستائر مسدلة ، واللهب والدفء ينبعثان من موقد للحطب في الزاوية القريبة .. لم أتحررْ بعد مما أنا فيه .. للحظةٍ تخيلتها سعاد ، وأنا أتفحص وجهها .. لا أعرف سببًا لهذا التخيل ، ولا الرابط بينهما .. أحستْ باضطرابي ، فعمدتْ تطمئنني : لا أحد يمكن أن يُفسدَ علينا هدوءَنا .. اخلع معطفك ..
قلت : أريد قهوة ..
قالت : مستعجل ؟؟ لا بأس ، جاهزة ..
أخذت معطفي ، وغابت قليلا ، ثم عادت بالقهوة .. انحنت أمامي وهي تقدمها بأناةٍ قائلة : سيكون ألذ فنجان تشربه في حياتك ..
قدمت لي سيكارة ، وحين مدَّتْ يديْها تشعلها ، أخذتهما بكفيَّ وأنا أشكرها .. ثم وضعتْ فنجانها جانب فنجاني ، وجلستْ بجانبي ..
سألتها لألتقط أنفاسي : هل اقتنعَ الجميع بما تمَّ اليوم ؟؟
قالت : عليهم أن يشكروا صنيعَكَ إلى الأبد ، فقد أنقذتهم من لجان التحقيق ، وما أدراك ما لجان التحقيق ..
قلت : الإدارة ليست راغبة في التصعيد ، وهذا حلٌّ توفيقي ..
قالت وهي تسند رأسها على كتفي : لسنا هنا في المكتب ..
RRR
أسوأ الأشياء أن يغمرَكَ دفءٌ ، تشمُّه وتشتهيه ، ثم يسيل لعابُك .. لكن مرارة الشعور بالأمان تقتلعك كعاصفةٍ ، وتذروكَ في المجاهل البعيدة .. فتتمنى لو لم يمرّ بك ما مرّ ..
وإذ تختلي بنفسك ، تضغط الذكرى على عظامكَ ، وتصبح أسيرًا لماض لا تستطيع التحرر منه ، ولا تريد أن تسترجعه كي لا تشقى به ثانية .. إنها الزوّادة التي تحمل إليك لقمة الزقوم ..
اغمضْ عينيْك أيها المساء .. فلكم حاذرْتُ الوقوعَ في براثنكَ الذهبية اللمّاعة !!.. وكم حملتُ أسايَ في محفظة قلبي ، سارحًا بها عبر أطيافٍ تأبى الولوجَ في مدامع الصبح المرتجف !!..
تتكاثر الرؤى وتتوالد ، فتنجبُ لك وليدًا مشوها ، ويضاعِفُ ألمَكَ ، شعورُكَ بأنكَ سبب ميلاده وشقائه ..
ولا تستقيم الحياة إلا بالماء والنار معا .. تكويكَ النار مرة بعد مرة ، حتى إذا ما صادفكَ المَدُّ في طريقه ، أطفأ جذوة الوجْدِ في عروقكَ ، وحمَلكَ في أمواجه ، وأنتَ بين حياةٍ قلـّمَتْ أظافركَ حتى الثمالة ، وموتٍ يسكن أحشاءكَ ، فيقرضكَ على مَهَل ، متلذذا بطعم التوابل ..
التعليقات (0)