مواضيع اليوم

رواية صوت الجبل

تمكنت من تجاوز ازمات كثيرة مرت في حياتي ، مرت ونسيتها ، او تناسيتها ، اعتبرتها كانها لم تكن ، ثم نسيت الاشخاص الذين مروا بي عبر طريق حياتي الصعب ، حتى أولائك الذين أساءوا لي ، والذين جعلوا سمعتي تسليتهم وقضيتهم .
حياتي الوعرة التي عشتها لم تمكني من بناء ثقة بالاخرين ، قلة كان أصحابي ومعارفي ، كنت اخشى الناس ، لانهم لم يبادلوني مشاعر الالفة حينما كنت وحيدة ، بعد وفاة والدتي عشت في فراغ موحش ، صحراء مترامية الاطراف ، كنت تائهة ضائعة ، وحيدة ..كنت يتيمة ووالدي على قيد الحياة يوم أن انعزل وانفصل عن الواقع وبات ينتظر بشو ق ملك الموت .. ملك الموت الذي كلما زار احدا من القرية وقبض روحه شعر والدي بحنق وغضب ، ويقول :
انا الذي انتظرك ..وليس هذا ..هذا يريد الحياة ..وانا لا اريدها ..الا تراني ..الا تسمعني ..ويقضي وقتا طويلا يخاطب ملك الموت الغيبي ويعاتبه ..وهو يرجو ان يكون القادم ..واما اذا مات من هو اصغر منه عمرا فكان يخاطب ملك الموت كأنه واقف امامه :
من احق بالموت الصغير ام الكبير لقد شبعت من الدنيا ..ولا اريدها ..ثم يجهش بالبكاء ..وبقدر ما كان هذا يشعرني بالراحة والالفة جلب لي المصائب ، حتى غدت سمعتي على كل لسان ، واتهموني بكل شنيعة ، ومن المتناقضات ان هذه الاشاعات دفعت نمر ان يدافع عن نفسه وبالتالي كان كانه دفاع عني ، مما مكنني من الصمود في وجه كل الاشاعات والطامعين بفتاة سمعتها سيئة ووحيدة .
فلما زهد والدي بالحياة زهد بي ولم يلتفت الي وكأني غير موجودة في حياته بل في الحياة كلها ، قاذا حضرت او غبت عنده سيان .. وهذا شجعني على على قضاء الليل عند العمة ام نمر ، وب
خفت الناس بالقدر الذي رأيتهم فيه تافهين لا يستحقون ان ابادلهم اية مشاعر ، كما هبتهم وخشيتهم لاني لم ارى منهم الا كل سوء وكراهية ، لجأت الى بيتكم عمه .والتفتت الى العجوز الغارقة في النوم .
لانه بيت الحضرة بيت الطهارة والالفة والمحبة .. محبتكم كانت في كل بيت ، الشيخ نمر كان سندي ، وكان جدار اتكىء عليه بكل ثقلي ، قوته ومهابته وخشية الناس منه مكنتي من التصرف بحرية ، نعم مكني من العيش بظله يوم لم يكن لي ظل ، الكثير منهم اعتقد ان ترددي عل بيتكم انما كان لاني انتمي لنمر ، فذا ما تعرضت لمشكلة فقط اقول نمر ..
العجوز تستمع ، كانت كانها ميته ، كانها جثة هامدة ، فقط النفس يدل على انها لا تزال على قيد الحياة ، احيانا كانت تهز رأسها علامة الموافقة او لتدلل على انها لا تزال تستمع ..
نعم كنت وحيدة في هذا العالم ، غريبة ، وما اشد الغربة حينما تشعر بها وانت في بيتك ..بين اهلك ..لم اجد قلبا حانيا او اذن سامعه ..او كلمة طيبة .. كان والدي يتوق للحاق بأمي ..وهذا زاد من وحدتي وحزني وعزلتي ..كان كل يوم يصحو قبل اذان الفجر .. ينادي على امي باعلى صوته ..يقف على الباب ينظر الى الافق البعيد كأنه يبحث عنها ، ثم يمشي باتجاه السفح عبر الوادي ، يقطع القنطرة وحينما يقترب من المقبرة ، ينادي باعلى صوته عليها ..كان يقول اليوم اصبحت يتيما ..ماتت امي ومات ابي ولم اشعر باليتم لانك كنت معي .. اليوم لا احد ..نسي انني موجودة ..الغاني ..شطبني من قائمة الاحياء الذين ينتمي اليهم ..قال لا احد معي ..لا احد لي ..ثم يجثو باكيا ليقول متوسلا خذيني معك ..
كل يوم كان يزور قبرها ، ويتأكد من قبر وهمي بجانبها ،حجزه لنفسه .. وضع عليه شاهدا واحاطة بحجارة دهنها باللون الابيض ، كل هذا اسقطه في حالة من العزلة ..والوحشة ..والغربة ..
سقط غليون العجوز من يدها ..ثم تناولته بحركة اليه .. تنهدت استندت كانها لم تكن نائمة ن قبل ..كانت على عكس ما ظنت يسرى ..كانت واعية فاهمة ، مدت يدها احتظنتها واسقطتها في حجرها كطفل صغير ، غمرتها بحضنها الدافىء ، ورائحة البخور تطغى على المكان ، اخذت العجوز تقرأ وتتمتم ..شعرت يسرى براحة عجيبة ، كأنها لم تعش منذ ان ىخلقت هذا التواصل الجسدي ، هذا الشعور ، وهذا الحنان ..استسلمت كرضيع في حضن امه ، كأنه ذهبت في غفوة بيسطة افاقت منها على صوت العجوز وهي تمسح شعرها بكف يدها :
- بنيتي ..الحضرة ليست قراءة وتسبيح وحمد ومدح ..انها اسلوب حياة ..طريقة نمشي بها ونسلكها .. وقد لا نمشي بالطريق الذي نريد فعلا ..مثل ان نضيع في طرق مختلفة وبالتالي نهتدي الى اقل هذه الطرق ضياعا في الحياة الدنيا ..فنسلكها ونمضي وتمضي بنا الحياة .
- حتى لو كانت هذه الطريق وعرة ...
- حتى لو كانت وعرة ..الا ترين من يسلكون الطرق الوعرة طوال حياتهم ..ثم لا يدركون ان ثمة طرق اخرى ..ولو افنيت العمر تهديهم الى طريق ومسلك اخر لما سلكوه ..ذلك ان الطريق قد اخذهم ..ومن العسير عليهم العودة والبدء من جديد ..
- ولكن نحن في طريق الحق والهداية ..
- نعم ..ولكنك تشعرين بوعورته ..
- نعم ..تتقاذفني مشاعري وروحي وعقلي وامنياتي وحياتي الماضية .. لعله شيطاني الموكل بي ..لعه اقوى مني ..لعل كل المسافة التي قطعتها في هذه الدرب وكل هذا الزمن لم تفعل فعلها بي كما يجب ان تفعل ..فهل انا ضعيفة ..خائفة ..منافقة ..ام مؤمنة ..امامة الحضرة ..ام يسرى الفتاة المتطلعة الى افق ابعد من الحضرة والكوخ والوادي حتى ..
- لن تجدي احسن منك واجدر ان يجيب على كل هذا ..
- ولكن امي ومعلمتي وشيختي ..وانت من وضعني على الدرب .. الا ترين انني احسنت بما اوكلت الي من مهمة ..هل قصرت يوما ..هل انحرفت ..حرصت ان اكون على الصراط ما استطعت كما امرتني ..وجاهدت نفسي ..فهل نجحت ..انت من تعرفي ..استملت قيادة الحضرة ..واخذت منك الطريقة ..وزاد الاتباع والمريدين والرواد ..كما زادت ايضا الصدقات والاعطيات والنذور ... ولو ان حضرة الجبل وشيخ طريقتها لم يكن له وجود لباتت طريقتك الطريقة الامثل في المنطقة .. الم يكن لي دور في كل هذا ...
- العجوز مطرقة .. كانها نسيت الغليون .. من يمكنه ان ينكر فضل ما فعلتي ..ومن ينكر مقدار ما بذلتي ، فهل يعقل عاقل ان تكون الشيخة يسرة امامة الحضرة في حالة من الارتباك والشك والحيرة .. انت من وضعت مجد الطريقة على طريق الاتباع ..والناس باسمك تلهج ..واليك تتوسل ..وبك تقتدي ..وثمة من يحسدك ايضا ..
- هل من سحر اصابني ..انا لست انا ..انا انقسم كل يوم الى اقسام كثيرة... رقيت نفسي باكثر من رقية ..وعلقت الخرزة الزرقاء ، وحجبت اية الكرسي والمعوذات في حجاب اعلقه في رقبتي تحت السبحة الالفية ..فهل ترقيني شيختي ؟
- لقد رقيتك وانت في حجري ..رفعت يسرى رأسها من حجر الشيخة الام ..واخذت كفها وقلبتها وقبلتها ثم زرعت رأسها ثانية في حجر العجوز ..
-

 

الان رفعت رأسها .. استندت ..قالت كانها افاقت من غيبوبتها او عادت من غربتها :
- وين غليوني ..
- قالت يسرى .. هيوه ..عمه .. وناولته للعجوز بعد ان وضعت فوقه جمرة متوهجة ..
ظنت يسرى ان كل ما قالت لم تسمع العجوز منه شيء ..ولكنها اكتشفت خطأ ظنها حينما قالت العجوز .. ايوه وبعدين .. ففهمت يسرى ان العجوز تريد ان تسمع ... خطابتها الاخرى التي انشطرت منها :
هل تتحدثين مع العجوز ..ام تحادثيني انا ..فان كنت تحدثين العجوز فهي في عالم ابعد ما يكون عما تقولين ، تغط في النوم ثم تستفيق ، ولا تلبث ان تغرق في بئر النوم ..واما انا فانا اعلم من غيري بما تقولين فهل من فائدة ترجى من حديث النفس للنفس ..قلت كأني اخاطب كائنا واقفا امامي :
ها انت تعترفين اننا واحد ..
ردت الاخرى بعجرفة : ومن قال غير ذلك .. ولكنك تنشطرين كل يوم الى الف شطر ..وتتقاذفك رياح غريبة تلقي بك نتفا على كل سبيل .. فهل هذا انت أم انا أم صاحبة الحضرة .. ام انت العاشقة المظلومة .. ام ..
صرحت : وهل هناك اخر غير كل هذا ..
بهدوء سمعت : نعم نعم .
همهمت العجوز : هل نزل نمر ..ثم تمايلت واستندت ممسكة بغليونها ..تنبهت يسرى للعجوز والسؤال ..


 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !