مواضيع اليوم

ريح الصَّبا ـ رواية ـ الفصل الثالث

يوسف رشيد

2010-10-31 16:06:34

0

الفصل الثالث :

 

عند انتظار مرور الوقت ، لا يمر كما نشتهي .. إنه يمشي بروتينيته الأزلية .. لا يطيعُ رغباتِ الناس ولا رجاءَهم .. إنه يمشي وفق نواميس الحياة منذ بدء الخليقة .. فلا يسرعُ لمن يرغب بسرعة مروره ، ولا يبطئ لمن يريد منه التباطؤ ..

     قبيل الثانية وصلت مكتبي .. سألتُ عن أسماء المتصلين .. لم يكن اسمها بينهم .. جلستُ متسمّرًا جانب الهاتف .. رنّ .. ورنّ ... ورنّ ....

لا أنتظر أحدا من أولئك .. رن مرة أخرى .. ألو .. ألو ..

ألووووو .. لا أحد يرد ..

لا بأس .. ربما لم تتعرف صوتي .. قد تعاود الاتصال .. انتظرت طويلا ، بلا فائدة ..

لم أغادرْ مكتبي .. بحثتُ في الدليل عن رقم للاسم الذي شاهدته مكتوبا على زر الجرس .. سألتُ الاستعلامات .. بلا فائدة أيضا ..

لزمت المكتب أيام الأربعاء والخميس ، واضطررت للرد على كل المكالمات .. وأمضيت يوم الجمعة مضطربا ، وتقصدت أن أمر قريبا من بيتها حين خرجت لزيارة صديق ..

ليس ثمة ما يطفئ لي شغفي المحموم ..

كان كل يوم دهرًا ..

ـ ما الذي جرى ؟؟ لماذا لم تتصل ؟ ألمْ تعِدْني ؟؟

هل لاحظت أمُّها شيئا فمنعتها ؟؟ هل حقا ليس عندهم هاتف ؟؟!! هل أنكرتْ وجودَ هاتفٍ في بيتهم ، وأخذتْ رقمَ هاتفي لتتخلصَ مني ؟؟

يوم السبت ، لم أكن مضطرًّا للخروج باكرا .. خرجت قبيل السابعة صباحا ، مفترضا أنها ستغادر البيت إلى دوامها .. دخلتُ ممر البناية الخارجي منتظرا ومرتبكا .. ما الذي أفعله ؟؟!! هل سترحب بلقائي ؟؟ أم ستقابلني بامتعاض وانزعاج ؟؟

سمعت بابا ينفتح ، انتفضتُ ، وهممتُ أدخل الممرَّ الداخلي ؟؟

ماذا لو لم تكن هي ؟؟!!

 

اليوم حدٌّ فاصل بين الإقدام والإحجام .. فإذا رأيتها كما أتوقع ، سيتحدد موقف جديد ليس له سابقة عندي ، وسأبني عليه مواقف ومواقف ..

فهذا الصباح ليس صباحا عاديا ، كما لم تكن الأيام التي سبقته أياما عادية ..

ومنذ مساء الثلاثاء حتى صباح اليوم ، تغيرت أشياء كثيرة جدا في الكون ..

 دارت الأرض حول محورها أكثر من ثلاث دورات.. وقطعتْ مسافة لا بأس بها في دورانها حول الشمس .. كما أن القمر لم يتوانَ عن التحرك من منزلة إلى أخرى ، مغيّرا بذلك مواقع الأبراج  .. فتغيرت معه نفوس كثير من البشر الذين يؤمنون بمكانة الأبراج وتأثيرها في سلوك الناس وأمزجتهم وحظوظهم ..

وتبدلتْ مياه الأنهار والينابيع ..  وتحرَّك عالم البحار والفضاء ..  وتشكلتْ سحب ، وتلاشتْ أخرى ، وأرعدتْ وأمطرتْ .. وتحركتْ رياح وأعاصير .. فاهتزت كيانات وسقطت أوراق .. و ... و .... و .....

