رواية لسجون عربية ... نادرة!!!
أ.عبد الغني سلامة
في هذه المطالعة سأركز على رواية واحدة هي "القوقعة"، قد يكون السبب في ذلك أنها آخر ما قرأت، أو أنها أفظع ما قرأت، أو لأنها لم توزع على نطاق واسع في البلدان العربية، فأحببت أن أنقل هذه الشهادة الحية، مع تذكر واحترام كل آلام ومعاناة الأسرى والمعتقلين في السجون الإسرائيلية والعربية على حد سواء.
لم يكن "خليفة" المخرج السينمائي الواعد إلا حالة واحدة للكثير من الشبان العرب الذين حلموا بالتغيير وانكسروا عند حدود الوطن، فكل أحلامه ومشاريعه التي فضلها على محبوبته الباريسية تحطمت في لحظة واحدة عند تخوم الفاجعة والصحوة المؤلمة، التي جسدتها أجهزة النظام الأمنية، فبدلا من أن يرسم تصوراته عند بوابة الوطن، فاجأه الجلاد "أبو رمزت" بفلقة مهينة، كانت مدخله البائس إلى عالمه الجديد الذي سيعيشه بكل قسوته وفظاعته.
ولكن الفاجعة الكبرى التي كسرت زمن "خليفة" وأطاحت بأحلامه ودفنت أجزاء عزيزة من إنسانيته، لا تكمن فقط في السجن والخوف والعذاب والسياط والبرد والجوع والجرب وكل أشكال الامتهان، بل في سنوات طويلة عاشها منبوذا محتقرا ممن هم معه في نفس السجن ويقاسون نفس المعاناة، والسبب في ذلك أن حظه العاثر قاده لأن يُسجن مع مجموعة من المتشددين الإسلاميين الذين حاربوه وعزلوه وهددوه بالقتل مرات عديدة، لأنه "مسيحي وملحد"، ولكن "خليفة" المخرج والفنان والمرهف أدرك أن السجن قد ينتصر عليه ويهشم كل ما هو جميل في داخله، فجاهد بكل قوته ليحول دون ذلك، فعزل عقله عن واقعه وعاش عالمه الخاص، ولأنه لم يحمل قلما طوال سنين سجنه فقد ظل يخـزّن في ذاكرته يومياته أولاً بأول، ويدوّن عليها آلامه وأحلامه في محاولة منه للتغلب على جبروت السجان والحيلولة دون الانهيار النفسي، أو احتراق صفحات حياته بلا مقابل، وقد ظل مؤمنا بأن الكتابة هي فعل حضاري وشاهد تاريخي على المرحلة، ولأنها تبقى الذاكرة التي لا تقهر، لهذا كتب روايته كمخطوطة بعد تحرره، وأراد لها أن تمزق جدار الصمت، وتعلن الفضيحة على الملأ.
بعد قراءة الرواية لا بد أن تثور الأسئلة: كيف سنعيش حياتنا اليومية بجانب هذا الرعب الذي يبعد عنا أمتار قليلة ؟ وأي جدار سميك سيحجب عن آذاننا صرخات المقهورين وأنينهم ؟ وأي مجد زائف وأي انتصار وهمي وأي ديمقراطية كاذبة تتيح لنا أن نتناسى آلاف الأسرى والمعتقلين، ممن تسفك أيامهم على عتبات السجون، وتذوي أجسامهم دون أن تتاح لهم فرصة تقبيل أطفالهم، أو توديع أمهاتهم اللواتي متن شوقا وانتظارا، هذا عار يصل حد التواطؤ. عار علينا لأن سلبيتنا هي التي غزلت للجلاد سياطه، وصمتنا هو الذي بنا سور السجن.
لقد كان "خليفة" واحدا من ضمن عشرات الآلاف ممن أمضوا شطرا من حياتهم أو جلها في غياهب السجون، ولأِن تحدثت تجربته الشخصية عن جوانب معينة من مرحلة فظيعة عاشتها سورية، فقد شاركه نفس الآلام وربما أكثر منها معتقلون إسلاميون وشيوعيون وعرفاتيون، صبية وشيوخ، عمال وفلاحين وأطباء ومهندسين ومفكرين وأميين، كان أكثرهم من جماعة الإخوان المسلمين، الذين خاضوا معركة كسر عظم مع النظام السوري، ومهما كانت أسباب الخلاف فإن لا شيء يبرر تلك القسوة والسادية التي تعامل بها السجانون مع المعتقلين. فقد كان ممنوعا على المعتقلين الصلاة أو قراءة القرآن الكريم، حمل أي ورقة أو قلم، أو قراءة كتاب، حتى الجريدة كانت ممنوعة، وكذلك التلفاز والراديو، العلاج، الرياضة، غسل الأسنان، إخراج النفايات خارج المهجع، الطعام كان رغيف واحد في اليوم وأحيانا أقل من ذلك، لا زيارة للصليب الأحمر أو حتى الأهل، المرة الوحيدة التي سمح فيها الزيارات كانت نوعا من الفساد، إذْ كانت تتطلب زيارة الأهل تقديم كيلوغرام كامل من الذهب الخالص لزوجة مدير السجن، ويؤكد المساجين أن مجموع ما تلقاه مدير السجن من رشاوى بلغ 665 كيلو غرام من الذهب !!
يصف الكاتب السجن الذي استقبله أول مرة فيقول: "ضم هذا السجن بين جدرانه في لحظة من اللحظات أكثر من عشرة آلاف سجين، وكان يحتوي على أعلى نسبة لحملة الشهادات الجامعية في هذا البلد، ولم ير السجناء - وبعضهم قضى أكثر من عشرين عاماً - أية ورقة أو قلم". ويضيف في موقع آخر: " كان عدد أفراد دفعتنا 91 شخصاً، قُتل منهم ثلاثة في الساعة الأولى أثناء الاستقبال، وهؤلاء لم يدخلوهم إلى المهاجع، وخلال فترة غيابي عن الوعي والتي دامت بضعة أيام مات عشرة آخرون متأثرين بجروحهم وإصاباتهم البليغة من جراء التعذيب، واثنان من نفس الدفعة أصيبا بشلل دائم نتيجة أذى كبير بالعمود الفقري، واحد فقط أصبح أعمى بعد أن تلقى ضربة كرباج فقأت عينيه".
ولكن الرواية لا تتحدث عن أساليب التعذيب فقط، بل تصف كيف يعمل النظام على قتل الإنسان في نفس السجان وكيف يتحول خلال مدة قصيرة إلى جلاد عديم الشفقة، ويذكر حالتين في هذا السياق، الأولى عن فئة من المسجونين يطلق عليهم تسمية "البلديات" كانت إدارة السجن تستخدمهم في تعذيب المعتقلين السياسيين، وهم حسب وصف الكاتب: "سجناء، مقهورون مثلنا، صحيح إنهم مجرمون، قتلة ولصوص، ولكنهم يعانون من قهر السجن مثلما نعاني، والسياسة لا تعني لهم شيئا ... ولكن من أين تنبع هذه القسوة اللئيمة والضرب المبرح اللذان يكيلهما البلديات للسجناء أثناء الحلاقة ؟!، كنت دائما أتساءل بذهول: هل من المعقول أن يكون الإنسان لئيماً إلى هذه الدرجة ؟!! كان بعضهم يتلذذ بافتعال السعال قبل البصق على وجه السجين كي يكون البصاق مصحوبا بالمخاط !!! وتلتصق بصقة البلديات بالوجه ! ويمنع السجين من مسحها !! الكثير من السجناء عرف الكثير من البلديات، هم من نفس قراهم وبلداتهم، وتبقى نفس الأسئلة مطروحة: ولكن لماذا ؟ لماذا هو لئيم بهذا القدر؟ ما هي دوافعه النفسية ؟ هل القسوة والسادية المتأصلة أو العارضة يمكن أن تنتقل بالعدوى ؟ أم هي روح القطيع ؟!".
