روز اليوسف تكشف خبايا العلاقات التركية الاسرائيلية وكذب اردوغان فى خطابه
عبدالله كمال يحلل ما بعد مذبحة البحر: دفاعاً عن الشرف التركي المستباح
روز اليوسف – القاهرة – قابل صحفي ذات مرة (رجب طيب أردوغان) رئيس وزراء تركيا فكتب بعد ذلك في مقدمة حواره يقول: «صافحني عند الباب وقال مرحباً.. اسمي طيب.. وأنا طيب».. ولا أعتقد أن (طيب) هو الآن طيب.. بينما يتصاعد الغضب الشعبي في بلده.. حين يقارن الرأي العام بين ردود الأفعال التركية وما تعرضت له الكرامة التركية من إهانة مدوية في (مذبحة البحر) التي جرت إسرائيلياً لقافلة الإغاثة البحرية التي كانت تحمل اسم (الحرية).. بينما كانت تلفها الأعلام التركية.. ثم عادت محملة بالجثث.. والدماء.. وآثار التعدي علي الشرف التركي.. ذلك الشرف الذي يطرح نفسه الآن كما لو أنه قادر علي أن يستعيد مجداً غابراً للخلافة العثمانية.
لقد طالعت تصريحات (رجب ـ طيب ـ أردوغان) يوم الجمعة وهو يخاطب إسرائيل بكلمات صاخبة.. ويقول لإسرائيل إنها خالفت وصايا (العهد القديم).. وأنه يخاطبهم بما يفهمون.. وأن الوصية السادسة هي (لا تقتل).. وقد ترجمها (أردوغان) بالعبرية.. وبالإنجليزية.. مردفاً: «لعلكم تفهمون» لكن واقعياً هذه العودة إلي وصايا العهد القديم قد لاتعدو كونها مجرد كلمات.. حتي لو وصفت في تقارير وكالات الأنباء بأنها (حادة).. ففي النهاية ارتكب الإسرائيلي فعل القتل.. بينما يقول له (أردوغان) الآن وقد دفنت الجثث: «لا تقتل».
بدأ (رجب ـ طيب ـ أردوغان) مقيداً.. حتي وأنقرة تهدد بتخفيض العلاقات بين أنقرة وتل أبيب إلي أدني مستوي ـ إذ قال نائب رئيس الوزراء التركي إن: «أنقرة لن تقطع علاقتها مع إسرائيل علي الفور.. هذا ليس من عادة بلدنا.. ولن نحذف اسمكم تماماً» ـ ما يعني أن الباب مفتوح.. ولعل كلامه هذا يكون له مغزي لمظاهرات انطلقت في القاهرة يوم الجمعة وطالبت مصر بقطع العلاقات مع إسرائيل.
إن تركيا رغم دماء شهدائها التي لم تجف بعد لن تذهب إلي آخر مدي في حملتها ضد إسرائيل.. والواقع أن علينا أن نتساءل: إذا كانت القرارات الدولية لم تسعف تركيا.. وإذا كانت مواقف حلفاء تركيا لم تلاحق غضبها ولم تكن علي قدره.. كيف بتركيا لا تكون هي نفسها علي قدر غضبها وما يفور بين شعبها.. وما الذي يمنعها من أن تتخذ الآن وفوراً قراراً من هذا الذي يطالب به الرأي العام التركي ضد إسرائيل.
إن المعضلة ليست في إغلاق السفارة التركية في تل أبيب، ولا حتي في أنه من المفترض أنه كان علي تركيا أن تذهب إلي حد الانتقام العسكري لقتلاها.. ولكن في أن بين أنقرة وتل أبيب علاقات استراتيجية موثقة وفقاً للاتفاق الموقع إبان عهد (تانسو شيلر) رئيسة الوزراء التركية السابقة في 1997.. والذي كان موجهاً بالأساس إلي (الأخطار الأمنية التي تواجهها كل من تركيا وإسرائيل من العراق وإيران وسوريا).. ذلك الاتفاق الذي تفرعت عنه 60 اتفاقية أخري تفصيلية.. وأسس لعلاقات تحالف بين الدولتين شهدت المنطقة ثمارها خلال السنوات الماضية.. ثمار لا توجد ضرورة لوصفها الآن.
إن من بين الخطوات التي اتخذتها تركيا بعد مذبحة البحر الإعلان عن (تأجيل) وليس (إلغاء) ثلاث مناورات مشتركة مع إسرائيل.. وهذا الإعلان عن (التأجيل) وليس (الإلغاء) لم يدهشني بقدر ما أفزعني الإعلان عن وجود هذه المناورات من الأصل.. كيف يستقيم منطق تقديم الإغاثات إلي ضحايا غزة مع وجود هذا التعاون الوثيق بين الدولة العثمانية والدولة العبرية.. ولابد أن الأصدقاء والأشقاء في تركيا عليهم أن يراجعوا هذه الأمور الآن.. وأن يثبتوا أنهم قادرون علي التضحية بهذا التعاون الاستراتيجي لقاء ما تعرض له الشرف التركي.. وليس فقط من أجل قضية فلسطين.. إن شرفهم مضرج بدماء الإهانة.
إن الدبابات التركية ترسل وفق الاتفاقيات الموقعة حتي الآن إلي إسرائيل لكي يعاد تجديدها وصيانتها.. كما أن هناك اتفاقات بشأن توريد عشر طائرات إسرائيلية بدون طيار.. وتجري عمليات التحديث لطائرات الفانتوم التركية في المصانع الإسرائيلية.. وهناك تعاون أمني واسع النطاق تحت عنوان (محاربة الإرهاب).. وأجندة منتظمة للتدريبات البحرية والجوية والبرية المشتركة.. وتدريبات مشتركة علي الإنقاذ.. واتفاق علي تزويد الجيش التركي إسرائيلياً بأجهزة اتصال عالية التكنولوجيا.. وتبادل مستمر للمعلومات.. وكل هذا لايمكن أن يثير أي دهشة حين نتابع الزيارات المتبادلة بين وزير الدفاع الإسرائيلي إلي أنقرة ورئيس الأركان التركي إلي تل أبيب.
وليس خافياً أبداً، أن الطائرات الإسرائيلية التي قصفت ما قيل إنه يشتبه في كونه منشأة نووية في سوريا.. هي لم تكن موجودة أصلاً.. قد عبرت المجال الجوي التركي بالتنسيق والتعاون والاتفاق بين أنقرة وتل أبيب.. في ذات الوقت الذي كانت تقدم فيه تركيا نفسها علي أنها وسيط يمكن أن يحقق فائدة في الوصول إلي تسوية بين كل من سوريا وإسرائيل. إن (أحمد داود أوغلو)، وزير الخارجية التركي، نفسه هو الذي ذهب إلي واشنطن قبل فترة وقال إن تركيا مستعدة لتجديد وساطتها بين سوريا وإسرائيل.. نحن بالتأكيد مع وصول سوريا إلي هذه التسوية.. لكن لغرابة الأمر.. فإن المواقف التركية تجسد تناقضات مهولة.. إذ كيف يعرض الوساطة.. وفي ذات الوقت تقوم بتنظيم وترتيب هذه القافلة البحرية التي كان من المؤكد أن تركيا تعرف رد الفعل الإسرائيلي عليها.. فهل هي تريد وساطة حقاً.. أم أنها تقوم بدور آخر؟
وبمناسبة (أوغلو) يستوقفني أمر غريب في السياسة التركية قد يفسر هذه التناقضات المتوالية في المقاربات التي تجريها أنقرة مع الملفات العربية.. فهو لم يكن وزيراً للخارجية بل كان مستشاراً لرئيس الوزراء الحالي.. و(أردوغان) نفسه حين تولي حزب (العدالة والتنمية) الحكم كان محظورا عليه العمل السياسي.. وقتها كان الرئيس الحالي (عبدالله جل) رئيساً للوزراء.. ثم حين سمحت المحكمة الدستورية التركية لـ(أردوغان) بالعمل السياسي.. كان أن أصبح رئيساً للوزراء.. وتحول (جل) إلي وزير للخارجية.. وقتها لم تكن توجهات تركيا كما هي الحال الآن تجاه الشرق الأوسط.
ثم أصبح (جل) رئيساً للجمهورية، وفيما بعد عين (أوغلو) وزيراً للخارجية.. حيث برزت تناقضات مختلفة.. لم يكن منصوصاً عليها في برنامج حزب (العدالة والتنمية).. وربما بسبب الفشل في الانضمام إلي الاتحاد الأوروبي.. وربما رغبة في ممارسة الضغوط من أجل الانضمام للاتحاد الأوروبي.. ومع قفل الأبواب أمام تركيا في آسيا الوسطي بسبب الرفض الروسي للنفوذ التركي.. كان أن اندفعت تركيا إلي الشرق الأوسط.. وبالتحديد في اتجاه قضية فلسطين.. حيث من اللافت جداً أن أنقرة تحرص علي الاقتراب من السلطة الفلسطينية الرسمية.. وتمد الجسور مع جماعات إسلامية متطرفة.. أو تنظيمات انقلابية.. فهل هذا كله يعود إلي (أوغلو) المرشح لأن يصبح رئيسا للوزراء.. ويكون (أردوغان) رئيسا للجمهورية.. ويتنحي (جل) جانباً؟؟ عموماً، سيل التناقضات لم ينته.. وبالعودة إلي (مذبحة البحر).. لابد أن أتساءل حول الطريقة التي أعدت بها تلك القافلة البحرية.. من خلال منظمة توصف بأنها غير حكومية.. اسمها (آي إتش إتش).. تحيطها تساؤلات كثيرة.. وكانت تجمع التبرعات وتجري الترتيبات أمام أعين الإدارة التركية.. وهي إدارة تدرك لا شك أنه كان يمكن أن يقع الضحايا.. ولكنها لم تحذر المنظمة من مغبة عمليات التحدي.. وما سوف تسفر عنه.. وما قد يؤثر سلباً علي الشرف التركي.. وهو ما كان.
لقد سهلت حكومة تركيا طريق هذه القافلة إلي التهلكة للأسف.. وقد كان معروضاً علي أنقرة.. من القاهرة.. أنه يمكن لسفن القافلة أن تحظي بتسهيل دخول حمولتها إلي غزة عبر ميناء العريش.. ومن ثم من منفذ رفح.. علي أن تفرغ حمولتها سفينة تلو أخري.. ويتم اتخاذ الإجراءات المفترضة في هذه العملية.. ولكن تركيا تجاهلت هذا العرض المصري.. وقبلت أن تمارس سفن تحمل العلم التركي والمواطنين الأتراك هذا الذهاب إلي التهلكة.. حيث تعرض الشرف التركي للإهانة المروعة والمزعجة إسلامياً وعالمياً.
هذا تناقض آخر في السياسة التركية.. ولا يقل عنه الموقف التركي الخانع أمام الخذلان الذي تعرضت له أنقرة من حلفائها في (حلف الأطلسي).. هذا الذي انضمت له وخدمت فيه منذ ما يزيد علي نصف قرن.. وارتضت عضويته في إطار محاربتها مع الغرب للنفوذ السوفيتي ومواجهتها للأفكار الشيوعية.. لقد طرحت تركيا ما تعرضت له من إسرائيل علي الحلف.. لكن الجميع تبرأ منها.. ولم يبل ريقها بكلام له معني.. ولم تصدر أي دولة موقفا مسانداً صريحاً، اللهم إلا كلمات فضفاضة لا قيمة لها.
إن تركيا التي خاضت معركة، سرعان ما تراجعت عنها، ضد ترشيح (راسموسين) رئيس وزراء الدنمارك المعتدي علنا علي الإسلام، لكي يكون سكرتيراً عاماً لحلف الأطلسي، وقبلت به في إطار صفقة مسموعة الأصداء.. كان أن لقيت من هذا الشخص تصريحاً لا يمكن أن يرضي طفلا بخصوص ما جري للرعايا الأتراك في عرض البحر.. في قافلة الإغاثة التي كانت تتجه إلي غزة.
ولست أدري، كيف بتركيا لا تفجر أزمة مدوية داخل حلف الأطلنطي اعتراضاً علي هذا الموقف المتخاذل من حلفائها.. كيف تقبل هذا التهاون في حقها وهي الحليف العتيد العريق.. الذي خدم الحلف حتي ضد بعض الدول العربية.. وبما في ذلك ضد مصر إبان العدوان الثلاثي في عام 1956 علماً بأن تركيا كانت من أوائل الدول التي اعترفت بإسرائيل في عام 1949 وقد تأخرت بعض الشيء لأنها كانت تعتقد أن سرعة الاعتراف السوفيتي بإسرائيل يعني أن تلك الدولة المنزرعة في المنطقة العربية هي حليف للسوفيت الذين تعاديهم تركيا.. فلما أيقنت أن انطباعاتها خاطئة سرعان ما اعترفت بالدولة العبرية.. وتطورت العلاقات الاستراتيجية بين البلدين إلي اليوم وحتي ما بعد مذبحة البحر.
إننا أمام تناقضات مروعة لا تليق أبداً بحالة دولة تدافع عن شرفها.. هذه التصريحات التي تقول للإسرائيليين بالعبرية (لا تقتل).. لن تعيد الكرامة.. ولن تحيي الشهداء.. وإذا كان لي أن أثق في حالة الإخلاص التي تعلنها تركيا لصالح القضية العربية.. ومن أجل غزة.. وأن تركيا يمكن أن تقدم الشهداء من أجل قضية فلسطين.. وأنها أيضا يمكن أن تضحي بعلاقاتها الاستراتيجية مع إسرائيل.. فليس أقل من أن ينشأ تحالف عربي تركي إيراني لتحرير الأراضي العربية.
واقتراحي هو الاستفادة من القوة العسكرية التركية الضخمة، ومن العلاقة الوطيدة بين سوريا وتركيا.. وطيدة إلي درجة دعت تركيا للتوسط من أجل تحرير الجولان.. ومن العلاقة المتنامية بين تركيا وإيران إلي درجة أن تركيا وفق الاتفاق الثلاثي مع البرازيل وإيران هي الدولة التي ستكون أمينة علي اليورانيوم الإيراني لتخصيبه علي أراضيها.. وبالتالي.. يكون علي تركيا أن تفتح الطريق من أراضيها للقوات الإيرانية.. ومن ثم تعبر بمشاركة قوات تركيا إلي سوريا حيث تلتحم بها القوات السورية.. وانطلاقاً من جبهة الجولان تبدأ عملية التحرير.
في هذا الوقت، وحين ينجح التحالف، سوف يكون علينا أن نثق في النوايا التركية من أجل القضايا العربية، وأن الأمر أبعد من أن يكون مجرد صخب للحصول علي استثمارات عربية أو صفقات تجارية، وسوف يكون علينا أن نرتضي الشعور بأنه قد رد الشرف التركي باعتباره من مقومات شرف الأمة الإسلامية.. وسوف يكون علينا أن ننسي أن المجال الجوي التركي قد استخدم للهجوم علي منشآت في سوريا.. وقتها سوف يكون التوازن العسكري قد عاد إلي المنطقة.. استناداً إلي الإضافة التركية العظيمة.. وبالاستفادة من الزخم العاطفي الشجي الذي يدوي في أرجاء المنطقة.. خصوصاً بين الرأي العام التركي الملتهب.
إن الكثير من الأتراك يجترون الآن من التاريخ خطابات تنسب إلي السلطان عبدالحميد قبل أن يسقط عن عرشه.. ويقولون فيها إنه قد رفض الرضوخ للضغوط بشأن قضية فلسطين.. وأن هذا هو أهم أسباب إسقاطه.. وقد حان الوقت.. في ظل التوجهات العثمانية الجديدة في أنقرة.. بديلاً للكمالية التي كانت.. لكي يؤكد العثمانيون المحدثون أنهم قادرون علي فعل حقيقي من أجل قضية فلسطين.
التعليقات (0)