فهل تلك الأيام كانت أياما عادية ؟؟!!

 

برودة الصباح ، وحركة السيارات ، والناس ، وتلاميذ المدارس ، وصخب الواقفين أمام المخبز ، كل ذلك لم يأخذ من انتباهي وقتئذ أي شيء ..

لم أكن أعرف سوى أنني يجب أن أراها ..

كان ممر البناية هادئا ، لا أثر للحركة فيه .. كنت أنتظر وفي داخلي تتصارع كل التوقعات والأفكار ، من أول اليسر والسهولة إلى أقصى وأقسى الصعوبات .. كنت أشعر بحرج وجودي هناك  لكن ذلك لم ينل من إصراري وعزمي على اللقاء بها ..

" لم أنتظر أحدا  بهذه الطريقة ونحن لمّا نتعارف ..

" مررت بلحظات ضعف ساقتني لانتظار من أحب ، ربما لأوقات أطول .. لكن لم أنتظر فتاة ، ولم تشغلني فتاة قبل الآن كانشغالي بهذه التي لا أعرف سوى اسمها وبيتها ووعدٍ منها بالاتصال بي خلال الأيام السابقة .. وهذا ما لم يحدث..   لكن مازلت إلى الآن أشك في أنها لم تتصل أبدا ، سواء سمعتْ صوتي وعرفته ولم تتكلم ، أم لم تسمعه ، فلم تتكلم أيضا ..

" كنت أقف في الممر قلقا : كيف لو لم تخرج اليوم أبدا ؟؟

" ماذا لو عرفني أحد سكان البناية وتساءل سرا أو جهرا عن سبب وجودي ههنا في هذا الصباح الباكر ؟؟!!

" ماذا لو خرجتْ وكانت بصحبة أمها ، أو أختها التي كانت زميلتي ؟؟!!

" حسمتُ الأمر في سري : سأبقى واقفا ولو تأخرتْ دهرًا ، وسأكلمها ولو كانت بين جميع أهلها ..

كنت أتحرك بين أول الممر وآخره بهدوء وحذر.. أقترب من باب بيتهم .. أضع أذني على الباب لعلـّي أسمع صوتا وراءه ، أو حركة ما ، توحي بأن أحدًا يتهيأ للخروج ..

يمر الوقت بطيئا ولزجا ، ولا شيء سوى صخب الشارع ، وهدوء الممر الذي ما لبث أن قطعته حركة انفتاح أحد الأبواب الثلاثة المتجاورة والمتقابلة .. كنت واقفا عند مدخل الممر أنظر خارجه دون أن أرى شيئا .. التفتُّ .. أحسستُ أن كياني كله قفز إليها معانقا ، فيما اضطرب قلبي بدقات يسابقُ كلماتِها التي عاجلتني بها ، هربًا من ارتباك بدا واضحًا في التقاء عيوننا .. وكان لكلٍّ منا سبَبُه في هذا الارتباك ..

هي للمفاجأة بوجودي .. وأنا لغبطتي وفرحي باللقاء ..

 قالت بانشراح ، وكأنها متوقعة أن تراني : صباح الخير ..

ارتعش قلبي ، وانتعش بمزيد من الأمل والحبور ..

انتشى رأسي بآمال كانت قبل لحظاتٍ سرابًا .. وطارت بي أجنحة من خيال مدهش ..

كانت متوردة الوجه ، فيّاضًا ببهكنةٍ مُحبَّبةٍ لي .. واتسعت الابتسامة في عينيها أكثر من الشفتين ، مما هدأ كتلة القلق التي كانت تغلي في داخلي ..

سألتها : إلى أين ؟؟

كانت ترتدي نفس المعطف الخمري الذي رأيتها فيه .. ومن تحته يبدو اللباس الرسمي لطالبات ، بربطة العنق الكحلية التي تناسقت مع تورد الوجنتين والشفتين ولون المعطف ..