الحالة الثانية يجسدها أحد المجندين وكان يشبه شقيق الكاتب واسمه سامر، ما يعني أنه من المفترض أن يكون إنسانا طبيعيا، وهو بالفعل كان في البداية كذلك، إذ يصف الكاتب التحول في شخصيته قائلا: "فعندما شاهد أول عملية إعدام لم يتمالك نفسه وراح يتقيأ بشدة، حتى كاد أن يخرج أمعاءه، وقد غطى عينيه بيديه حتى لا يرى الإعدامات، ولكن في آخر حفلة إعدام حضرها كان نشيطاً جداَ، بيده عصا طويلة، يمازح زملائه وعلى وجهه ابتسامة دائمة، عند الانتهاء من آخر وجبة إعدام وقف أمام أحد المشنوقين وأخذ يؤرجحه، وضع العصا على الأرض آخذاً وضعية الملاكم جاعلاً من الجثة المعلقة كيس رمل، أخذ يوجه لها اللكمات، صاح شوف هـَ الكلب ... صار له ربع ساعة معلق من رقبته ولسه ما مات !!".
أما عن غياب القانون والاستهتار بحقوق الإنسان وانعدام المحاكمات العادلة فيصف حالة تدل على نوعية العقلية التي كانت تتحكم بمقاليد الأمور وعلى حجم الفساد المستشري في المؤسسة الأمنية، يقول الكاتب: " دخل مدير السجن، أخد يتمشى من أول المهجع إلى آخره بين صفين من عناصر الشرطة الواقفين وقفة استعداد عسكرية. ركبني الفضول ونظرت بزاوية عيني خلسة إلى المقدم. رأيته، شاب ثلاثيني، مشيته فيها الكثير من التوتر، وكذلك كلامه، يتكلم وكأنه يحادث نفسه بعبارات لم أستطع فهمها أو الربط بينها:
أنا.. أنا أتهدد !! .. سأحولها إلى جهنم ... شعرة واحدة يروح ألف مجرم مقابلها .. ثم صاح بصوت شديد الاحتقان: ولا كلاب .. مجرمين.. انتو لسه ما بتعرفوني منيح .. والله لادبحكن دبح الغنم. بعدها صاح بمجموعة من السجناء، وانطلق صوت طلقات مسدس متتابعة، انكمشتُ على نفسي لدى سماعها وخبأت رأسي أمام صدري، وبسرعة فائقة خرج المقدم يسحب وراءه رتلاً من عناصر الشرطة وأغلق الباب. كان هناك أربعة عشر قتيلاً بأربع عشرة طلقة هي كل ما يحويها مخزن مسدس المقدم على ما يبدو. ومكان دخول الرصاصة واحد لدى الجميع في الرأس من الخلف، وقف واحد من فرقة الفدائيين، وقرأ ورقة كتب عليها: مقابل ورقة مكتوبة قتلت أربعة عشر واحداً ! إذا مست شعرة من رأسي أو رأس شخص يخصني سيكون المقابل مائة، إذا حصل أذى أو مات أحد من أقربائي فإنني لن أبقي على أحد حياً !!. ولم يرد بعدها أي تهديد".
أما عن المحاكمات - إذا صحت تسميتها بهذا الاسم – فيصف الكاتب المشهد: "تبدأ حفلة التعذيب أمام غرفة المحكمة، يبدأ الضرب والصراخ الأمر الذي يشوش على هيئة المحكمة، يتوقف العمل، تشرب هيئة المحكمة القهوة العربية، بعد قليل يهدأ كل شيء ويدخل الشرطة والسجين معهم يترنح:
- شو .. لساتوا ميبس راسه ؟!
- لا سيدي .. اعترف بكل شي.
- إعدام .. طالعوه لبرّه.
أغلب السجناء لا تستغرق محاكمة أي منهم لدى المحكمة الميدانية أكثر من دقيقة واحدة، أغلب السجناء لا يرون القاضي "الضابط"، أغلب السجناء لا يعرفون الأحكام التي صدرت بحقهم وقررت مصيرهم.كانت الإعدامات تتم كل اثنين وخميس .. ثمان مشانق منصوبة وجاهزة، بعد أن يخرج المحكومون بالإعدام من المهجع يغلق الشرطة الباب ويقومون بلصق أفواه المحكومين بلاصق عريض حتى لا يهتفون قبيل موتهم (ألله أكبر) " !!!"
أما عن مجزرة سجن تدمر وهي معروفة، فيروي الكاتب على لسان أحد الناجين: "كان في هذا السجن قرابة الألف سجين إسلامي، وفي يوم حزيراني قائظ، حطت طائرات الهليوكوبتر محملة بالجنود الذين يقودهم شقيق الرئيس، مدججين بالأسلحة، نزلوا من الطائرات في ساحات السجن، دخلوا على السجناء في مهاجعهم وبالرشاشات حصدوهم حصداً، جمعوا قسماً منهم في الساحات وقضوا عليهم جميعاً. كانت الدماء والشعر الآدمي ونتف من اللحم والأدمغة لا زالت لاصقة على جدران وأرضية المهجع ".
ومن بين القصص التي تدل على مدى سادية وهمجية السجان، كتب "خليفة": "منذ أكثر من سنة وخلال فترة تنفس أحد المهاجع، كان أحد الرقباء واقفا في ظل الحائط، مرت فأرة من أمامه فهرسها ببوطه العسكري، معست الفأرة وماتت، أخرج الرقيب من جيبه منديلا ورقيا وأمسكها بواسطة المنديل من ذيلها، اقترب من صفوف المساجين التي تدور حول الساحة، أمسك بأحد السجناء لا على التعيين وأجبره على ابتلاع الفأرة، ابتلع السجين الفأرة !! منذ ذلك اليوم صرف الرقباء وعناصر الشرطة جزءا مهما من وقتهم لاصطياد الفئران والصراصير والسحالي وإجبار السجناء على ابتلاعها، كلهم قاموا بهذا العمل ولكن ابتكاره "إبداعه" عائد لأول رقيب قام بهذا العمل".
وعن إحدى حفلات التعذيب يروي الكاتب ما حدث ليلة رأس السنة وهي بالطبع تأتي في أشد أيام السنة برودة: "بلّلونا بالمياه من الرأس وحتى أخمص القدمين، أمرونا ألا نتحرك، عناصر الشرطة يمشون حولنا وبأيدهم الكرابيج والعصي، بدأ المساعد خطبة طويلة، ثلاثة أرباعها شتائم، صوت اصطكاك الأسنان مسموع بشكل واضح الجميع يرتجف برداً، أنا بالكاد أتماسك لأبقى واقفاً، ثم صمت مطبق لا يخدشه إلا صوت خطوات الشرطة، الخدر يزداد وينتشر، الألم يتعمم ويتعمق، تتساقط الدموع برداً وبكاءً فتتجمد على الخدين وزوايا الفم المرتجف، يسقط أحدهم قبلي، وينطلق بضعة عناصر ويجرون السجين الذي سقط إلى أمام الصف حيث يتجمع الرقباء، تنهال الكرابيج على جميع أنحاء جسده المتخشب، يحاول الوقوف ولكن وقع الكرابيج يمنعه، يسقط آخر ... يجر إلى حيث التدفئة والضرب، وآخر ... وآخر .. لقد جربت وعاينت الكثير من صنوف الألم الجسدي ... لكن أن تُجلد بالسياط في البرد وأنت مبلل ... أمر لا يمكن وصفه، وقبل الصباح كان ثلاثة منا قد ماتوا في هذه الحفلة" .
لن أصف المزيد من حفلات التعذيب، وأعتذر للقراء عن ساديتي في الكتابة، ولكن ما حـدث مع "خـليفة" ورفـاقه – الذين قاطعوه ونبذوه – حدث ويحدث في معظم سجون الأنظمة الشمولية في العالم العربي وخارجه، ومن حق هؤلاء المعذبين أن نعرف حجم آلامهم، وعدد السياط التي كوت ظهورهم، ونوعية الإهانات التي هشمت دواخلهم، وأسماء من قضوا منهم، وأن نمسح دمعة أطفالهم، من حقهم علينا أن نصرخ عاليا بدلا عنهم، لأن أفواههم مكممة .. ونحن من المفترض أننا أحرار .. ونعيش في القرن الحادي والعشرين !!!!!!!
من حقهم علينا أن نجعل على رأس أولويات ثوراتنا الشعبية - التي بدأت تكنس بعضا من هذه الأنظمة الشمولية – إغلاق ملف الاعتقال السياسي كليا، وأن يكون تبييض السجون أول عمل يقومون به، وأن تصبح كل قصص الاعتقال والعذاب جزءً من ماضي بعيد وذكريات مؤلمة .. نريد أن ننساها.
الكاتب : عبد الغني سلامة...
التعليقات (0)