<p>ريـاح التيتانـيك<br /> محمد أنَـقَّار<br /> </p> <p>في الثامنة صباحاً، قبل أن يلتحق التلاميذ بمدارسهم، والموظفون بإداراتهم والعمال بمعاملهم أكون قد نصبت مائدتي الصغيرة جنب الحائط الأبيض وعرضتُ بضاعتي القليلة للبيع: سجائر بالتقسيط.<br /> حلويات بمختلف أنواعها. مصطكة. أكياس البلاستيك. ذرة محمصة. بسكويط. أوراق الكلينيكس. المائدة المستطيلة وضعت لها رفين، وغطيت أحد جانبيها بلوح طويل أغيّرُ وضعه حسب اتجاه الريح. فإذا كانت الرياح شرقية نصبتها جهة الشرق، وإذا كانت غربية وضعتها جهة الغرب، ثم أجلس جنبها منكمشاً. أما الشمس العمودية فأتقيها بقلاع سميك أربط أطرافه الأربعة فوق المائدة الطويلة.<br /> هكذا أقضي سحابة النهار؛ صيفاً وشتاءاً. أغير ملابسي حسب تقلبات الجو، وأقضي حاجتي في المقهى القريب. وفي منتصف النهار آكل ما تيسر تحت القلاع الأخضر. طعام أحضره معي من كوخي بـالطفّالين؛ قد يكون لوبياء، أو عدساً، أو بيضاً بالطماطم، أو سرديناً؛ إن كان رخيصاً. وفي جميع الحالات أحضر إبريق الشاي الذي يرافقني طوال اليوم.<br /> كانت المدينة قد شاهدت فيلم التيتانيك فسَرتْ بين الشبان والشابات موجة من الإعجاب وصلت إلى درجة التماهي مع بطله وبطلته. ثم لم تمض مدة طويلة حتى ظهرت في الأسواق دفاتر وقمصان وبورتريهات تحمل صوراً لليوناردو دي كابريو. ومن فرط ما استمعت إليه من إعجاب بالممثل خلال أحاديث التلاميذ اشتريت صورة كبيرة لكابريو وألقصتها في الواجهة الداخلية للوح الذي يقيني لفحات الريح. وأكثر من ذلك استطعت مشاهدة الشريط في جهاز الفيديو فتأثرت بدوري بمأساة بطلي باخرة التيتانيك إلى درجة البكاء.<br /> كانت صورة ليوناردو بالألوان. أديم النظر فيها وأنا منكمش فوق مقعدي الصغير منتظراً من يأتي لشراء سيجارة، أو قطعة حلوى. شعر أشقر مرجّل نحو الوراء، وخصلة رقيقة فوق الجبين جهة اليمين، وفم مزموم ينبئ عن صرامة، وعن تقمص دور الرجل قبل أن تكون هناك رجولة كاملة. أما نظرة العينين.. أما نظرة العينين فكانت تسبيني أكثر من باقي ملامح الوجه. فيها أرى طفولتي التعسة التي محقني بؤسها بينما صاحب النظرة الخضراء يحقق النجاح العالمي في حياته الفنية، ويخطو الخطوات الواسعة سريعاً. فيها أرى أيضاً البحر الأزرق، والعالم المنفتح، وإمكانات الفوز، والشباب المنطلق بينما أنا ساكن فوق مقعدي البلاستيكي الصغير أتساءل من أين ستهب الرياح اليوم. والحقيقة أني كلما انصرفت عن الصورة ثم عاودت النظر فيها إلا اكتشفت معاني وعوالم جديدة. لكني لم أقف من فرط الإعجاب، عند مجرد النظر، بل تجاوزته إلى حد التقليد. فقد أخذت أقلد الممثل الأشقر في العناية بالشعر؛ فداومت مشطه وتضميخه بالدهون اللامعة؛ ثم إني أمعنت في حلق ذقني حلقاً لا يبقى بعده أثر لأية زغبة في الوجه. كما توخيت لبس القمصان الفاتحة الألوان؛ أشتريها بثمن رخيص من سوق الغرسة الكبيرة، وأتعمد ترك صدرها مفتوحاً مثلما كان حال بطل التيتانيك. وعلى الرغم من أن سني لم يكن يتجاوز كثيراً سن ليوناردو، إلا أنني كنت أشعر مع نفسي بأني أتصابى، وأني أصطنع طريقة في اللباس لا تناسب الحرفة المتواضعة التي أتعاطاها.<br /> ثم إن هوس التقليد مضى بي بعيداً إلى درجةِ ما يشبه الجنون. ففي اللحظات التي يقل فيها الغدو والرواح، كنت أنتصب فجأة وأقف على طرف الرصيف الدائري مواجهاً منحدر سانية الرمل الذي ينتهي بزرقة بحر مَرْتِـينْ. كان موقعي المرتفع يجعلني أتخيل أني واقف عالياً عند رأس باخرة التيتانيك، مثلما وقف ليوناردو وعشيقته في الشريط، متلاصقين وقد فتحا ذراعيهما وأرجلهما بينما رياح المحيط القوية تهب عليهما؛ تنعشهما، وتجعلهما يحلمان أحلاماً وردية سعيدة.<br /> على حافة الرصيف الدائري أنتصب واقفاً وأغمض عيني، وأفتح ذراعي ورجلي، وأعرض جسدي على رياح الشرقي القوية الصاعدة من مَـرْتِينْ. أحلم. أو على الأصح أحاول أن أحلم، من دون أن أحصل على الصفاء الكامل. بل إن الصراع يحتدم في أعماقي بين صور طفولتي وأنا غارق في مستنقع الطين المسنون أساعد أبي في حي الطفّّالين على معالجة أواني الفخار، وبين رياح المحيط المنعشة الآتية من المجهول الغامض. وعندما أفتح عيني وأنا في وضعي ذاك فاتحاً ذراعي كفزاعة الطيور أكتشف أن شرطي المرور ينظر إليّ متعجباً، ظاناً أني مجنون، متردداً بين أن يتدخل أو ينصرف إلى تنظيم السير. ثم أعود إلى صوابي فأرتخي من جديد على المقعد الصغير.<br /> ذات مساء وأنا جالس فيما يشبه الغفوة تحت صورة دي كابريو إذا بعربيد يأتي نحوي وهو يتمايل. لعله كان سكران أو تحت تأثير المخدر. لكن المهم أن منظره يثير الإشمئزاز: قذارة كاملة، وشعر أشعت اختلط فيه الرأس واللحية، وملابس قاتمة من فرط الوسخ. تقدم نحوي وغمغم بكلام لم أفهمه وإن أدركت أن القصد منه الإذاية المجانية. في البداية التزمت الصمت. ثم نهرته طالباً إليه أن ينصرف. لكنه عاند وعمد إلى إرباك جلستي ومشروعي الصغير. ثم نهرته ثانياً فلم يرعو. حتى إذا ما استعاد توازنه هجم عليّ باندفاع أكبر فتحاشيته، فإذا به يقع على صورة دي كابريو ويمزقها وهو يهوي على الأرض. وسد الإحباط عيني، وتشوه المثال والنموذج. ولم أتمالك إلا وأنا أركله وأضرب وجهه ضرباً متتالياً حتى أخذ دمه يسيل. وتجمع حشد، وأوقفني أحدهم عند حدي. هناك كان لا بد للشرطي أن يتدخل.. </p>
التعليقات (0)