قلت : لنخرج معًا ثم نتفاهم ..

كان الصباح مشمسًا ، فيه هبَّاتٌ باردة تلفح وجهيْنا ..

الساعة تجاوزت السابعة والنصف ..

انعطفنا يمينا نمشي بهدوء وغبطة ، وقد أزال اللقاءُ المُبهجُ كلَّ ما لازمني طيلة الأيام السابقة ..

اتفقنا أن نشرب القهوة معًا في مكتبي ..

دخلنا غرفة المكتب ، أحسست أن كل شيء فيها يهلل ويرقص فرحا بنا ، وانسجاما مع قلبينا اللذين بالكاد التقيا..

شمس الصباح تعانق الأصص ومزروعاتها عبر النافذة الجنوبية ، فبدا اخضرارها أكثر لمعانا وشفافية..

أيمتلك النبات كل هذا الشعور والإحساس ؟؟

هل أحستْ بما يعتمل في صدرينا ؟؟

الغرفة دافئة باللهب المتصاعد من المدفأة التي تتقد بداخلها النيران شهية هائجة .. لكنها أقل بكثير مما كان يتقد بداخلي  ..

ولو قسنا حرارتينا ـ أنا والمدفأة ـ لبدت المدفأة متثلجة الأطراف ، مثلما كان التثلج باديا على يدي سعاد ..

" أيتها المبحرة في فضائي .. يا نبض القلب والوريد ..

" يا نور العين وننـَّها .. يا إشراقة الكون وضياءه ..

" يا بهجة الروح والخلود .. أيتها الحب الذي ولد أكبر حجما من مجموع ما في الكون كله من حب وعشق وهيام ..

" يا شِغاف قلب كان أسيرًا بلا خطيئة ، فصار أسيرًا يعشش في ثناياه الحبيبُ الآسِرُ ..

وقفنا متجاورين جانب المدفأة ، فكانت أقرب إلي مما كناه في الحافلة .. غرزت أصابعها في شعرها تسوّيه ، فتطايرت منه موجات ناعمة دغدغت الصباح بأريج عَطِر ..

كأن تلافيف دماغي قد تسطحت .. وتطايرت حروف الأبجدية منها ، ولم أجد ما أقول ، سوى مقطع غنائي معبر :

" ما بعرف وين لاقيتا

" ولا بعرف وين حكيتا

" شو بتعرف ؟

" بعرف حبيتا ، ولحقتا دغري على بيتا ، وأكتر من هيك ، ما بعرف ..

أليس شبيها بهذا ما جرى ؟؟!!

 

مع قهوة الصباح وفيروزياته ، سرى الدفء في عروقنا .. وخلعت سعاد معطفها الفضفاض ، فبرزت أفروديت العصر الحديث ..

لم أكن أصدق أنها أمامي ، وأننا نتكلم كعاشقين لم يفترقا منذ بدء الخليقة ..

توقـّف الصوت الفيروزي لانتهاء الشريط .. غيّرتْ وضعه وقالت : يا حظي منك ..  أرجوك .. سنستمع فقط ..

تساءلتُ : أمسموح النظر في عينيكِ ؟؟!!

 

(( سمعت الجيران بيقولوا  ، يمكن يكون عميضحك عليها

وعينك تشوف الليل بطولو ما نشفت الدمعا بعينيها..

بعدها بعمر الهوى صغيرة .. وقلبها بالحب طفلة صغيرة ..

مش عارفة في فِ الدني غيرة .. وحسّت بصدرا شي عمبطير ..

جربت تغفا عَ دمعاتا ، لا غفيت ولا عرفت الأحلام ..

وتذكرت حكيات رفقاتا : انو اللي بحب ما بنام ..

يا ريت فيها تحملك وتروح عَ بلاد ما تقشع حدا فيها ..

وهونيك شو بدا بأشيا تبوح ، وشو عندها حكايات تحكيها ..

بدا تقلك هون خليني ، عايشي عَ الحب والألحان ..

وحَدْ قلبك هيك خبيني .. ويخبروا بنياتها الجيران )) ..

 

انتهت الأغنية ، فانتابتنا نوبة متزامنة من الضحك ، وأسندتْ جبينها إلى جبيني ، وقالت : يا لروعة حظي !!

اسمع جيدا :

أغارُ عليكَ من عيني ، ومني    ومنكَ ومن زمانكَ والمكانِ

ولو أني خبّأتـُكَ في عيوني      إلى يوم القيامة ، ما كفاني

ثم مضت إلى الشمس المنسكبة عبر النافذة ، ودندنت بصوت نجاة :

متى ستعرفُ كم أهواكَ يا أملا     أبيـعُ من أجله الدنيا وما فيــــها

لو تطلبُ البحرَ في عينيكَ أسكبُه   أو تطلبُ الشمسَ في كفيكَ ألقيها

 

تحركتُ نحوها أتساءل مندهشا : أيُصدّق أحدٌ ما يجري ؟؟!!

RRR

 

لم يحرمْنا بعض الزملاء والزميلات من فضولٍ ، يقطعون به علينا انسجاما كان مفقودا لأجَلٍ بعيد ، فطلبتُ من أحدهم أن يؤمِّن لنا إفطارا سريعا ..

كنا شرهَيْن ، نتشهّى الطعام وكأننا نتسابق ..

ومع قهوة أخرى ، قلت لها : اسمعي جيدا :

شاهدتُ أختَ البدر تشربُ قهوة   في ليلةٍ ، غـَزِلت ْبها عيناها

لم أدرِ أيـًّا كـان أكثـرَ رقـّــة     فنجانها الصيني ، أم شفتاها

 

مرّ الوقت خاطفا .. لم نوفر برهة ، ولم نضيّع فرصة نعبُّ منها فرحًا طفوليًا ، جعَل روحيْنا تتعانقان وتبتهجان ، ودغدغ قلبينا بأعذب سيمفونية ملونة بكل ألون الزهور ..

ـ سألتها : أين كنتِ ؟؟

ـ قالت : أنتظرك ..

ـ لِمَ تركتِني أصطلي بالنار التي أوقدْتِها ليل الثلاثاء ؟؟ لِمَ لمْ تتصلي وكنتُ أنتظرك وأتقلى بسعير الانتظار ؟؟

ـ اعتقدت أنه مجرد لقاء عابر، ولن يترك الأثرَ الذي يستحق أن أسعى إليه ..

ـ ألم تتوقعي انتظاري لكِ اليوم ؟؟

ـ وضعْته في الحسبان ، ولم أكن على يقين .. لكن ، لم تقل لي : كيف غامرتَ بانتظاري ، وأنت لا تعرف إن كنتُ سأخرج أم لا ..

ـ وهل حياتنا غير مغامرة ؟؟

نسعى إليها ، ثم نصنعها ، ثم نعيشها ، ثم تكون لنا أو علينا ؟؟

وثمة احتمالان للمسألة فقط : تخرجين ، أو لا تخرجين .. ولم تسأليني ماذا كنتُ سأفعل لو لم تخرجي ؟؟

ـ ماذا كنتَ ستفعل ؟؟

ـ المهم : أنكِ خرجت ِ ، والأهم : هذه كفكِ الرائعة بين يدي .. والحقيقة اليقينية في هذا العالم الآن ، أننا هنا معا .. ولا وقت لدي أهدره بالتفكير باحتمالٍ انتهى مفعوله نهائيا .. ثم .. وأنت معي ، لا أريد أن ينشغل عقلي وقلبي وكياني ، إلا بك ..

ـ وأما أنا ، فمجنونة حقا ..

كان انتظاركَ لي صباحا ، أمرًا غيّر المعادلات ، ولخبطها .. والنتيجة ، أني نسيتُ نفسي ودوامي وأهلي .. واستسلمت ..

مالت الشمس بعيدا عن النافذة ، وعمّ هدوءٌ وصمت ، قطعَه رنين الهاتف .. لم أرد على أي اتصال منذ الصباح .. توقف الرنين ، ثم عاد ، كأن المتصل يعرف بوجودي في المكتب .. توقف ثانية ، وعاد بإلحاح استفزازي ..

رفعت السماعة ، وصرخت : نعم ؟؟

قالت زينة : ما بك ؟؟ لمَ لا ترد .. اتصلتُ قبل قليل ، وقيل لي أنت في المكتب .. هيا تعال إلي في البيت ، وسأجد طريقة أهدئ فيها أعصابك ..

قلت لزينة متصنعا لهجة جادة : من عندنا ؟؟

قالت : لا أحد يعنيني سواك .. هيا ، إني في البيت ..

قلت : ورائي عمل كثير يجب أن أنجزه ..

أدركتْ أنني مُحرَج ، فقالت : عندما تنتهي ، اتصل بي ..

لاحظتْ سعاد أني أرفع صوتي ، لأغطيَ على صوت زينة المنساب عبر السماعة الفاضحة ، وكانت قريبة مني تقلب أوراق الرزنامة ، فكأنها سمعتْ شيئا جعل أصابعها تتعامل مع الأوراق بنزق لم يكن قبل قليل .. لكنها ضغطت على أعصابها ، وتصنعت اللامبالاة ، وابتعدت ..

وَجَمَتْ على كرسي أمام الطاولة .. وآثارُ النيران تلتهب في وجنتيها ..

قلت ببرود مفتعل : إنها أمي ، تستعجلني لوجود ضيوف عندنا ..

قالت سعاد وهي تضغط على الكلمات : لا تتأخر عليها كي لا تغضبَها ..

ـ ليس الأمر كذلك ، فضيوفنا ليسوا غرباء ، وقد قلت لها : إن ورائي أعمالا كثيرة ..

بشيء من التوتر ، أخذتْ سماعة الهاتف :

سأتصل بزميلتي قبل أن تسأل عني في البيت ..

 اتصلتْ ، بدا أن أخت سهير تتكلم .. وسهير لم تأتِ بعد ..

قالت سعاد : أنا لست في البيت ، أبلغيها ألا تتصل بي ، أنا سأتصل ثانية ..

بقيتُ هادئا إزاء توترها .. أعطيتها سيكارة .. اعتذرتْ ، ثم أخذتها ، أشعلتها لها .. دارت حول الكرسي ، ثم جلست ، وقالت وهي تزفر الدخان للأعلى :

أمها تعرفك .. هي تعمل في أحد فروع شركتكم ..

ـ من هي أمها ؟

ـ أم وسام ..

ـ زميلتكِ بنت أم وسام إذن !! ..

ـ هي صديقتي ، وقد حكيتُ لها عن لقائنا الأول ، ونصحتني ألا أتصل بك .. وحذرتني .. وأظنها أحسّتْ من غيابي ، أني معك اليوم ..

ـ ومن أين لها هذا الإحساس ؟؟!!

ـ هي أيضًا توقعتْ مجيئك .. وأنكَ لن تترك الأمر يمرّ هكذا .. ثم إن اسمك معروف عندنا .. فزوجة أخي كانت زميلتك في الجامعة .. إنها ابتهاج .. أتذكرها ؟؟

ـ كيف لا ؟؟ عال جدا .. الجميع يعرفونني ، وكنت أظن نفسي طارئا عليكم ..

ـ الدنيا صغيرة كما ترى ..

ـ ما علينا .. حدثيني عنك وعن أسرتك ..

ـ ماذا تريد أن تعرف ؟ حسنا .. أنا أصغر أفراد أسرتي .. أخي الأكبر ، وحيدنا ، متزوج ، وهو أب لولد واحد .. ثلاث من أخواتي متزوجات ، الكبرى تعيش خارج البلد ، والثانية هنا ، والثالثة كانت زميلتك في الجامعة ، في البيت أنا وأختي الرابعة ووالدانا ..

ـ وأنتِ ؟

قالت كأنها تتكلم عن أحدٍ سمعَتْ عنه :

أنا ولدتُ ودرستُ هنا ، ونلتُ الثانوية العام الماضي ، والآن أنا في السنة الأولى في المعهد ..

وأضافت ببرود مُغيظٍ :

وقريبا سنعلن خطوبتنا .. جاء هو وأهله ، طلبوني رسميا ، ولن تتأخر إجراءات الخطبة .. إنه مستعجل ..

ـ وأنا ؟

ـ تأخرتَ يا سيدي ..

ـ لكنكِ معي ..

انفجر الغيظ في رأسها ، لكنها خنقته ، وسألت :

ألا يكفيكَ ؟؟ قل لي : من التي كلمتكَ قبل قليل ؟؟

ـ قلت لك : أمي ..

ـ ليست أمك .. صوتها ليس صوت سيدة كبيرة .. سمعتها .. وقد ارتبكتَ وأنت تكلمها ..

ـ ومن قال لك إن أمي سيدة كبيرة ؟؟ أمي صبية في عز شبابها .. ألستُ ابنها البكر ؟؟

ـ إذن هي زوجتك ..

ـ ومن قال لك إني متزوج ؟؟!!

ـ زميلتاك .. أختي وزوجة أخي ..

ـ إذن صدّقتا الشائعة التي راجت عني أيام الجامعة ..

ـ شائعة ؟؟

ـ نعم شائعة ..

ـ ولماذا يشيعون عنك ذلك ؟؟

ـ تلك لها حكاية ..

ـ أسمعك ..

ـ هي شائعة أطلقتها طالبة تعني ظروفا نفسية صعبة ، لتنفير الطالبات ـ حسب رأيها ـ وبدأت تأتي مع غيرها إلى مكتبي ، وتبقى ولو غادروا ..

تحمَّلتها مرتين ، وفي الثالثة ، جاءت وحيدة ،وجلست تريد أن تشرب قهوة عندي ، لعل صداها يخِفُّ ، كما قالت ..

كانت الخطة مدبَّرة بالاتفاق مع إحدى الموظفات ، وعامل المقسم .. وكلمة السر بيننا : من فضلك ..

 قلت لعامل المقسم : من فضلك ، أريد البيت .. ثم نهضت خارجا ، وأنا أقول لها : لو رن الهاتف ، ردي عليه ، سأعود حالا ..

انتظرتُ في الغرفة المجاورة ، حتى رن الهاتف ، وردّتْ .. وصارت تدافع عن نفسها بأنها موجودة بالصدفة في مكتبي ، وأنني أنا طلبت منها الرد .. وسألتْ : من أنتِ ؟ وحين سمعت الجواب ، دخلتُ عليها ، إذا هي تضع السماعة جانبا ، وتتهيأ للخروج كالملدوغة .. ولاحقتها بكلماتي قائلا : اجلسي .. جاءت القهوة .. لكنها غابت سريعا .. وكانت تلك آخر مرة تدخل فيها مكتبي .. وصارت حين تتلاقى عيوننا في الممرات ترمقني بغضب ، وتنزوي هاربة ..

كانت سعاد منصتة ، تستمع بلهفة لنتيجة الحكاية  ، وهي ترمقني بفرح ، يشوبه التشفي من الشائعة وصاحبتها ..

لم تعلق على ما قلت ، لكنها سألت فورا : وغيرها ؟؟

قلت : مررتُ بتجربة عاطفية بعد تخرجي ، ووصلنا قريبا من الزواج ، ثم تراجعنا ..

قالت : وغيرها ؟؟

قلت : أنتِ ..

تنهّدتْ ، ونظرتْ في الساعة الجدارية ..

ـ أوووووووه  ، الثالثة ؟؟!! لقد تأخرتُ كثيرًا عن موعد عودتي إلى البيت ، يجب أن أتصل بسهير ..

اتصلتْ ، ردتْ على سؤالٍ لسهير : كما توقعنا .. كان ينتظرني ، أنا معه الآن .. هل سأل أحد عني في المعهد ؟؟ أنا ذاهبة الآن إلى البيت .. كنا معًا أليس كذلك ؟؟ مع السلامة ..

ـ قلت وأنا أتجهز للخروج : اكتبي على الرزنامة رقم هاتفكم ..

ذهبتْ إلى الطاولة .. كتبت شيئا على الرزنامة ، وارتدت معطفها ، وقالت : أنا جاهزة ..

نظرتُ لأرى الرقم ، قرأت : ما ...

قلت وأنا أضغط على الحروف وأكتب تحت كتابتها : قالت : مااااااااااا

قالت كاليائسة : ما الفائدة من الرقم إذا كانت خطبتي بين ليلة وضحاها ؟؟

خرجنا .. كان تأثير الشمس ضعيفا .. الشوارع مكتظة بالناس والضجيج .. ذكرت لها رقم هاتف البيت ، وقلت لها : احفظيه جيدا .. ستحتاجينه كثيرا ..

وقريبا من بيتها ، افترقنا بلا موعد جديد ..

لم أذهب إلى البيت .. سرتُ وحيدا كالهائم .. أدخن ، وأسترجع أحداث اليوم من أوله ..

" تتسارع الأمور أحيانا ، كفيلم قصير ..

" لقد اختصرنا ـ بهذا اللقاء ـ كثيرا من التعقيدات التي يمكن أن تنشأ عن عدم خروجها اليوم ..

" لم يحصل معي سابقا ، ما حصل اليوم .. هل حقا كنت أنا أبحث عنها ؟؟!! وهل حقا كانت تنتظرني ؟؟!!

" إلى أين سنسير ؟؟ ماذا أريد منها ؟؟

" وماذا تريد مني إذا كانت مجريات خطوبتها آخذة بالتنامي نحو الارتباط ؟؟!!

" وماذا تريد زينة ؟؟

حذرني الأستاذ مصطفى ، والحقُّ معه ..

" يحسن بالمرء أن يتعظ بنصائح مَنْ يثق بتعقلهم .. قال لي : ابتعد عن النار .. فعاكسْته .. ليته قال لي : اقتربْ ..

وصلتُ قرب المدينة الجامعية ، اشتريت دخانا ، ومددت يدي إلى الهاتف ، اتصلت بزينة ، قالت : لا تتأخر ..

فوجئت بوجود الشغالة تهتم بابن زينة الوحيد .. لكنها حملته فور دخولي واختفت في إحدى الغرف ، وأغلقت الباب .. همستْ لي زينة وهي تقفز حولي : لا تهتم .. ثم رفعت ذراعي ووضعته على كتفيها ، ونحن نسير إلى مقعدين هزازين متقابلين أمام الموقد الملتهب ..

كلما شاهدتها تبدو لي أجمل مما كانت عليه .. في المرة السابقة كانت أجمل من التي قبلها .. والآن هي أجمل وأجمل ..

عكسَ خدّاها لون النار ، وشعَّ من عينيها بريق ساحر ..

ضجَّ صوتٌ في رأسي : " أيتها اللبؤة " ..

سألتني : ماذا قلت ؟

ردَدْتُ مندهشا : لم أقل شيئا ..

قالت : كانت عيناك تتكلمان .. وكان لسانك يهذي .. أعرفك مقداما .. لا تختبئ وراءهما ..

قلت : كيف لا يهذي من تجود عليه دنياه المجدبة ، بلبؤة رائعة مثلك ؟؟!!

قالت وهي تميل بكرسيها تجاهي : آخر عهدي بك ، كنتَ في غاية الاستفزاز والعصبية .. ما الذي كان يجري عندك .. خبرني ..




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !