مواضيع اليوم

رواية حبر على ورق

مفكرة رحمة : والدة محمد اقبال

مضى وقت ليس بقليل كنت قد انقطعت فيه عن زيارة الدكتور رحيم ، في الحقيقة ، انقطعت فيه عن الخروج من البيت ، هكذا ..فجأة قررت أن اعقد محمكة شخصية ، كنت أنا القاضي ، وأنا المتهم ، عرض القاضي التهم على المتهم ، كانت كثيرة ، لكن أكثر التهم كانت تركز على كلمة واحدة هي ( الخداع ) ..قلت بصوت مرتفع .. اطفأت ضوء النيون المثبت على الجدار .. اكتفيت بضوء عمود الانارة الموازي لنافذتي .

سيدي القاضي ..اتذكر وقفت أمام النافذة ..كانت ليلة مطيرة ، مظلمة ، اصبحت النافذة كمرآة مصقولة ..شاهدت نفسي بوضوح ارفع يدي بقوة ..قلت : سيدي القاضي ..ربما كانت تهمة (الخدعة ..والخداع )  تهمة كبيرة ..وربما رأيتم بفضل نظرة عدالة محكمتكم الموقرة الثاقبة ..انني مارست الخداع ..لكن اسمح لي أن اوضح أمرا ..اشار القاضي بطرف عينه بالموافقة .. اهتزت الشجرة المقابلة للنافذة بقوة ..ونعق الريح بصوت مفجع ..ورشق المطر المرآ’ة ..

توقفت للحظات ..جمعت أفكاري ، أخذت نفسا عميقا ..ثم برزانة قلت :

سيدي القاضي : انا لم أخدع أحدا ..ربما كانت التهمة يمكن تكيفها لتصبح (الكذب ) ..وعدالتكم تعرفون الفرق ..والفرق كبير ..

هز القاضي رأسه ..كأني سمعت صوت موسيقى تصويرية ترافق هزة الرأس ..تذكرت فيلم الرسوم الكرتونية (  تم أند جيري ..)  كأن القاضي أمهلني ان اتذكر ..صمت ثم قال بحدة لكن بصوت متقطع :

هل تعلمين ان كل خداع أو كذب كما تقولين جر منفعة للكاذب (الفاعل ) وأثر سلبا على السامع ..يعد جريمة ..وهل تعلمين مدى الضرر الذي تسببت به للكثير ممن حولك .وهل تعلمين انك بعظمة لسانك قلت واعترفت بانك كذبت ومارست الكذب ..لتبرري انه ليس خداعا ..أو تعلمين أن هذا اعترافا  واضحا بالذنب .

قاطعت القاضي ..لا ادري كيف شعرت انه لا يفرق عن فيلم الرسوم الكرتونية ..مما اكسبني قوة تجاهه .. قلت ..ولكنك لم تبين من هو المشتكي ..ولم يبرز شكواه  ..ولم توضح مدى الضرر الذي حصل له ..أو تعلم أنني أنا من تضرر ..وأنا من يحق له أن يتقدم بشكوى ..أنا المظلوم ..

وقف القاضي ..انا ما زلت أمام النافذة ..مرت سحابة كثيفة ..عمت العتمة الفضاء في الخارج ..استدرت نحو القاضي فجأة انقشعت الغيمة ..وانهمر ضوء عمود الانارة داخل الغرفة ...ظهر القاضي كانه شبح ابيض بشع المنظر ..قال بصوت اجش ..ضربني وبكى سبقني واشتكى ..

قلت : انا لا اعترف بمحكمتكم ..ولا بقضائكم ..ثم ضغطت زر الضوء ..فسطع الضوء في الغرفة كشلال من الضياء

جلست على الاريكة امام التلفاز ..ورحت اقلب المحطات ..استعرضت التمثيلية التي مثلتها ...شعرت برهبة وخوف ..كيف لو كان بالامكان لكل منا نحن البشر ان يعقد محكمة لنفسه يكون فيها هو القاضي والمتهم في الوقت نفسه ..ترى هل من الممكن أن تسود العدالة في المجتمع ..هل يمكن أن نرى ما يسمى فساد القضاء ايضا ...ضحكت من الفكرة ..تناولت كيس الشبس وتناولت بعض القطع المقرمشة ..

لا ادري كيف خطر لي أن اجرب أن احكم على نفسي كقاضي في محكمة ..وضعت نفسي كمتهمة ..قلت احكم عليك يا رحمة بالسجن في الشقة لمدة اربعة عشر يوما ، يمنع فيها الخروج نهائيا لاي سبب كان ..كما يمنع الاتصال مع العالم الخارجي بأي صورة من الصور ..

ثم فورا ..اخذت مفكرتي ، كتبت كل ما حصل معي في هذه الليلة السوداء ..نزعت ورقة ..كتبت في اعلى الصفحة :

قرار المحكمة ثم كتبت تحتها نص الحكم ..أخذت الورقة والصقتها على المكتبة أمامي ..فصلت الانترنت ..واغلقت هاتفي تماما ، ثم اغلقت بابي بالمفتاح من الداخل .

من يومها ..لم أخرج من البيت ، قضيت عقوبتي والتزمت بقراري ..عفوا قرار المحكمة .. اليوم خرجت من البيت ،

كم شعرت بالسعادة وانا اعبر بوابة  السجن ، الى الدرج ، كم شعرت برغبة أن اقبل الجدران ، وما أن صافحني الضياء في الخارج ، حتى رأيت الشارع الطويل وصف الخروب الذي يزين الشارع ، كان بيت محمد اقبال البيت المستقل الوحيد الذي بقي بين العمارت التي انتشرت كثيرا ..بان كقلعة ..او سجن قديم ..وصف الاشجار يغطي معظم واجهته ...ركضت بكل قوتي وبأقصى سرعتي ، بلا ارادة مني وجدت نفسي اسير نحو عيادة الدكتور رحيم .. دلفت من بوابة العمارة ..كانت هي ..نعم هي ..والدة محمد اقبال ..بعبائتها الانيقة ..لطيت خلف  صندوق محول الكهرباء وانتظرت أن تمر ، لم أكن اريدها أن تعرف انني اتردد على عيادة الدكتور رحيم ..ولم أمكن بحاجة الى زيادة عناصر كرهها لي عنصرا جديدا ، فعلى الرغم من أننا نراجع الطبيب النفسي ذاته ، الا انها ستقول عني لو علمت ..مجنونة .

لكني تعجبت كثيرا ..ما الذي يدفعها ..ومما تعاني لتستعين بطبيب نفسي ..وما هي القدرة التي تمتلكها ..عجوز مثلها ..كان يمكن أن تظن كما الناس كافة ..مريض نفسي ..طبيب نفسي ..يعني مجنون .. مرت اشرت لسيارة تكسي ..وانطلقت ..هرعت بسرعة مدفوعة بشغف وفضول عجيب ، كانت السكرتيرة تعد عدتها لتغادر ..دخلت وسلمت ..كاني نسيت انني قضيت فترة العقوبة ..كانني كنت هنا بالامس ..الوقت نسبي ..قلت له هل هذه والدة محمد اقبال ..رفع رأسه ..قال بصوت مرتجف :

اعتقدت انك سافرت ..او مت ...اين كنت ؟

هل هذه والدة محمد اقبال .

من محمد اقبال ؟

اسقط بيدي ..فأنا لا اعرف اسمها الحقيقي ..كل ما اعرفه انها والدة محمد اقبال ..قلت بسرعة ..العجوز التي كانت هنا ..عجوز العباءة السوداء الانيقة .قبل دقائق معدودة ..قال ...نعم نعم .ثم صمت للحظة ..قرعت السكرتيرة الباب وهي تقول :انا مغادرة دكتور ..يله باي .

قال ببرود شديد : باي

ثم التفت الي : اين كنت ؟

قلت بهدوء : في السجن

السجن .. أي سجن ؟

ثم انتبه انني لا ازال واقفه امامه ، وقف وقال اجلسي ..جلست ...

وقال:  تمزحي  ..سجن ..قتلتي احدهم ؟  ..لعلك سرقت ..؟

قلت له ..كيف حكمت على نفسي ، وكيف قضيت العقوبة ، وقف نزع نظارته وأخذ يصفق ..

قال ..هذا يدل على شخصية قوية ..ونفسية متينة ..لوامة ..ولكن وهو يضحك ..اانت كاذبة أم مخادعة ..ام كلاهما ..

اشرت بيدي علامة النصر ..قال متسائلا ..كلاهما ؟..

قلت ..هذه علامة النصر

قال : لا زلت مخادعة وكاذبة ايضا .

 

 

 

 

 

الدكتور رحيم البطل

كما في القسم الذي اقسمته ، كان العهد بيننا طبيب ومرضى ستر العيوب ، قدسية الخصوصية الفردية ، عدم افشاء الاسرار ، ومن المفارقات العجيبة ، انه في الوقت الذي عملت فيه بجد على الوفاء بالقسم ، والبر به ، كان من يهمهم الامر هم من يفشون اسرارهم ..

بطبيعة المهنة ، كان كشف  الاسرار جزء مهم من المعالجة ، على المريض ان يبوح بحميمية ، وان يكون كتابا مفتوحا ، مرات برغبته ، ومرات تحت وابل من الاسئلة التي تكشف  اغواره ، فمشكلة  المرضى عندي ان جذور مرضهم تكمن غالبا  في اسرارهم الدفينة ..وذكرياتهم القديمة ، التي ربما يكونوا قد نسوها .. واجبي ان ابعثها من مرقدها ..اربطها بحاضرهم ..اكتشف العلاقات الغامضة التي تربط بينها ..وعلى ضوء ذلك افهم مشكلة مرضاي ..ومن هنا سيكون بمقدوري ان اساعدهم .وأخذ بأيديهم .

لهذه الغاية مهدت الطريق لمرضاي أن يشاركوني الحياة في مكتبي ، كما اشاركهم همومهم ، احيانا اوحي لهم بأني أشكو لهم مثل ما يشكون لي ، ربما أبكي مثلما يبكون ، وهذا جسر الفجوات بيننا على الدوام ، ربما هذا الاسلوب لا ينفع مع الجميع ، البعض بحاجة الى مد جسور من الثقة ، ردم الفجوة ما بين الطبيب والمريض لتعميق الثقة ، احيانا كنت اتخلى عن دور الطبيب ، اترك للمريض أن يبوح كأنه يحدث نفسه ، يفكر بصوت عال وبعمق ، وبالطبع اسجل صوت وصورة كل ما يدور ، ثم افرغ المعلومات المهمة واهمل الباقي ، نادرا ما كنت اصرف دواء لمريض ..بل كنت احاول المعالجة النفسية بعلمية وتقنية وحرفية ، كنت مؤمنا ولم أزل بالفكرة القائلة أن الانسان اكبر واكثر كائن قادر على التكيف مع جميع الظروف . كما انا مقتنع تماما بأن الانساان قادر على معالجة ذاته .. قلة من صرفت لهم بعض الادوية المسكنة والمنومة ..على علمي بأن أضرارها الجانبية أكبر من فائدتها ..ولكن ربما ليس بمقدوري أن أصرح بهذا ..

 في الثامنة تماما  وفي مساء يومي خريفي ، جاءت (ذكرى ) لم اكن اعرفها ككاتبة او روائية ، ولم تربطني بالادب أي علاقة تذكر ، كانت مطالعاتي تركز على علم النفس ، دخلت ..كانت متوسطة الطول ، منتصبة ، تميل الى البياض الشاحب ، حاسرة الرأس ، لم تكن فاتنة ، لكنها كانت تتمتع بجسم متناسق ، قلت وانا اقف من وراء مكتبي :

اهلا ( سلمى بلسم  ) ..سقطت عيني على  (   مجلة بلسم  ) التي يصدرها (  الهلال الاحمر الفلسطيني  ) .. كانت تأتيني تلك المجلات بموجب الاشتراك الشهري ..ابتسمت عن ثغر صغير ..وشفتان رقيقتان .. ثم قالت :

مساء الخير دكتور ..انا لست  ( سلمى .. )

قلت  ، وقد اعتدت على هذا الموقف من قبل الكثير ممن يتحرجون من زيارة  الطبيب النفسي ،  قلت

اهلا بك على كل حال..  ولكن هذا موعد لمريضة حجزت اليوم في هذا الوقت اسمها ( سلمى بلسم ) ..وقبل ان اكمل ..قالت ..انا هي التي حجزت الموعد ..انا ( ذكرى مرزوق مبارك ).. ولكني ..تكلمت بكلام لم انتبه له ..كنت قد سرحت بعيدا في تذكر هذا الاسم ( ذكرى مرزوق مبارك ) ..سمعت به ..فجأة تذكرت (رحمة ) ..ثم قلت وقد قاطعت حديثها الذي لم اتذكر منه حرفا :انت الروائية الشهيرة ..فلتت مني عبارة (سمعت باسمك من (صديقتك رحمة ) ..همست كانها خائفة : تقصد (رحمة شعيل ) قلت نعم ..

جلست ..تحدثنا كثيرا ، لم انتبه الى انها كانت كانها تستجوبني ..فيض من الاسئلة كانها كانت قد اعدتها من قبل .. كانت الاسئلة عن (رحمة ) كنت حريصا على ان لا اقول شيء ذو اهمية ، لكنها كانت تصر على السؤال ..الغريب انها كانت تعرفني ، وتعرف عني كل شيء .. لا اتذكر انني بحت بكل ذلك لاحد ..

ذكرت لي انها كتبت روايتها الجديدة (حبر على ورق ) وانها قد تتطابق مع بعض الوقائع والحقائق ، والاشخاص ايضا ، ولكن هذا لا يعني انها سيرة  ذاتيه لاحدهم ..كانها كانت تمهد لامر يجب علي ان افهمه ، قلت لها انا غير مهتم بالادب والرواية ، ولكني سمعت عن نجوميتها .. فتحت حقيبتها ، وناولتني نسخة من الرواية ..ثم قالت ساوقعها لك لانك لم تحضر حفل التوقيع ..فتحت صفحة الغلاف ثم كتبت على الصفحة الاولى : الى الدكتور رحيم البطل مع خالص الاحترام والتقدير ثم كتبت تاريخ اليوم . ناولتني النسخة وهي تقول :

لعلها تكون بدايتك مع الادب والثقافة .. وهي تبتسم ..

حاولت ان اسبر غورها ..لم اكن بحاجة الى كثير عناء لافعل ذلك ، كل ما كان علي ان افتح بابا ..ثم اترك لفيض الكلام ان يمر كتيار ..كانت تتحدث بطلاقة ، ولكنة محببة ، تميل الى لكنة اهل الخليج ..حتى ظننتها عراقية .. كانت تعاني من خوف داخلي كبير ..وسواس قهري ..كانت ثقتها بالاخرين معدومة ..تعتقد انها يمكن ان تكون عرضة للابتزاز ..فلا احد يمكن ان يعمل عملا هكذا لوجه الله ..

كانت تعاني من تخيل اشياء  مختلفة ، واشخاص ، كما في كوابيسها الليلة ..وتعاني من ارق عظيم ، وقلق كبير ، كانت تحفظ الالاف القصص والحكايات والذكريات ، تلك الحبوب المهدئة التي ادمنتها دون استشارة طبيب جعلتها عرضة للادمان وفقدت تلك الحبوب فعاليتها بعدما تعود دمها عليها ..قالت أن رحمة نصحتها بها ..وان الدكتور (رحيم ) قد وصفها لها بعدما استعصى عليها النوم ..كدت أن اقول أنني لم أصرف لها أي دواء وأن رحمة مجرد صديقة ليس أكثر ..نعم تراجعني كمريضة ولكنها تأتي بمرتبة صديقة ..هي ليست بحاجة الا لقلب يسمع ويعطف ليس أكثر .. كدت أن اقول ولكني تراجعت ..لكني قلت لها ..هل لي أن أرى هذا الدواء ..فتحت حقيبتها وناولتني علبة ..كانت جديدة ..قرأت ما كتب عليها كان عبارة (                                                        ) لتشنجات .. طلبت منها ان توقف الدواء ..واذا شعرت بحاجة للعلاج ان تتصل على رقمي ، وناولتها بطاقتي .

نصحتها بوقف تلك الحبوب ..واستبدلتها بحبوب تاخذها عند الحاجة ..وهي حبوب مساعدة على النوم ..قالت وهي تشرب كأس عصير (اليمونادة  بالنعناع )  هذا ما احتاج اليه ..النوم ..اريد ان انام فلا اصحو ..اريد نوما دائما ..لم اعلق عليها كانت تلك امنية ان تموت ولكن بصورة مغايرة ..

حدثتني عن تلك الكائنات التي تراها في احلامها ، وتحس بوجودها في بيتها في نهارها ..وحدثتني عن حقد تلك الكائنات عليها ، قالت هي كائنات (من حبر وورق ) انا من ابتكرتها ،  وانا من اوجدتها ، ولكنها كانت تأتي ألي تعاتبني ، وتحاسبني ، وتعاقبني طوال الليل ..

حدثتني عن رحمة ، ثم توقفت ..نظرت الي . في عينيها حديث  قرأته ..لكنها لم تبح به ...قلت مبادرا ..ومبررا بعدما توقعت ما كانت تداري ، قلت : ليس كل ما يقال صحيح .. كأنها كانت تريد أن تقول لا تسمع لرحمة ، فليس كل ما قالت لك رحمة عني صحيح بالضرورة ، وكنت على علم بأن ما قالت ايضا عن رحمة ليس بالضرورة صحيح ..وايضا لا اعرف ماذا قالت رحمة عني لذكرى ..او ماذا ستقول ذكرى لرحمة عني ..وكنت قد اعتدت هذه العلاقات المتشابكة من خلال علاقتي بمرضاي الذي تربطهم علاقة معينة ، فالكثير من المرضى يراجعون الطبيب النفسي بعد تشجيع ودفع من مريض آخر وجد راحته في الزيارة فينصح صديق  أو قريب ..

حاولت أن اصمت لادفعها الى كسر جمود الجلسة ، ومن ثم البوح ، كاتبة كذكرى لا يمكن ألا ان تحب الثرثرة ، ولن تطيق الصمت ، كنت اراهن على هذا في انها ستتكلم ..

كانت الرواية بيننا ، هي اقرب الي منها ، لفتت انتباهي بقعة الحبر ..والاسم الغريب ..سحبتها نحوي ، فتحت الصفحة الاولى ، قرأت التنويه ،  كانت قد مهدت للتنويه بكلامها الذي افتتحنا بها الجلسة ..سألتها :

هل لاحظتي الصدفة  الغريبة  ..

قالت وهي تشرب العصير : كيف

قلت : انت تعرفينني من خلال مريضتي (رحمة ) وانا لا اعرفك ، (رحمة) تعرفني وتعرفك .

قالت : (رحمة ) لها ذاكرة تليق بروائية ، ومقدرتها على التعليق على الاحداث عجيبة ..  رأيت (ذكرى مرزوق مبارك ) مسترخية في جلستها ، رن هتفها النقال ، وقبل ان تفتح الخط قالت .. تأخر الوقت كثيرا ..سررت بالحديث اليك ..آمل ان نلتقي في موعد آخر قريب ..وقفت ..ثم وقفت .. لا زال الهاتف يرن ،  فتحت الخط  وقالت نعم ..نعم .ثم نظرت الي واشارت بيدها وخرجت بسرعة ..

اخذت حقيبتي  ووضعت   جهاز اللاب توب ،  سحبت آلة التسجيل من تحت الطاولة ، اخذت ال ( CD )  كتبت علية : لقاء الروائية ذكرى (1 ) ثم كتبت 2/3/2009 وضعته في الحقيبة ، ثم تناولت الرواية ، وخرجت .

تمشيت قليلا ، ثم عدت الى بوابة العمارة حيث تقع العيادة ، ركبت سيارتي وعدت الى البيت ، دخلت غرفتي كان صوت شخير والدتي وحده في البيت ، كان ثمة شيء يحثني على تصفح الرواية ، فضول كبير يدفعني للقراءة ، ربما هذه هي الرواية الوحيدة التي امتلكها ..رحت افتح الصفحات بشكل عشوائي ومتسرع ..اقرأ كلمة اوعبارة ، او جملة ..مررت على اسم  ( رحمة ) ثم (محمد اقبال )  ثم اسماء اخرى كثيرة .. ثم اسمي .. بسرعة ربطت الاسماء معا .. فقلت ..كذبت (ذكرى ) ..ما نوهت به محظ كذب ..هذه ليست رواية ..انها سيرة ذاتية لاشخاص بعينهم ..

فضولي دفعني لاقراء كل ما كتبت تحت اسمي .. لم اتفاجأ بانها لفقت احداث كثيرة ، ومزجت الواقع بالخيال ، الحقيقة بالكذب ، كم تمنيت ان اتصل (برحمة ) او (محمد اقبال ) لاعرف منهما بعض الذي يقلقني .. وكان جل ما اثارني ..كم المعلومات التي كتبتها عني ..طبعا لم اكن بحاجة الى من بخبرني بمصدر معلوماتها ..بالتأكيد كانت (رحمة ) ..رحمة ايضا كذبت ، وزادت وانقصت ، مزجت خيالها بالواقع ، وكذبها بالصدق الذي قلته ، كانت مريضتي وكنت اعرف حالتها قالت ما لم اقل ، وحرفت ما قلت ، وما اثار عجبي ..لماذا كذبت كل هذا الكذب ..

كنت اعرف ان مراجعي من المرضى  لهم طبيعة خاصة ..ولم اكن لابوح لاحدهم بمكنوناتي وحالتي الشخصية  دون احتراز .. قالت (ذكرى ) على لسان (  رحمة )  .. كانت رحمة آذن صاغية ، وقلب حنون ،عندما كان طبيبها النفسي (رحيم البطل ) يبوح لها ..للحظة تكررت في كل زيارة ..شعرت (رحمة ) انها هي الطبيبة ..وان (رحيم البطل ) هو المريض ..ثم تطورت تلك اللحظة الى ان تقمصت (رحمة ) هذا الدور ..

كان (رحيم ) يعاني من ازمات نفسية كبيرة ، بلغ من العمر ما بلغ ، لم يخبرني بعمره ، لكنه كان كبيرا ، سألته ذات مرة عن تاريخ ميلاده ، فقال  29/5 فقلت له انت من برج الجوزاء ..فقال كيف عرفتي ..فقلت لانني من البرج نفسه .. قال لنفسه وهو يقرأ ما كتبت (ذكرى ) على لسان (رحمة ) عنه ..لعلها كانت كاذبة .. فتح اللاب توب ، ثم فتح ملف (رحمة ) كان تاريخ ميلادها 5/11 وليس كما ذكرت من مواليد شهر ايار .. هز رأسه انها كاذبة كما هي (ذكرى ) ايضا كاذبة .. تابع القراءة ..على لسان (رحمة ) ..من مواصفات مواليد هذا البرج ..انه متردد ، سريع الضجر، غير واثق بنفسه ، بحاجة ان يضع حمله على غيره ..لكنه لا يطلب المساعدة ..يتوقع ان الجميع يجب ان يخطب وده ..ثم تابع القراءة ..

صمت ( رحيم ) طويلا ..ثم قال يبدو انك منجمة ايضا ، عالمة فلك ، هل تقرأين الفنجان وتكشفين الطالع ؟  قلت ليس الى هذا الحد ..ولكنني اقرأ الابراج ..وتعلمت قراءة الكف ..قال : من علمك ذلك : قالت صديقة  قديمة ..ثم بين قوسين كتبت ذكرى ( - رحمة – كذبت في هذه ..حيث انها لم تتعلم قراءة الكف ، ولكنها كتبت في مفكرتها انها تعلمت قراءة الفنجان ، وان من قالت انها صديقتها ..كانت مدبرة  دار الرعاية التي كانت فيها ) عندها راح (رحيم البطل ) يعيد الفقرة اكثر من مرة ليتأكد من مدى فهمه للموضوع ..قلب الرواية على وجهها ..ثم راح يفكر ..اعاد تنشيط ملف (رحمة ) على اللاب توب ..ثم اخذ يدقق ببعض المعلومات التي دونها في ملف خاص ..تحت اسم (معلومات شخصية ) ..لم يجد ما يشير الى انها قالت انها كانت مقيمة في دار رعاية اجتماعية ..

اتكأ على السرير ، هل يعقل همس في سره ..هل يعقل ..مريضة نفسية ..تعاني كل تلك المعاناة ..تتمكن من خداعي ، ولم اتمكن من سبر اغوارها ، لم اتمكن من فضح قصتها المختلقة الملفقة ، هل فعلا تمكنت من خداعي ..وما فائدة ذلك بالنسبة لها ..كان صوت شخير العجوز الكبيرة قد توقف بعدما كان يشكل خلفية صوتية لتدفق الافكار .. ساد الصمت ..نظر الى الساعة ..ثم تناول الرواية ..قلب الصفحة ..

اول كلمة في الصفحة لفتت انتباهه كلمة باخر الفقرة (عنينا ) بدأ من بداية الفقرة ..

 .. كتبت رحمة في مفكرتها ..تساءلت في سري عن سبب عزوف رجل مثل (رحيم البطل ) عن الزواج ..من خلال حديثه الذي كان يشبه البوح ..وفي جلسة تبادلنا فيها الادوار ..دون تخطيط او رغبة .. هكذا كما اغلب المرات ..كنت استمع الى شكواه ..وتظلمه ..قال انه تلقى ضربتان قاتلتان ..الاولى كانت عندما سقط على ظهره من فوق شجرة الجوز ، والثانية عندما ركله المحقق بين فخذيه ..قال بعد صمت خيم على كلينا ..انه فقد ما لا يعوض ..وانه كتبت عليه الوحدة ..ثم تابعت الكتابة في مفكرتها ..معلقة على كلمة المحقق ..قال (رحيم البطل ) ان اسمه الحقيقي (   رحيم مرجان رحيم ) واما هذا الاسم الذي اشتهر به ..ويكتبه في اوراقه وفي عيادته ..انما هو اسم اكتسبه اكتسابا يعتز به اعتزازا كبيرا ..( رحيم ) من رموز الحزب الشيوعي ..وكان مناضلا صلبا عنيدا .. لكن كان لا بد من دفع الثمن ..كان الثمن كبيرا كبيرا جدا ..كانت رجولته وفحولته .. حيث اصبح عنينا ، ولكنه اضاف كلمة بطل الى اسمه .

شعر بخدر يسري من رقبته الى كتفيه ، ثم الى عموده الفقري ، اصلح من جلسته ، طوى الصفحة ، وضع الرواية بجانبه ، نام بملابسه .

في العيادة ، تذكر انه حفظ رقم هاتف(   ذكرى  ) طلب الرقم ..جاء صوت النداء الالي ...الرقم المطلوب لا يمكن الاتصال به حاليا ..كرر المحاولة ..جاء الرد نفسه من النداء الالي ..القى الهاتف جانبا ..لم تواتيه الرغبة بقراءة الرواية ، وفقد الرغبة والهمة بمتابعة مرضاه لهذا اليوم ، طلب من الممرضة التي تعمل عنده الاتصال مع من لهم مواعيد لهذا اليوم وتعتذر منهم ..ثم تغادر العيادة بعدما تنهي الاتصال ..

عمد الى (الكوفي ميكر ) وصب كمية كبيرة في (المج الاحمر ) ..ثم استرخى ..بعد قليل دخلت الممرضة مستأذنة بالمغادرة ، القى رأسه على مسند الرأس في الكرسي الكبير ..سرح بعيدا ..اين اختفت (رحمة ) ..تذكر رقم هاتف مدرستها ..جاء صوت المديرة اجش : تركت التعليم منذ مدة طويلة ..ثم صمتت ، قام باغلاق السماعة .  همس لماذا لفقت كل هذه الحكاية ، كل هذا الكذب ، لماذا كتبت كل ذلك في مفكرتها وهي تعلم انه كذب وافتراء ..وماذا استفادت من كل هذا ..ثم فجاة خطر له انه لربما ان كل هذا لم يصدر عن( رحمة ) وانها لم تكتب شيء ، ولم تكن هناك مفكرة اصلا وكل ما كتب ربما يكون من خيال (ذكرى ) ولكنها جاءت به على لسان ( رحمة ) ..

صمت للحظة يفكر..راقته هذه الفكرة ، ارتاح لها ، واطمأن ..قال اربط الافكار ربطا منطقيا ..كل الذي كتبته (ذكرى ) على لسان( رحمة ) عني لا يمت للحقيقة بصلة ، هو خيال ، هو كذب .. ( رحمة ) كذبت علي في تاريخ ميلادها ..وكذبت حينما انكرت انها نزيلة دار رعاية اجتماعية ..ملجأ للقطاء ..فما المانع ان تكون كذبت كل ذلك على لساني ..هل من الممكن ان تكون متعاونة مع (ذكرى ) لمدها بالمعلومات ، فاحتارت كيف تساعدها ، فقامت بتلفيق هذه الاكاذيب .. لتكتمل الرواية . حيث كما قالت (ذكرى ) انها معجبة باسلوب (رحمة ) بالتعليق .

ولكن على ما يبدو ان ما كتبته الروائية ، لم يكن همه التركيز على الشخصيات بقدر التركيز على الاحداث ، ثم هذا التنويه الذي نوهت به في بداية الرواية ، الا يعد مدخلا لنفهم ان الاحداث ربما تكون حقيقية وكذلك الشخصيات ، من خلال معرفتي بكل الشخصيات التي ربطتني بهم علاقة بالواقع وبالرواية ، انا اعرفهم اما اسما واما اسما ورسما ...هذا ينسف فكرة انها ربما تكون خيالات روائية .

رشف رشفة من فنجان القهوة ، لكن الفنجان كان فارغا .. تناول زجاجة الماء وشرب ..

ضغطت زر التشغيل في اللاب توب ، ثم ادخلت (ال ( CD  )  وضعت ال ( Head set  ) على رأسي ..ورحت استمع الى التسجيل ، سماعا مرهفا ، واسجل بعض الملاحظات ، لم اجد في كل الحديث ما يلفت الانتباه ، الا انها كانت تشكو من الرؤى والاطياف الغريبة التي تتخيلها ، وتلك الكائنات التي تعتقد انها تراقبها ، وتلك الكوابيس التي تقض مضجعها ، حتى باتت تخاف النوم ، كما تكره المساء الذي ينذر بقدوم الليل ، هذا الليل ..بما يمثله من  وحدة ، ووحشة ، وخوف ، وتلك الذكريات ، وشخوص رواياتها وقصصها الكثيرة التي يأتوها عندما يحل المساء .

فتح الرواية ، كان قد وصل الى صفحة (مفكرة رحمة ) .. ما كتبته رحمة كان هلوسة ، هلوسة مريضة نفسية ، اعترفت بلسانها انها ..(كتبت عن دار الايتام ، وكتبت عن معلماتي ومديرتي وبعض الموظفين والزوار ، ظلمت البعض بالوصف  اعترف بهذا ، فلقد كنت اكتب ما يجول بخاطري ، دون رقيب او حسيب ، ولم يكن من المتوقع ان يرى كائنا من كان هذه الكتابات ، اتهمت البعض اتهامات باطلة كاذبة ..وصورت بعضهم كوحوش مفترسة ..ولم يكن هذا من الواقع ..مدحت بعضهم ، وصورتهم كملائكة رحمة ، لانني لم اكتشف انهم شياطين بحق ..بعد زمن اكتشفت زيف قناعاتي ..وضحالة معرفتي بالناس ..ثم رحت اقنع نفسي ..انا لا انتمي لهذا الكوكب كله ..فكيف سانتمي لجزء منه ..كبعض الموظفين في هذه الدار التي لا احتفظ لها بذاكرتي بشيء يسر  ) ..

ربط الفقرة بما تخيله عنها من انها مجرد هلوسة ..هلوسة مريضة ليس اكثر .. ثم لما وصل الى ما قالته (رحمه ) عن استغرابها وعجبها من تسرب المعلومات في تلك المفكرة ، وكيف وصلت الى يد ذكرى ، ثم لكتابتها في روايتها ، همس لنفسه  آليا وبلا ارادة كتب على ورقة امامه ..هلوسات ..هلوسة من ذكرى كما هي هلوسة من رحمة .. كتب كلمة كذبة ثم وضع عليها اشارة (ْx) ثم شطب كل ما كتب ..نظر الى الورقة التي امامه ..رأى كلمات مكتوبة ..مختلفة .. رأى كلمة هلوسة ..كذب ..جنون ..فقدان ذكراة ثم رأى انه كان قد شطب فقدان ذاكرة ..وقال ذاكرة غريبة ..لا تنسى ..

العودة الى عسير ..محمد اقبال

انتابتني حالة من الشجن وانا اهم بالعودة الى عسير الرائعة ، بعد ايام مهرجان الكليجا وتلك الاجواء الرائعة ، كأني ولدت وعشت وتربيت في عسير ، شقتي الوظيفية في سكن الشركة كاملة مكملة ، مفروشة بارقى انواع الفرش ومجهزة بكل سبل الراحة ، ضمن عمارة كتب على بوابتها سكن شركة .......... قبل دخولك يجب ان يتأكد الامن على البوابة من هويتك الشخصية .. كنت اعلم انني سريع التأقلم ..الانسان اكثر كان عنده قدرة على التكيف .. أنا تكيفت بسرعة عجيبة مع أجواء عسير .

اعلن السائق عبر مكبر الصوت الداخلي ان الحافلة ستنطلق خلال دقائق ، انطلقت ببطء شديد ، ولا نكاد نسمع الا صوت مكيف الحافلة وصوت العجلات على الطريق ، خرجنا من الرياض ، تناولت حقيبة الللاب توب ، اخرجت الرواية ، قلت سأقرأ قراءة متمعنة متفحصة ، في الصفحة الثانية بعد الاهداء كان التنويه من أن أي تشابه بين شخوص الرواية وأي شخوص في الواقع مجرد تشابه غير مقصود ..ثم في الصفحة الثالثة عبارة بخط يد الكاتبة ..ربما تكون روايتي الشخصية او روايتك او روايتنا كلنا .ثم اسفل العبارة كتبت اسمها بحرفين ذ.... .

كان رفيقي في المقعد قد غط في النوم بعد أن غطى وجهه بشماغه وقد ضوع سماعة الاذن على رأسه ، في الحقيقة كان اغلب الركاب قد استسلموا لبرودة المكيف وحركة الحافلة التي تبعث الخدر ..فناموا ..رأيت ذكرى  تقف امامي بجسمها النحيل ، كانت كانها تحكي لي الرواية بدل أن أقرأ ..ثم ظهرت رحمة ، ووووووو في  رابطة الكتاب ، ذكرى خلف المنبر ، بجانبها .......  قدمها كالعادة ، ثم اخذت تقرأ ..توقفت ثم قالت :

عفوا سأقرأ مقاطع من الفصل الاول من  (  رواية حبر على ورق  ) ..توقفت الحافلة الستائر الكثيفة تحجب الرؤيأ .. كان حاجزا للتفتيش ..صعد الجندي يعض على مسواك قال من بين اسنانه والمسواك :

السلام عليكم ..الاقامات ..البطاقات الشخصية ..لو سمحتم

رفع الركاب اوراقهم ، جاري رفع الغطاء عن وجهه ، رفع بطاقته ،   مر من بيننا سريعا ، لم يراودني ادنى شك انه قرأ واحدة منهن ..نزل كما خرج ..ثم انطلقت الحافلة من جديد .. عاد الركاب الى ما كانوا عليه ..جاري سحل تحت المقعد ، استرخى ، غطى وجهه من جديد ، ثم نسي ان يضع سماعة الاذن لهاتفه الخلوي ، دون ان يرفع الغطاء ، بحث عن السماعات حول رقبته ثم ثبتها في اذنيه ..

كاني سمعت ذكرى تقول ..حسنا سنتابع ..كانت هذه عبارتها التي تقولها بعد ان يصمت الجميع لسماع صوت اذان المغرب ..كلما مر الوقت كنت ازداد قناعة بأن ذكرى لم تكتب رواية من الخيال ، بل جمعت كل الوقائع الحقيقية ، صاغتها باسلوب ادبي جميل ..ثم قالت هذه رواية ..لكنها لم تنسى أن تبالغ في موقع وتكذب في مرة أخرى ، وكأنها نسيت أو تعمدت أن تترك الاسماء في الرواية كما هي في الواقع ..مجرد تغيير الاسماء قد يغير شيء ولو بسيط ، لكن أن تذكر الاسماء ، وتفاصيل حياتها اليومية ..قلت في سري الا يعد هذا من الغباء ..ثمة صوت رد : لماذا لا يكون هذا تصرف شجاع ..فهي مثلا لم تأبه لكل تلك الاسماء ..قال صوت رفيع كأنه صوت رحمة : لكنها تهربت من المساءلة من خلال التنويه في بداية الرواية ..

شعرت بدوار شديد ، ورغبة بالاستفراغ والتقيوء ، اغلقت الرواية وضعة العلامة وانا اشعر بأن ذكرى فضحتنا كلنا بما فيها هي نفسها  ..كانت الحافلة كسفينة في بحر من الظلمات ، ليس ولنا الا الصحراء يغلفها الظلام ، من بعيد لاحت هالة من النور حول كتلة من الضياء ..كانت تتضح معالمها كلما اقتربنا .. ( محطة ساسكو )توقفت الحافلة ..نزلنا وما أن وصلت الارض حتى رحت أستفرغ بقوة كل ما في بطني ..شعرت براحة ..كان رفيقي في المقعد يلف وجهه بالشماغ الاحمر ناولني زجاجة الماء التي بيده ..ثم قال ..أخوك متعب الشمري  ..مد يده ..صافحته ..كانت الرواية لا زالت بيدي ..أضع أبهامي بين ضفتيها قال من خلف اللثام :

لا زال الكتاب بيدك ؟

-

كتاب مهم ...؟

-          هي رواية .. قصة ..اقطع بها طول المسافة ..

 

 

 

انكشاف السر لمحمد اقبال ..

العودة الى عسير ..2

كنت قد حاولت أن أنسى الرواية ، اتجاهلها ، وفي قرارة نفسي كنت أنوي تجاهل شخوصها الذين ربطتني بهم وشائج مختلفة ،  بعد أن بات شخوصها كائنات حية ، حية ترزق ، تقف أمامي تكلمني وتشاركني شقتي ، ترافقني في حلي وترحالي ، تسهر معي ، بل كانوا يأكلون معي ..وبت أحدثهم ويحدثوننني ..قلت أهرب منهم ، وضعت الرواية بجانبي تحت المصباح ، اصبحت الرواية كأنها صندوق ضخم تهرب منه الشخوص ، ثم كأنهم يلاعبونني ، يقفون في طابور شبه عسكري وبمشية عسكرية يدخلون من باب الصندوق ثم يخرجون من باب آخر ..

أخذت الرواية اللعينة ، وضعتها تحت مخدتي حتى لا أراها ..لكن أصحابي لم يفارقوني قلت أهرب منهم ..أترك لهم البيت واهرب الى الحرش في الجبل القريب ..هناك ألتقيت (ظافر أبو الشيح ) كان رجلا عرف عنه الجنون ، يتسكع في أي مكان ، جلسنا تحت الاشجار ..عجبت من كلامه ..كان يحفظ الكثير من الاشعار والقصص والحكايات ، وكان يمتلك قدرة عجيبة على السرد بتفاصيل دقيقة ، تجذب السامع للانصات والمتابعة ..

 تهت وتشردت مع ( ظافر أبو الشيح ) في أحراش عسير ، ألى أن وقعت بين يدي الشرطة وتم نقلي إلى مصحة الامراض النفسية في بريدة ، وقفت أمام زجاج المصحة الأسود ..كم أسفت على حالي ..بحثو في ملابسي فعثروا على أقامتي ..وبطاقة التعريف الوظيفية ..مدير عام المشاريع ...كأني لم أرافق (ظافر أبو الشيح  ) يوما ..استعدت توازني أمام المحقق والطبيب . اقنعتهم انني في اجازة ..وكنت في رحلة برية بلا ترتيب ..بالصدفة كنت ارافق هذا المعتوه الشهير ..اطلقوا سراحي بضمان بطاقة التعريف الوظيفية ..

عدت إلى البيت ، حلقت ذقني ، نمت في البانيو تحت الرغوة الكثيفة ، لبست بدلتي وربطة عنقي ، ووقفت أمام المرأة ..كنت كأنني ولدت من جديد ..لا اعرف كيف ..ولماذا لكن هذا ما حصل ..

في صفحة معنونة محمد اقبال ..العودة الى عسير ..قرأت ..

لم يتمكن محمد اقبال من أن يلجم شهيته النهمة الفضولية ، أراد أن يكمل الرواية ، على الرغم من أنه كان يتمنى لو أنه لم يحصل عليها أو يعلم بها أو يعرفها ، اعتقدت في البداية أن الرواية ستكون مجرد شكلا أدبيا محضا ، الا أن معرفة القراء بعض القراء لشخوص الرواية  ( تطابق الاحداث مع أحداث الواقع بالصدفة ) جعل منها رواية شخصية لكل واحد منهم فمحمد اقبال مثلا ..وهو شخصية وهمية بالطبع حتى لو تصادف وأن تعامدت مع الواقع سيرى أن ذكر علاقته مع رحمة وما انتاب هذه العلاقة من تشنج وتوتر في الرواية فضيحة له ولرحمة علما بأن رحمة ايضا شخصية خيالية حتى لو تطابقت مع شخصية حقيقة ..توقفت عند هذه الفقرة ، اعدت القراءة من جديد ، تنبهت للتنويه في اول الرواية ..

(أي تشابه بين شخوص الرواية وأي شخوص في الواقع مجرد تشابه غير مقصود) مجرد ذكر هذا التنويه هو اشارة الى تطابق الرواية مع الواقع . لكن كل ما كان يحيرني كيف تمكنت من سبر أغوار كل الشخصيات ، كيف عرفت بأدق اسراري ، من أين لها أن تعرف بما حصل لي في عسير وبريدة ..ورحلة الرياض ..تأكدت بما لا يدع مجلا للشك انها رحمة .. هذه الغبية ..تابعت القراءة ..

وربما سيعجب محمد اقبال كما سيعجب غيره من شخوص الرواية من هذا التطابق ، ثم كيف  لراوية أن تعرف تفاصيل شخصية دقيقة عن كل واحد منهم وقد فرقتهم دروب الحياة وجعلتهم اشتاتا . ( كان ثمة ما يدفعني  أن أقراء بسرعة أكبر ..كنت أقفز فوق السطور ..قرأت ..) ربما  أن رحمة لم تذكر كما لم تتذكر كيف كانت لا تكتم سرا ، ولا تطيق صمتا ، كانها كانت تبارزني في قوة السرد والقص ..غير أني كنت اكتب (حبر على ورق ) بينما كانت تقول كلاما تظن أنه في الهواء ..كانت ذاكرتي ولم تزل كآلة تسجيل ..ذاكرة كمبيوترية ..حتى أن رحمة اعترفت بذلك ..في مفكرتها ..وقد حاولت أن تتحقق من صدق قوة ذاكرتي على الحفظ والاسترجاع .

مفكرة رحمة كما قالت ..صدرها الحنون ..حصنها الذي تلجأ اليه ..تبوح له بمكنوناتها ..تتعرى أمامها ..لكنها في الواقع كانت تقول كل ماتكتب ..وربما ستعجب رحمة ايضا كما تعجب محمد اقبال ..كيف عرفت كل هذه التفاصيل الدقيقة ..كانت رسائل محمد اقبال لرحمة رسائل سرية بين حبيبين ..لكنها كانت رسائل مفتوحة على طرف ثالث هو أنا ..لم أقرأ الرسائل .ولم أرى خط محمد اقبال ..لكني كنت أعرف بكل تفاصيلها ..نسيت رحمة أنني كنت الصديقة الوحيدة القريبة ..بل كنت صردها الحنون الحقيقي ..وقلعتها وحصنها ..

وضعت الرواية جانبا ، شعرت برضا ..اشبعت فضولي ، اكتملت الحقيقة ، بانت الصورة كاملة ..هي رحمة ..هل هناك شك أن تكون ذكرى كاذبة ؟

رحت اتذكر ، كل يوم رسالة ثم كل يومين ثم كل اسبوع ..ليس فقط رحمة من كان لها مفكرة تعتبرها الحصن الحصين والقلعة المتينة التي تتعرى امامها تكشف لها اسرارها ..بل كنت انا ايضا لي قلعتي الخاصة وحصني الخاص ..ذلك كان الورق ..ورق الرسائل ..كنت اتحدث الى نفسي ..اكتبني وارسمني على الورق ..اليوم أنا على صفحات رواية عنوانها عجيب (حبر على ورق ) ..نحن ابطال الرواية ليسوا بأكثر من حبر على ورق ..دمنا ولحمنا لا يساوي شيء .. وكل تاريخنا وذكرياتنا لا تساوي شيء ..نحن ليسوا  بأكثر من حبر على ورق .

بعد أن عرفت الحقيقة ، عرفت حقيقة ذكرى ، ورحمة ، وكيف لذكرى أن تكون بهذه الذاكرة الخارقة ، شعرت بأسى عظيم ، ورغبة في النوم ، بقي من أيام الاجازة يوم واحد هو يوم الاربعاء  ..كان هو موعدي مع صديقي (سعود ) لحضور مهرجان (الكليجا ) ..رميت الرواية جانبا بغير اهتمام ونمت .

ذكرى : الرواية ،

لم اتمكن من دفن والدي ، فهما بلا قبر ، قبرهما الفضاء ، والسماء ، والبحر ..اي قبر اوسع من قبرهما ..

والدي قد ماتا بحادث الطائرة الاثيوبية  التي سقطت في  البحر عام2005( واخوتي ذهبا للجهاد في افغانستان  واحد منهم دخل معتقل غوانتنمو ، والاخر مصيره مجهول ..  ) من غرر بهم ، من افهمهم انه يملك مفتاح الجنة ، وانه هو القادر على منحهم اياه دون غيره ، عندما عاد ( فجر  ) من روسيا بعد سنوات سبع قضاها في دراسة الهندسة الكميائية ، كان متنورا ، منطلقا ، ثوريا ، قوميا عربيا ، فارع الطول ، ابيض مشرب بحمرة ، اشقر الشعر  ،  لكن كان ثمة حزن عميق في عينيه ، الجميع استغرب انتظامه في الصلاة والمواظبة عليها باهتمام ، قلت في سري انه ربما يريد ان يغسل ما ران عليه مما فعل او قال ..ولعلها مرحلة مؤقتة ..كان العمل لخريجي روسيا ..محاط بصعوبات جمة ، بل كان مجرد انك خريج روسيا تعتبر تهمة ..تهمة بمعنى الكلمة .

استمر بأداء صلواته ، كان والدي غير معجب ومتخوف من التزامه الذي بان للجميع انه متزمت ..ثم اطلق لحيته ، وحف شاربيه ، وحلق شعر رأسه ، ولبس الثوب القصير ، ثم اخذ يعتكف في المسجد ، وبات يتردد على بيتنا الكثير من الملتحين ، كان(   بكر  ) في هذه الفترة قد انهى المرحلة الجامعية ، (  طب بيطري  ) كانت امي تعلق عليه ممازحة ، ستقضي عمرك بين البقر والغنم  ..طبيب حيوانات ..فيضحك ويقبل رأسها .. ثم يتدخل فجر مذكرا الجميع بقصة المرأة التي دخلت الجنة بكلب ..والتي دخلت النار بقطة ... فيصمت الجميع حتى لا يثور .

تمكن (بكر ) من التعيين ، في وزارة الزراعة في احدى المديريات البعيدة ، مما جعله بعيدا نوعا ما عن تلك البيئة الجديدة التي فرضها (فجر ) على بيتنا ..كانت والدتي على عكس والدي ..ترى في هذا حرية شخصية ، وحصانة له من فترة العطالة عن العمل التي كانت تطول كثيرا احيانا ..وكانت تقول ..في المسجد احسن من القهوة والنادي  أو الشارع ... ثم تقول مش عارفه مين الي كان بروسيا فجر ولا انت .. وكان والدي يقول لها : انت لا تعرفي ما يدور حولك ..ثم يحتدم النقاش ..ثم يستسلم والدي كالعادة ..ويقول بكره نشوف .

مرت شهور كثيرة ، تكرر فيها غياب (فجر ) عن البيت ، الى ان جاء ذات يوم حزم حقيبته الصغيرة ، وقال  نحن خارجون في سبيل الله الى الزرقاء ..سنغيب اسبوع على الاكثر ..وخرج ولم يعد .. كانت قد اشتهرت مجموعة دينية (السلفية الجهادية ) في الزرقاء ، وظهر منهم بعض الاسماء الشهيرة ، بعض المواقع الالكترونية : تعرضت لهم وارتباطاتهم الخارجية ، منهم من ربطهم بتنظيم القاعدة .

كان بكر في عمله عندما غادرنا (فجر ) وبعد اسبوع لم يعد (فجر ) ولم  يعود (بكر )  في اجازة نهاية الاسبوع كالعادة ..

اتخذ والدي اجراءات كثيرة ، وبلغ الامن ، ومراكز الحدود ،كما عمم عنهما بالصحافة ، ومضى الامر على انهما مفقودان ..او خرجا ولم يعودا ..ولم ننتبه الى ربط خروجهما معا ..الا حينما اعلن اعتقالهما بوسائل الاعلام ..ونشرت صورهما على شاشات التلفزة العالمية .

كانا كتلك الصور التي دأبت على نشرها وكالة المخابرات الامريكية (CIA) .. طوال غيابهما لم نتلقى منهما ولو اتصالا واحدا ، والدتي ادمنت الحبوب المهدئة ..وبقي والدي محتفظا بصمته الذي كان يلازمه ، كان كالجبل الكبير العالي ، شامخا ، لدرجة ان الكثيرين كنا يقولون   : (هذا ليس بشرا .. كيف له القدرة على كل هذا .. من اين يأتي بكل طاقة الصبر هذه ) ..كنت مقربة كثيرا منه ..وكان يفصح لي ما لم يفصحه لغيري ..عرفته رقيقا شفافا ، يكاد الحزن ان يقتله ، في اوراقه وجدته ينظم شعرا نبطيا ..يبكي فيه (فجر وبكر ) ..ذكر في قصيدته النبطية انه كم كان يحلم ان يزوجهما معا ..بعد ان تمنع فجر قليلا ..وكم كان يتمنى ان ينظم لهما حفلا كبيرا ..

كنت وحيدة في بيت كبير ، في كل زاوية او ركن الالف القصص والحكايات ، ملايين التفاصيل الصغيرة ، والكثير من الصور ..كان والدي مغرما بالصور بكل ما تعنيه ..وكان مصورا ضوئيا مبدعا ، نشر صوره على موقع (FLIKER) ..وكانت التعليقات تأتي على صوره من اشهر المصورين والهواة في العالم ..ولما تحطمت الطائرة ، ونشرت السلطات الاثيوبية اسماء من كانوا على الطائرة ..رأيت الالف الرسائل والتعليقات على صفحته في موقع (FLIKER)وكذلك على صفحته على الفيس بوك ..بفضل تلك الصداقات التي كونها عبر العالم ..

كثير من التعليقات كانت تستغرب ، كيف يكون هذا الرجل المفكر والمؤلف والمترجم الكبير والمصور المحترف والسينمائي جامع الافلام  ، كيف يمكن ان يكون ابا (لفجر وبكر ) ..

حاول والدي ان يقنع قلب الام ، انه لا فائدة ، ولكنه وتحت فجيعتها التي لم تحتملها ..وبعد ان تحول البيت الى مأتم كبير ويومي ، راح ينظم اتصالاته مع اهل المعتقلين ، وبعض المحامين ، ومنظمات دفاع دولية ، وحقوقية ، وانسانية ، ثم سافر الى السودان ليلتقي بعض اولياء الامور ممن اعتقلوا في (  افغانستان )  واصبح مصيرهم كمصير (فجر وبكر ) .

وكانت الرحلة ، ثم رحلة العودة الى لبنان عن طرق الخطوط الاثيوبية ، بعد ان تعذر السفر على غيرها لضيق الوقت ، وكانت النهاية ..النهاية التي رسمت خطوط سود على مجمل حياتي .

بت ارى في يقضتي ما ارى في احلامي ، وبت لا انام الا بحبة مهدئة ، ولا اكتب الا بحبة مهدئة ، وبت اخاف من كل شيء في أي وقت ، وكان ليلي كابوسا طويلا لا ينتهي ..كانت شخصياتي التي كتبتها ، والتي ابتكرتها من (حبر على ورق ) كانها تعيش معي ، الشبان الماجنين ، المتسولين ، الرعاة ، والابطال ..الشياطين والملائكة ..كلهم كلهم  كانوا معي كما وصفتهم ..احيانا يعاتبوني ، يحاسبوني ، يعاقبوني ، ينظمون لي محكمة ، ويحكمون علي كل يوم حكم مختلف عن الاول ، ثم يامرون احدهم بالتطوع لتنفيذ تلك الاحكام .مرة حكوا علي بالاعدام شنقا ، ومرة رميا بالرصاص ..كما ذكرت عن قصة تلك الفتاة في فيلم (v for vented  ) جاء سته من الجند ..اوقفوني على الجدار ثم اطلقوا النار ..احيا كانوا يامرون بادخالي الى السجن ، فارى النفق او القبو او السجن الذي وصفته وكتبت عنه ، كل يوم حكم جديد .. وكل يوم عذاب جديد ..

كم اختزنت ذاكرتي من حزن ، وكم ران على قلبي من الم ..كنت اتابع مع الملايين من البشر على شاشة ( الجزيرة القطرية ) و  (  قناة الجديد اللبنانية  ) وهم  يلتقطون بعض الحطام من البحر بعد ايام من انفجار الطائرة فوق البحر ..

اعلنت السلطات اللبنانية انهم فقدوا الامل بالعثور على ناجين فضلا عن جثث الضحايا ..لكنهم بعد ايام بدأو بالتقاط بعض الجثث الطافية التي دفع بها الموج من مكان ماء من سطح البحر الى شاطىء بيروت ..كانت الشااشات تبث ببث حي ومباشر ..العواطف الجياشة ..والحزن العظيم ..وصوت البكاء للامهات الثكلى ..والارامل التي فجعت ..وكنت امام التلفاز كمن يشاهد اعدام عزيز امام عينيه .

بعد مدة ليست بقصيرة ، وبعد ان انتهت عمليات البحث ،  بصعوبة تمكنت من اقناع نفسي بان تغيير القناة .. (الجزيرة والجديد ) ليست خيانة لذكرى الدي ووالدتي ..على امل ان اتمكن من مجابهة مصاعب الايام القادمة ..مارست بعض نشاطاتي كما كنت احب ان افعل ..وانا اقنع نفسي ان الحياة يجب ان تستمر ..لكن صوت ما كان يعاتبني ..يعنفني ، يعذبني ، وكانت الحبوب المهدئة هي اسهل طريق ..

اثناء بحثي في اوراق البيت الكثيرة ، لاننا كنا اسرة تعشق الورق ..فامي كانت محامية وتكتب مرافعاتها بلغة راقية ، ووالدي كان مترجما ومؤلفا ، وانا ما انا عليه من عشق للحبر والورق ..ففي كل ركن اثر لحبر وورق ..وجدت في درج والدتي اوراق في مغلف ..كانت تراجع طبيبا نفسيا ..قرأت الوصفة الطبية ..في رأس الوصفة ..عيادة الدكتور ( رحيم البطل ) ..عرفت رحيم ..تذكرته .. قفز اسمه من الورقة امامي بشخصه ووصفه ، هو طبيب (رحمة ) ورحمة ذكرت  في مفكرتها انها صادفت  والدتي في المبنى الذي تقع فيه عيادة الدكتور ( رحيم البطل ) ... تذكرت ( رحمة)..حينما كانت تقول ..هو بحاجة الى من يساعده ..ومع ذلك ..فكرت ان ازوره ..واشرح له ما اعاني ..فلعلني اجد عنده ما يريحني ، سجلت رقم هاتفه النقال على هاتفي وخزنته باسم رمزي ..

قلت لنفسي ، انا لست احسن حالا من والدتي ، ولا رحمة ، ولا والدة محمد اقبال ..وانا اشجع نفسي على زيارته ، قلت احجز عنده في وقت يكون فيه متفرغا ..هاتفته ..رد على الهاتف من الرنة الاولى ..

قال بصوت متهدج ..متردد ..نعم ..

قلت ..دكتور ( رحيم البطل ).

 قال نعم . .

قلت .. اود حجز موعد ..موعد في ساعة متأخرة ..

قال : تودين السرية ...

قلت : انت متفهم جدا دكتور ....

قال ..هل يناسبك الساعة الثامنة  من مساء اليوم  ..

قلت اليس هذا موعدا  متأخرا ..

قال : هو موعد مناسب لضمان السرية والخصوصية ..ثم كانه استعاد بعض قوته ..هل نتشرف بالمعرفة ..

قلت : ( سلمى بلسم )

قال : اهلا سلمى اسم جميل ..

قلت الى اللقاء ..واغلقت الهاتف .

 

قرأ الدكتور رحيم البطل في صفحة مذكرات رحمة الصفحة المعنونة تلفيقات رحمة ..

لم تسعفني الذاكرة أن اقول كل ما اعرف للدكتور رحيم البطل ، كانت حياتي حياة عادية بطفولة بائسة منسية ، لا أكاد اتذكرمنها ما يلقي ضوء ولو يسير على حياتي ، تذكرت ذلك وانا اجلس على المقعد امام الدكتور ، صمت لفترة طويلة ، ثم أخذتني لحظة كنت فيها أضعف ما أكون ، اعرف هذه الحالة عندما تجتاحني ، ثم اجهشت بالبكاء ، بكيت بعنف ، أخذت انشج ثم غلبتني حالة السعال التي اعاني منها بسبب الربو ، فوجدت الدكتور رحيم يبحث في حقيبة يدي عن البخاخ ، ناولني اياه ، تناولت جرعة سريعة ، ثم اخرى ، ثم رأيت الدكتور رحيم يبكي خلف مكتبه ، وقد وضع نظارته جانبا ، رفعت رأسي كانت صورة امرأة حاسرة الرأس بشعر اشقر خلفه تماما ، لا ادري كيف لم انتبه طوال زياراتي المتكررة له لهذه الصورة ، اقسمت بسري انني أول مرة ارى هذه الصورة ..ولما سألته قال أنها صورة والدته ، وانها قديمة وقد علقها منذ أن اسس عيادته اول مرة ، اهدته اياها والدته مع تجهيزات العيادة التي كانت بدعم وتمويل كامل منها ..

لم تسفني الذاكرة ان اجيب على الاسئلة كافة ، خاصة فيما يتعلق بطفولتي ، فرحت اختلق له حكايات وقصص اختلاقا ، يومها قلت لنفسي  ربما أكون اقدر من (ذكرى ) على القص .. ها أنا اختلق قصة يصدقها الدكتور رحيم بلا أدنى ريب أو شك ..طلب ان نتوقف عند هذا الحد ، على ان نكمل في الجلسة التالية ..

نهضت ، سحبت  الستارة عن النافذة  المطلة على الشارع ، كانت غبشة المساء تضفي كآبة اعتيادية على الشارع الذي كان يخلو من المارة في مثل هذا الوقت ، حيث تقفر المدينة مبكرا ، ويسود الصمت ، كالعادة كانت سكرتيرة الدكتور قد غادرت مبكرا ايضا ، عندما يكون موعد جلستي المسائية ، ادخل ولا يدخل بعدي أحد ، دلفت الى المطبخ صنعت كوبا من القهوة ، قسمته قسمين ، دخلت الى غرفة المكتب كان الدكتور في حالة يرثى لها ، ناولته كوب القهوة ، اخذه دون أن ينظر الي .. قال ..قصتك قصة حزينة .. قلت وقصتك ربما تكون أكثر حزنا ..

قال : هل حقا تم اعتقالك عام 1986 في احداث الجامعة ..

قلت : لا

قال :  ولكنك قلت لي انه تم اعتقالك .

قلت لا لم أقل هذا ابدا .. ولم يتم اعتقالي ، ثم خطر لي كيف اقول هذا بكل هذا التأكيد .. فأكثر ما قلت للدكتور هو محض كذب ، فلربما قلت له ذلك ، سرحت قليلا .. وفجاة سمعت صوتي .. ثم أدار جهاز اللاب توب نحوي وقال اسمعي .. ظهرت صورتي وسمعت صوتي ..بعد قليل .. سمعت صوتي من جهاز اللاب توب  يقول :

صح ، عام 1986 تم اعتقالي مع مجموعة من الطلبة ، بعد ليلة  صاخبة في جامعة اليرموك .. انا كنت في السكن الداخلي ، ولم اتمكن من الوصول الى السكن ، حيث اجتاحت قوات البادية الحرم الجامعي ، ولكني لم امكث في الاعتقال الا ساعات في المركز الامني ..بعد أن تأكدوا أنني من طالبات السكن الداخلي .. ضغطت زرالتوقف ، ثم ادرت اللاب توب نحو الدكتور ووجدت أن احسن طريقة للدفاع هي الهجوم بعد أن اسقط بيدي ، وظهر كذبي علنا ، فماذا اقول ..وقفت وصرخت بوجه الدكتور :

من سمحلك ان تسجل صورتي وصوتي ، ثم ماذا سجلت بعد ، هل سجلت لحظات بكائك ، هل سجلت كل تلك الجلسات ، هل تسجل كل جلسات مرضاك ، أم هي هي جلساتي فقط ..

شعرت أنني تمكنت منه ، اوقعت به ، فلا مناص ، ومالاعليه الان الا أن يتجاوز عن هفوتي ، تململ في مقعده ، رأيت شعيرات ذقنه كانها ابر ، احمر وجهه ، قال بنبرته المعروفة ، كان يتصنع  القوة والرزانة ، قال بصورة الواثق :

لنوضح الامر : لعلك لا تعرفي أن من اساليب المتابعة للمريض أن نسجل له اقواله ، واعترافاته ، لنتمكن من ربطها معا ولنلقي نظرة على ماضيه لنعرف حاضره ، وهذا اجراء قانوني ، لا ادري كيف شعرت ان الموقف انقلب فجأة ضدي ، لكني تراجعت عن الصراخ ، قال لي ذات مرة :

ضعيف الحجة على الاغلب عالي الصوت ، كثير الكلام ، تذكرت المقولة ، كان ثمة من قرأها على سمعي ، تراجعت ، وتحصنت بالصمت لفترة قبل أن اتابع بهدوء ..حاول ان يخفف الوضع ..يهدء الموقف ..قال وهو يرتخي على مسند المقعد براحة تعجبت من أين أتته ..حتى شعرت أنني لا اعرفه على النحو الذي ادعيه ..قال :

بعض الاشخاص ، يحبون أن يكونوا مناضلين وثوار ، فيختلقون حروبا وثورات انتصروا بها اختلاقا ، ومنهم من تكون هذه حالة مرضية عنده ، ولقد رأيت الكثير من هذه الحالات في الحياة قبل أن أراها في عيادتي ..فثمة شخصية كبيرة ، كانت على الدوام من اركان النظام القائم ، ومن ركائزه القوية ، بل استلم مديرا عاما لاشد الاجهزة حساسية في البلاد ، ولما تقاعد او اقيل او تم الاستغناء عنه راح يصور نفسه على انه معارض ومناهض لسياسات الحكومة  تلك السياسات التي رسم خطوطها الدقيقة ، في مقابلاته التلفزيونية والاذاعية والصحفية ، ذكر صدامه مع النظام والحكومة ، وذلك لمصلحة الشعب ، ثم حاول أن ينشىء حزبا سياسيا معارضا ، ورأيته في المسيرات والمظاهرات الاحتجاجية ضد سياسات الحكومة ..

نظرت الى الدكتور وهو يتكلم بحماس وثقة ، اعترف انني اعجبت بكلامه قلبا وقالبا .. رضيت بالنتيجة النهائية التي وصلنا اليها ، شعرت اننا ابتعدنا قليلا عن تلك الكذبة التي كذبتها ، وامعانا في هذا رحت ارسم طريقا قلت اقود الدكتور خلالها بمكر لنبتعد أكثر ..فقلت له :

لكن الناس تعرف الحقيقة ..وهذه الشخصية التي تكلمت عنها ، ليست الشخصية الوحيدة ، بل سمعت أن الحكومة هي رسمت خطوط وخطوات هذهى الشخصيات لتكون متنفسا للشعب ، يعبروا من خلالها عن غضبهم ..تعبيرا صوتيا ، أنت تعرف أنه مضى ردحا من الزمن لم يكن فيه الكلام مسموحا ..فهؤلاء هم صنيعة الحكومة ...استدار أطفاء زر الكمبيوتر الذي بجانبه ، استند على مكتبه وقال :

ربما ، ولكن على كل حال هؤلاء نسجوا من القصص حول بطولاتهم ما يغري الناس بتقليدهم حتى ولو على نطاق ضيق ، فالثورة كما الثروة تغري ، ربما من غير قصد بل من المؤكد ان ما خططت له الحكومة من خلق معارضين لها كما تظنين ، خلق من غير ارادتها معارضين فعليين حقيقيين ، بسبب البيئة الحاضنة لمثل هؤلاء ..ولا يخفى ما يحظى به هؤلاء المعارضين من تأييد شعبي واسع ، في حين بقيت الشخصيات الاولى تراوح مكانها ..

قلت ، خطأ ..غلط ..

قال كيف ؟

قلت : الكثيرمن المعارضين الذين يحظوا بتأييد الشعب كما تقول ، والذين تشجعوا بعدما رأو ا تلك الشخصيات تتجرأ وتتشجع .. الكثير منهم لم يفوزوا في الانتخابات البرلمانية والبلدية والنقابية ، وان كان حصل فلقد حصل على نطاق ضيق ومحدود ، وهذا أن دل فانما يدل على انهم لا يحظون بتأييد الشعب ..بينما الشخصيات تلك هي من يحصد الفوز ويعتلي المناصب ، ثم يستغلونها لتكون منابر لعرض بطولاتهم ، وقدراتهم الخطابية ، ويقدمون خدماتهم ... وللعالم بصورة ترضي العامة من الناس ..وهذا يؤكد ما قلته اولا من انهم صنعة الحكومة ليكونوا متنفسا ..

قال ولكنك نسيتي عامل مهم وكبير ، وهو عامل المال ..

قاطعته .. المال السياسي ..تابع مؤكدا المال السياسي .. ومن ينكر ذلك احمق ..

قلت ..انا اول الحمقى ..ضحك وقال ..ولهذا انت هنا في عيادة الامراض النفسية ..وتابع ضحكته مما دفعني للضحك ، كم بعت صوتك ، ثم اخذ يضحك ،  تجاهلت سؤاله الماكر ، ولاحظت نشكيكه بأقوالي ، قلت ربما الان في هذه الجلسة وضعت حدا نهائيا لتصديق وثقة الدكتور ، ربما كانت تلك الهفوة هي الهفوة التي ستفتح طاقة من الهفوات الكثيرات ، ربم ستفتح بابا كباب الكهف الذي يفضي الى الكنز ، ولكنه سيفض الى سلسلة الاكاذيب التي لفقتها ، سيكتشف انه التي امامه محض كذبة ، محض كذبة تناسلت سلسة غير متناهية من الاكاذيب ..ثم سيشعر انني خنته وغدرت به ، وسأكون خائنة وغادرة ايضا .

كل تلك الثقة التي منحني اياها ، وكل تلك المحبة والصداقة التي تعدت علاقة الطبيب بمريض سيكتشف انها لم تكن في موضعها الصحيح ، سيشعر بانه غرر به ..كان الخوف من أن يحدث مثل هذا يراودني منذ أن تفاجأت باكتشاف كذبتي حول قصة اعتقالي عام 1986 على خلفية احداث الجامعة .. مرت هذه الافكار بلمح البصر في خيالي ..وقفت ،تناولت حقيبة يدي ، وقلت باي ..وخرجت دون ان انتظر ردا .

 

كانت الشوارع مقفرة من المارة ، ورذاذ تشريني يرش الارض رشا ، مررت من تحت مظلة  أحد المحلات  فنزلت علي زخة من المزراب ، حثث الخطى نحو شقتي ، وأنا اشعر باحباط شديد وشيء غريب يشدني للاسفل ، فقررت أن أقضي باقي اليوم في السجن الاختياري ، ولهذا تجاهلت الرد على الهاتف الذي رن أكثر من مرة ، ثم ضبطته على وضعية صامت ..فتحت التلفاز واحتظنت كيس مستر شبس ورحت اتابع بلا رغبة الصور المتلاحقة .. قلبت المحطات بلا اهتمام ورغبة ..اخيرا ثبتها ..الجزيرة الوثائقية ..

تناولت مفكرتي وكتبت في اعلى الصفحة :

انكشاف السر ..كتبت التاريخ واليوم  بجانب  كلمة السر ..

ورحت أدون بآلية دون تدقيق كل ما حصل معي لهذا اليوم ، كانت مفكرتي هي صديقتي الوحيدة ، هي ما يربطني بهذا العالم ، هنا أبوح لأم لم اعرفها ، ألجأ إلى أب مجهول ربما يكون في عالم الاموات أو ربما في عالم الأحياء ..لا فرق عندي ..لكني هنا أختلق شخصية وهمية أسمها أمي ..أخرى أكثر غموضا هي أبي ..كانت هذه المفكرة هي حصني وقلعتي التي ألوذ بها أحتمي من عواصف كثيرة ..

هنا أكون صادقة كما لم أكن يوما ، فلن أخشى من لسان سليط أو عين متطفلة ..هنا أكون على سجيتي ..هنا أكون أنا كما أنا فعلا ..

 

 

 

رحمة ..والدكتور (رحيم البطل )..

عدت للتو من عند (الدكتور رحيم البطل ) طوال الطريق الى الشقة اللعينة ، كنت استرجع جلسة اليوم ، استلقى ( رحيم ) على الكرسي الطويل ، بعد ان قمت انا ، ظننته يريد ان يتمدد قليلا ليستريح ، كان اليوم يبدو مجهدا اكثر من اي يوم آخر رأيته فيه ، كانت موسيقى السمفونية الخامسة  ( لبيتهوفن ) تتهادى بصوت خافت من جهاز اللاب توب ، الستارة الصفراء الباهتة مسدلة بكثافة ، من بين الشقين يظهر خيط شاقولي من الضياء كسيف مصقول ، كنت اغرق في الكنبة الجلدية ذات اللون البني المحروق ..

مشيت في الشارع الطويل الخالي من المارة ، في مثل هذه الساعة تقل الحركة ، تموت المدينة ، عبرت زقاقا ضيقا ، يحاذي جدار سينما الفردوس ..التي باتت مهجورة ، في مقابل الزقاق ثمة خمارة ، كان بعض السكارى يرتادون هذا الزقاق طلبا للخصوصية ..تعثرت ببعض الزجاجات الفارغة ..عبرت الزقاق بسرعة ، التففت نحو البنك الاسلامي ، على الزاوية ينتصب مبنى ضخم (مركز امني ) على بوابته رجل مسلح بلباس الامن العام ..

اوقفت تكسي ، قلت : الحي الشرقي ، حديقة تونس ، كانت المسافة ليست بقصيرة .. لا اعرف لماذا كذبت بشأن تاريخ ميلادي .. قلت (للدكتور رحيم البطل ) انني من مواليد برجه (الجوزاء )..شعرت بالندم الشديد ..ثم سألت نفسي ماذا كسبت من هذه الكذبة .. كأني كنت احاول ان اخفي الحقيقة الكبرى في حياتي ..فانا بكل اسف لا اعرف تاريخ ميلادي الحقيقي ..كل ما اعرفه ما سجله احدهم في قسيمة الميلاد ..لا اعرف كيف خمن التاريخ ، او كيف كتبه ، هل كنت اكبر او اصغر ..بيوم اسبوع شهر .. فانا لا انتمي الى عالم الابراج ..فليس لي برج ..كما ليس لي تاريخ ميلاد ..وكل ما دار حول التاريخ الكاذب 15/11 هو محظ كذب ..

ذهبت الى (الدكتور رحيم البطل ) اشكو همي ، ابوح بمكنوناتي ، اجد من يسمعني ، فوجدته باشد الحاجة الى من يسمعه ، كان مهزوما داخليا ..منهارا ..لا ادري كيف انفجر في نوبة بكاء عنيف ، كان يقص قصته  بسلاسة وهدوء ثم فجأة انتابته نوبة البكاء ..كان يخفي عيناه وهو يبكي ..ثم بلا اردة مني شاركته تلك النوبة ، فبكينا معا ...

بعد اجهاد شديد ، سكن ، شعر بهدوء ، وانا شعرت براحة عجيبة ، كانت مساعدته قد اعتادت ان تغادر في ساعة محددة ، قبل ان اصل بقليل ، اعددت له كوبا من العصير ، ثم كوبا من القهوة ، قلت له ..اقرأ لك كفك ..شعرت للحظة بانه علي ان اسري عنه .فلطالما سمعني وسرى عني ..كنت اعتبره مستودع اسراري ..مد يده ..رحت ابتدع ما احفظ من كلمات الابراج ..تلك الكلمات المنشورة بالصحف اليومية ..قال: (   يبدو انك منجمة ايضا ، عالمة فلك ، هل تقرأين الفنجان وتكشفين الطالع  ) ضحكت .. قلت له انني اقرأ الطالع في الفنجان والكف ايضا .. سمعت صوت صرير العجلا ت عند الاشارة الضوئية ..لما توقف السائق فجأة ..انتشلني من بئر الافكار .. نظرت حولي ، كانت اشجار السرو المحيطة بالحديقة تظهر من بعيد ..

بغير رغبة ولا شوق كالعادة ، دخلت شقتي ، كانت الفوضى بكل مكان ، كأن حربا كونية دارت هنا ، لكن كان الصمت يفرض نفسه بجبروت طاغ ، ليعلن ان لا احد هنا ، فانا لا احد ، لم اشعر يوما بالانتماء لهذه الشقة ، مثلما لم انتمي لاي مكان آخر ، هو مكان وحيد اشعر به براحة على نحو معين ..الشارع ..بين الناس ..ربما كان الشارع مكاني الذي استحقه وربما هو موطني ..وربما راحتي التي اشعر بها فيه تحتم علي ان انتمي له ..فلا عجب ان يصنف بعض الناس احدهم على انه (ابن شوارع ) انا ابنة الشارع بامتياز ..ولا يستطيع احد ان ينافسني في هذه الميزة ..ولكنني جبانة ..خائفة بما يكفي لان انكر ذلك ..وان اخفي تلك الحقيقة المرة عن العالم باسره ..

في شقتي ، حيث تتجلى عذاباتي الكثيرة ، حيث تلوكني بتلذذ عجيب ، وانا استسلم لها بخنوع ليس له مثيل ، كان ثمة طاقة انفذ منها ، كما ينفذ ضوء النهار من بين الغيم ، كانت مفكرتي الحبيبة ، صدري الحنون ، مستودع اسراري ، الاذن التي تسمع بلا كلل ولا ملل ولا تذمر ..وفوق هذا كانت امينة اسراري ، وحافظة عهدي ، ابوح لها ، احدثها بما حصل معي في هذا اليوم .وكل يوم ..

لم تكن مجرد مفكرة ، حبر وورق ، كرواية (ذكرى ) بل كانت حياتي كاملة ، كانت تاريخي ، واحلامي ، صدقي وكذبي ، حقيقتي ، وزيفي .. لميزة العلاقة التي ربطتني  ( بالدكتور رحيم البطل ) وتفردها ..افردت له بابا كاملا ..ورحت اضع لكل صفحة عنوانا مميزا ..

فتحت صفحة جديدة : كتبت في رأس الصفحة – تبادل الادوار – ثم كتبت :

لم اكن اتوقع كل ما حدث ، كيف انقلب الوضع بسرعة وبقوة ، لكن بسرعة وبقوة ايضا تمكنت من قيادة المرحلة الجديدة ، تسلمت زمام الامر ، وبسرعة وقوة ايضا فهمت ابعاد نفسية (الدكتور رحيم البطل ) هو كان بحاجة الى من يبثه همه ، ان يبوح بحميمية لمن يثق به ..كان مهزوما منهارا من الداخل ..كان هيكلا كرتونيا ، مفرغا  اجوفا ...لكنه كان يكابر ويخفي ما به امام الناس .. لست اعرف هل بث حزنه وهمه الى غيري ..ام انني من تميزت بهذا ..كان طبيبا نفسيا عاديا ، لم يكن مشهورا ، زبائنه قلة قليلة ..

ثمة امر استغربته ، كان ( الدكتور رحيم البطل  )  يتقلب بين حالة وحالة ، ولا يستقر على حالة واحدة ، فلما وجدني انوي الانتحار ، اخبرني  ذات مرة انه ينوي الانتحار ، ومرة  اخذ يشكو من الوحدة لما اخبرتة بقصة وحدتي ، وفي احيان كثيرة كان يتقمص حالات مرضية كحالات مرضاه المختلفة ..

على رف خزانة صغيرة ذات خشب باهت ، ثمة الكثير من الكتب ، كنت قد وضعت روايات وقصص ( ذكرى ) في رف خاص ، بجانبها كانت تصطف مجموعة هداياها (مجموعة من  mug  )  التي تلقيتها منها بمناسبة عيد الميلادي الكاذب الوهمي ..ربما هذا ما تمكنت ان اخفيه عنها ..هذه هي الحقيقة الوحيدة في حياتي ..

فتحت صفحة (ذكرى ) وجدتني قد كتبت عنها اكثر من صفحة ، فتحت صفحة جديدة ..وكتبت بخط كبير (ذكرى الكاذبة ) ..ذكرى فتاة مدللة ، وحيدة بين شابين ، مكنها وضع والديها المادي الميسور من ان تعيش حياة مريحة ، بل وان تحصل على كل ما كانت تطمح اليه ، كانت قارئة من الطراز الاول ، ومتابعة للاحداث بشكل كبير ، لا يصيبها الملل ، عندما تتحدث تتحدث بالارقام والتواريخ والاسماء والتفاصيل الدقيقة ، ثم كانها توثق ما تقول تعيد السامع الى مرجع او كتاب او موقع على الشبكة العنكبوتية ..كانت تتقن فن الحديث كما تتقن التذكر ، كانت تعرف الكثير من القصص والحكايات والمعلومات ، كما كانت تعرف الكثير من الاشياء عن اي شيء .. تتحدث في التاريخ كما تتحدث في الدين والفن والسياسة والاقتصاد والعلوم العسكرية .. الى ان جاء يوم .. عرفت انها مجرد كاذبة ..

يومها كنا في امسية  شعرية ، اعقبها نقاش حاد ، تدخلت ذكرى في اكثر من مداخلة ، حتى ان النقاش كاد ان يكون نقاشا ثنائيا ..انتهى النقاش وجلسنا في قاعة المنتدى الثقافي  مع مجموعة من الاصدقاء .. وتناقشنا في امور كثيرة ..طبعا كان لا بد لذكرى الا ان تكون طرفا كبيرا مؤثرا ومهما في الجلسة ..رحت ادون دون علمها ما تقول ..وتلك المراجع التي توثق  فيها اقوالها ..

كانت ذكرى معتمدة على ان الناس يعتقدون انها تعرف كل شيء ، ذلك انهم لا يعرفون ، فكانت تستغل هذه النقطة ، فتقول ما تعرف وما لا تعرف ، اكتشفتها ..كان يكفي ان تقول القليل من الارقام والنسب المؤية وتذكر بعض الدراسات ، والابحاث ، وتذكر بعض الاسماء الكبيرة اللامعة ، ثم تعيد السامع الى المراجع التي لم يكن يخطر ببال احد منهم ان يرجع اليها ، فيتفرق الجمع وهم يثنون على حجم معلوماتها وقوة علمها وفطنتها ..

عدت الى ما ذكرت من  تلك المواقع المعلوماتية ، راجعت الارقام والنسب المؤية ، تابعت سرد المعلومات ، لم يكن ثمة توافق على الاطلاق ، ولم يكن هناك من رابط بين ما قالت وما ذكرت من مواقع .. كانت كذابة كبيرة ..

تعمدت ان افضح كذبها ، قلت في الجلسة القادمة سافضح كذبها ، ولكن حالما التقينا صافحتها ، وتعانقنا ، ومضينا الى الامسية القصصية في رابطة الكتاب ، وقد نسيت كل كذبها ، لا بل تجاهلته ،  وقلت ما يضرني كذبها او صدقها ، بعد القراءة ، جرت مناقشة للقاص ، كان شابا يساريا ، ضمن قصصه بعض افكاره الشيوعية ، وبعض الاسماء والمدن الروسية ، كان  حاد النقاش ، جريء لدرجة الهوج .  قالت ذكرى :

لم تكن الشيوعية بدعا من الافكار ، ولم تكن الاشتراكية فكرة وليدة عقل بشري وحيد ، كما لم يكن ماركس ولينين هما اصحاب الفضل الوحيد على البشرية في انتشار هذا الفكر ..الذي اراه فكرتا تنويريا ثوريا ، كما ارى انه فكرا يصلح لمجتمعاتنا العربية اذا ما تمت صياغته وتكيفه بما يتناسب وثقافتنا ..

رد القاص (صقر الحمود  ) الشيوعية والاشتراكية سيدتي على الرغم من قابلية تطبيقهما في مجتمعاتنا العربية ، الا ان شعوبنا العربية غير قابلة لتطبيق الفكرة ..حيث تصدم بالعقل الجمعي العربي ، وعقدة العقيدة ، حيث تمكنت الانظمة العربية من تشويه صورة الشيوعي العربي ..

من خلفي انا وذكرى ، كان شاعر من رواد الرابطة صامتا ، وقف فجأة  ثم قال بسرعة كلمات خرجت كانها تيار ماء متدفق بقوة :

ماذا قدمت الشيوعية والشيوعيين العرب ، كل ما قدمت كان عبارة عن تشويه صورة العربي المسلم والمسيحي ايضا ، قمتم بمسخ الصورة ..ان التغريب ، تغريد خارج السرب ..ولا زال شعار الاسلام هو الحل هو الشعار الاكثر فعالية ، والشعار الذي لا يزال يحظى بالقبول عند عامة الناس .

وقفت ذكرى ، لم تكن ذكرى شيوعية ، ولم تكن يسارية ، ولم تكن مسلمة ملتزمة ، كنت اعتقد تنها بلا هوية دينية محددة ، كما هي بلا هوية سياسية ، هذا ما كنت اعرفة ، لكن فجأة يكاد يظن من يسمعها انها اكبر شيوعية ، وانا تكاد تكون منظرة كبرى للفكر الشيوعي ، كنا نعرف الكثير من رموز الحزب الشيوعي الاردني ..وكان الكثير منهم يتوافد على النشاطات المختلفة .. وقفت ذكرى وقالت بحماس :

ان ما تحظى به اليوم مجتمعاتنا العربية من ديمقراطية كان بفضا أنات والالام الكثير من رموز الشيوعين الذي ناضلوا من اجل الانسان والوطن والحرية والديمقراطية في الوقت الذي كنتم فيه في سبات عميق ..

التفتت الى الخلف ، حيث كان الشاعر يشرع بالجلوس ، ثم اردفت ..انظر الى البلاد العربية التي اتخذت النهج الاشتراكي ، وانظر الى حجم التنمية فيها ..انظر الى منحنى التقدم ..

قال الشاعر وهو لا يزال جالس ..نعم ولكن على حساب الانسان ، وقمعه ، فهل ينكر احد ان تلك البلاد التي ذكريتها ما هي الا انظمة دموية ،  استبدادية ، لا قيمة للانسان فيها ، بل يمكن ان تكون قيمة الالة والانتاج هي الاولى ...

دون ان تلتفت ، قالت ذكرى بثقة ، كانها تحفظ ما قالت عن ظهر قلب :

ثمة تقرير صادر عن اللجنة العلمية لدراسة الشخصية الاستبدادية في امريكا عام 1950 ..يوضح العقلية الاستبدادية ..يقول : ان الاستبداد ظاهرة تعويضية . فتتوفر (الشخصية المستبدة ) بشكل عام في الاشخاص فاقدي الثقة بانفسهم ، الذين لم ينجحوا ابدا في تكوين شخصياتهم تكوينا متكاملا مستقرا . يدفعهم النقص الذي يشعرون يعرفونه من انفسهم الى محاولة تعويضه في العالم الخارجي .

فهم عندما يستعملون العنف ضد اية محاولة تغيير اجتماعي بحجة الدفاع عن استقرار النظام القائم ، يدافعون في الحقيقة عن ذواتهم التي تفتقد الاستقرار النفسي .. ( تذكرت هنا انني سمعت هذا الكلام من الدكتور رحيم ، عندما قلت له انني لا اثق باحد ولا انتمي لاحد ولا لاي شيء ولا لاي مكان في هذا الكون ) تابعت ذكرى كانها تقرأ من كتاب مفتوح امامها ، شجعها على الاستمرار الصمت الذي فرض نفسه على القاعة .. يؤدي هذا الى نزوع عدواني مختلط بالحقد على كل من لا يوافقهم في الرأي او يتميز عنهم خاصة اولئك الذين يتميزون بالمبادىء والقيم التي تشكك في سلامة النظام الاجتماعي او تتطلع الى تطويره .

من هنا ينحاز المستبدون دائما الى القوى المحافظة الرجعية اذا لم تكن ثمة مخاطر تهدد بتغيير النظام . احدهم كسر الصمت حينما سعل ، انتظرت ثم قالت : فاذا ظهرت تلك المخاطر يصبح نزوعهم العدواني اكثر شراسة ويتحولون مباشرة الى (فاشست ) وهم عندما ينشئون احزابا فأما ان تكون احزابا ارهابية وأما ان تكون من الامعات من الناس ضعاف الشخصية .

استندت ورفعت جذعها ، انتصبت ، ثم بثقة قالت .. هذا نص من كتاب الاستبداد الديمقراطي .. (للدكتور عصمت سيف الدولة )

وقفت صبية شقراء ، كانت قد قصت شعرها كقصة الرجال ، ليس لاستبداد سيدتي وطن ولا دين ، فقد يكون الشيوعي مستبدا كما قد يكون الرأسمالي ..وما يحكم ذلك ظروف البلد وحكمة القيادة ..

لم يلفت انتباهي كل هذه المجادلة ، ما لفت انتباهي فعلا هو قدرة ذكرى على التذكر ..كانت كانها تقرأ من كتاب مفتوح ، تذكرت كذبها الذي اكتشفته حينما عدت الى المراجع التي ذكرتها ، قلت لعلها اخطأت .. دونت اسم الدكتور ( عصمت سيف الدولة ) ودونت اسم الكتاب ..

افترقنا ، في المساء رحت ابحث في الانترنت عن كتاب  ( الاستبداد الديمقراطي للدكتور عصمت سيف الدولة ) لم اعثر له على اثر .. خطرت ببالي مكتبة جامعة اليرموك ..  دخلت المكتبة .. في البهو الواسع ، بحثت عن العنوان الكترونيا .. ظهر اسم الكتاب والمؤلف والقسم والرف الذي يوجد به الكتاب .. صعدت الى الطابق الثاني .. اخذت الكتاب ..كنت في لهفة لان اعرف صدق (ذكرى ) ..في الحقيقة كنت اتمنى ان تكون كاذبة ..لكن المفاجأة كانت اقرب مما اتصور ، كانت الصفحة الاولى ..حيث قرأت ما قالت (ذكرى ) كانت صادقة ... تهت بين صدقها وكذبها ..

خرجت من بوابة الاقتصاد الغربية ، دفعني الجوع نحو مطعم كنتاكي .. تناولت الوجبة بشهية كبيرة ، ثم تمشيت في شارع الجامعة ،قبل ان اعود الى السجن في شقتي .

 

 

صباح اليوم الثالث في الرياض .... محمد اقبال

حزمت امتعتي ، جهزت اوراقي ، وبت مستعدا لتسليم الغرفة قبل الساعة الثانية عشرة ظهرا ، اسرعت الى مكاتب الشركة ، كان ثمىة رسالة لي عند مكتب السكرتاريا ، تناولت الرسالة ، كانت من السيد مدير المشاريع يعتذر فيها عن استلام الخطط والاقراص حيث غادر مكاتب الشركة لعمل هام ، ثم كتب ملاحظة يمكن تسليم المشروع الى السكرتاريا اذا احببت أو أن أنتظر لثصباح اليوم التالي في الموعد نفسه ..اخرجت ملف كنت قد جهزته ، كتبت عليه :

لعناية السيد مدير المشاريع الموقر .

ناولته للموظف خلف الكاونتر ، ثم غادرت بسرعة ، شعرت بسعادة ان اختصر الوقت ..ها أنا اغادر مكاتب الشركة ، انزلق في حافلة صغيرة ، تعمل على خط البطحاء الدرعية الجديدة . صدمتني رائحة الركاب الغريبة ، فكرت أن انزل بعد أن ركبت ، لكن الحافلة تحركت بسرعة ، فقبلت بالامر الواقع ورضيت .. الى أن وجدت نفسي في البطحا ... نزلت تناولت طعام الافطار فول وخبز تميس ..اثناء الافطار رحت استعرض الصور على اللاب توب ..كانت صور كثيرة رائعة ..قلت اختار منها مجموعة لمعرضي القادم .

تجولت في الازقة القديمة ، التقط بعض الصور ، وحقيبتي الصغير على كتفي ، ساعات الصباح الرائعة وبداية الحركة التي دبت في  المدينة كانت تثير مشاعر شتى ، الرياض مدينة عالمية ، يتمازج فيها الناس بتناغم عجيب ، تفتح ابوابها للجميع كأنها تفتح قلبها ..تحنو عليهم .

لا اعرف كيف مضى الوقت سريعا بل سريعا جدا ، لدرجة أنني تسيت تناول طعام الغداء ، الساعة الثالثة والنصف ، موعد انطلاق الحافلة بعد نصف ساعة ، توجهت لموقف سابتكو، قدمت تذكرة العودة الى الموظف الفلبيني ..فارشدني الى الحافلة ..جلست في قاعة الانتظار ، سمعت صوت الموظف ينادي عبر مكبر الصوت باللغتين العربية والانجليزية :

على جميع ركاب رحلة القصيم (عسير ) رقم 3653 التوجة الى الحافلة رقم 78585485 .. صعدت الحافلة واتخذت مقعدي بجانب شاب سعودي انيق كان يعبث بهاتفه الخلوي ..وبيده علبة بيرة ..فما أن جلست وسلمت حتى بادرني بكلمة تفضل ، وناولني علبة بيرة (بربيكان ) ..وهو يقول بنكهة التفاح ..

صباح اليوم الثاني في الرياض..

اتصلت هاتفيا بمقر الشركة الرئيس في الرياض ، أكدت موعد المقابلة ، عبرت بسيارة من فندق الخزاما شوارع الرياض ، سائقي الهندي يتقن اللغتين العربية والانجليزية ، كان غطاء رأسه جميلا ، ملونا  ، انيقا ، تبادلت معه اطراف الحديث ، باللغة الانجليزية ، قلت له أنا فلسطيني من الاردن ، ونحن في الاردن نعرف الكثير عن الهند من خلال الافلام السينمائية  الهندية ، ولما رحت أسمي له بعض كبار النجوم في الهند ، تعجب ، ثم تطرقنا للحديث عن استقلال الهند ، ودور غاندي في هذا ، وسياسة غاندي السلمية ، كان مهندسا الكترونيا من طائفة السيخ ، وكان يضع قلادة عليها علم الهند ، ومن تحتها ايقونة لغاندي ، وصوت اغنية هندية  رائقة عبر سي دي تلطف الجو داخل السيارة المكيفة .

دخلنا  الى شارع الثلاثين في منطقة العليا الفخمة ، مر بجانب الكامب الامريكي ، تجاوزنا بعض الفلل ذات اللون الابيض التي يعلوها  القرميد الاخضر ذات النمط الواحد ، توقف عند الاشارة الضوئية بسلاسة ، كانه لم يكن على عجلة من امره ، بهدوء عجيب كان يقود السيارة ، لاحظت من خلال عملي تلك الصفة الرائعة عند الهنود ..صفة الهدوء ..والتأني ..والطاعة المطلقة والتفاني في الخدمة ..والادب الجم . كان صف طويل من السيارات أمامنا ، نظرت الى الساعة ..كانت تشير الى التاسعة والنصف تماما ، رفعت رأسي الى مد بصري ...كانت لوحة اعلانات ضخمة  لمكتبة جرير الشهيرة ..ثم مكتبة جرير نفسها ..تعالت اصوات ابواق السيارات ..وصوت سيارة الاسعاف من مكان خلفنا ، انطلق سيل السيارت كنهر جارف ، مرت بجانبنا سيارة الاسعاف بسرعة ، أضاءت الاشارة الضوء الاحمر ..توقفنا من جديد ..خلف مكتبة جرير ظهر  ماك دونلدز الشهير .. وبعد المكتبة يقف شعار كناتكي فرايد تشكن ، وعلى يمني كانت محلات ملابس سبلاش الكبيرة ، ومن بعدها تلك البناية الفخمة ..العقارية  بواجهاتها الزجاجية ذات اللون الاسود ..حيث مكاتب الشركة ..

توقف السائق في موقف البناية الضخمة ، نزل ، فتح باب السيارة وهو يقول بأدب هندي عميق وباللغة الانجليزية : I WELL WIATE YOU HARE.. أخذت دليل البناية العملاقة ، تتبعت الحروف الابجدية ، عرفت الطابق والجناح ..صعدت المصعد ، كان سكرتير الشركة ينتظر قدومي ، سلمت وانأ انظر الى ساعتي الرقمية كانت تشير الى التاسعة وتسعون دقيقة ..وقف الموظف مرحبا ..اهلا اخ محمد اقبال ..المدراء في غرفة الاجتماعات ..ومشى أمامي في ممر طويل مفروش بالسجاد الاحمر ، وبعض اللوحات الفنية والصور تزين الجدران ، ممرت بجانب بعض الصور ابتسمت وفرحت ، قلت لزميلي ..هذه الصور بعدستي ..هز رأسه بلا اهتمام ..فتح الباب السحاب وقال تفضل ..دلفت الى الصالة الواسعة (غرفة الاجتماعات ) سمعت صوت اغلاق الباب خلفي ..

سلمت ، وقف الجميع ، كانت طاولة بيضاوية كبيرة ، رأيت اسمي على لوحة أمام مقعد ، وثمة شاشة كبيرة على الجدار ، المزين ببعض الصور ، دققت بالصور للحظة ابحث عن صورة من صوري كانت صورة طاقم الشركة بعسير ..صورة كبيرة بالالوان ..

الصمت يسود المكان ، جهزت اللاب توب ، وأخرجت بعض الاقراص الصلبة ، وفلاشة صغيرة ، ثم اخرجت ملفي موضوع الاجتماع .. فجأة فتح الباب ودخل المدير العام ، يسبقة اثنان ويتبعه أثنان ..جلس على مقعد الرئيس ، وهو يبتسم بينما وقف الاربعة خلفه ..

صباح الخير ..هل وصل الاستاذ محمد اقبال ؟

وقفت وهو يشير بيده أن اجلس قلت نعم سيدي ..

قال بادب وتواضع لم اشعر أنه يتصنعه ، حمدا لله على السلامة ، أرجو ان تكون رحلتك برا قد لاقت استحسانك ، كما ارجو ان تكون ضيافتنا في فندق الخزاما لائقة كما ينبغي لضيف مثلك ؟

قلت باللهجة السعودية متحببا : ما عليكم زود .

فتحت اللاب توب ، ثم وصلته بالداتا شو ، وقبل أن اعرض مشروعي  عبر اقتراحات لتطوير الشركة في عسير ..قرأت من الملف بعض الافكار ، كما هي بالواقع ومدى تصوري لما ستكون عليه لو قدر وتمت الموافقة على الخطة التطيرية ،والتي ارفقت معها خطة اجرائية تنفيذية ..وقف ارئيس مجلس الادارة  والمدير العام وصفقا بيديهما ..مما اشعرني بالثقة أن أمضي قدما في عرض المشروع ..

من خلال برنامج العروض التقديمية ، والصور التوضيحية والرسوم البيانية وضحت الفكرة التي شعرت انها لاقت استحسان الجميع ..بعد مناقشات واسئلة كثيرة قال رئيس مجلس الادارة :

استاذ محمد اقبال : والسادة مدراء فروع الرياض يمكنكم الاستراحة في استراحة الشركة لمدة نصف ساعة ، بينما مجلس الادارة يبقى للمناقشة واتخاذ القرار بالموافقة على مشروع تطوير فرع عسير في القصيم ...

قبل أقل من نصف ساعة  جاء السكرتير ودعانا (كل من الاستراحة ) الى قاعة الاجتماعات من جديد ، قرأ احدهم قرار مكتوبا على ورقة بخط اليد :

(يوافق مجلس الادارة على مشروع تطوير فرع عسير في القصيم ، حسب ما جاء في ملف الخطة المقترحة ن قبل الاستاذ محمد اقبال ، ويبقى أمر تطبيق الخطة على بعض الفروع الاخرى رهن بمدى نجاح الخطة في فرع عسير )

ثم اعلن احدهم ، انتهاء الاجتماع ، وقبل أن يغادر الجميع طلب منهم أن ينتظروا قليلا ..جاء احد المراسلين من قسم الخدمات ووزع بطاقت مغلفة على الحضور ..ثم سمح للجميع بالمغادرة ..مررت بجانب موظف الاستقبال ..وقبل أن أتجاوزه ..نادني :

استاذ محمد أقبال ..ونولني مغلفا ثانيا ، قلت شكرا ،وضعت المغلف في حقيبة اللاب توب ..وهرت الى موقف السيارات ، كان سائقي الهندي يمسح زجاج السيارة بخرقة بيده ، استدرت لاركب السيارة ظهرت مكتبة جرير أمامي ، ثم ما شدني اليها ، كانت على الدوام الكتب هي شغفي وحبي ، اعتذرت من السائق وقلت له بالانجليزية :  I SORY , YOU CAN GO , I WELL BACK  LATRE

رد السائق بأدبه المعهود ، NO PROPLEM SAIR

اسرعت الى المكتبة ، بطوابقها الثلاثة ، كانت ثمة اعلانات تملأ المكان ، معرض الرياض الدولي للكتاب ..تجولت بالمكتبة ، اشترين بعض القرطاسية ، وبعض الكتب الثقافية ، صورت اعلان معرض الكتاب بالهاتف ، تجولت بطوابق المكتبة ، واركانها .

عدت للفندق ، كانت صالة الاستقبال تشعرك كأنك في الغابات الاستوائية ، والتكييف يضفي طابعا  رائعا لطيفا على تلك الاشجار والصالة ذات الطاولات الدائرية البيضاء الناصة ، وبعض النحاسيات التي تنتشر بالمكان ، تضفي طابعا سحريا يجلب البهجة .

جلست الى طاولة في زاوية منعزلة ، فتحت المغلف الاول ، كان دعوة للعشاء بمناسبة  انهاء خدمات الاستاذ صادق عمر المستشار التنفيذي للشركة ، الساعة السابعة مساء ، في متنزة ومطعم الفرسان . ملاحظة الحضور قبل نصف ساعة من موعد الحفل ، للاعتذار الاتصال على رقم هاتف .... ثم فتحت المغلف الثاني كان ثمة كتاب ترقية الى نائب مدير الفرع ، ومدير مشروع التطوير المقترح ، وثمة شيك مكافأة مالية .. تناولت كأس العصير بسرعة ونظرت الى ساعتي كانت تشير الى الواحدة والربع ..تذكرت معرض الرياض الدولي للكتاب ،فتحت ستديو الصور في هاتفي ..قرأت الاعلان ..العنوان .

قلت ارتب الامور كالتالي : اولا اذهب بسرعة الى حفل التكريم ، ثم انطلق الى المعرض ، فكرت باستجار سيارة من الفندق ..قلت لنفسي ..انا لا اعرف شوارع الرياض ..سيارة ليموزين من الفندق تفي بالغرض ..بقي من الوقت ما يسمح بشور سريع واستراحة ..

محمد اقبال ..من جديد

وصلت الرياض قادما من القصيم ، كانت رحلة متعبة ، لكنها شيقة ،  عبرت خلالها من الجنوب الى الشمال ..المملكة العربية السعودية  التي تحتل الجزء الاعظم من شبه الجزيرة العربية ، اصابني شعور بالفخر كعربي وأنا ارى الحداثة والتطور العمراني والبنية التحتية ، الاستراحات على الطريق كانت محطات رائعة لمن يحب السفر ..لكني لانني بلا صحبة كنت وحيدا في الحافلة ..ندمت على اختياري السفر برا بدل الجو بعد أن خيرتني الشركة ، قلت فرصة أن أرى عوالم جديدة ، وناس جدد ..كان جاري بنغالي ، لا يتقن العربية ولا الانجليزية ..فعم الصمت الرحلة الطويلة .

توجهت من الموقف بسيارة ليموزين الى فندق الخزاما الفخم ، عبرنا منطقة البطحاء المكتظة ، الرياض القديمة ، قلب المدينة النابض ، الحركة الدؤوبة ..قدمت اوراقي لقسم الاستقبال ..صعدت الى غرفتي بمساعدة أحد الموظفين ، كانت غرفة مطلة على الرياض الرائعة الممتدة ..

وقفت تحت رشاش الماء البارد ، لبست ملابسي ، وكأن شيء سري داخلي كان يناديني ، بدل أن اخلد للنوم والراحة ، حملت كاميرا الكانون ، وهبطت الى البهو الواسع ، سلمت المفتاح ، وخرجت ، لفح وجهي لهيب الجو بالخارج ، كانت ساعت ما قبيل المغرب بقليل ، استقليت سيارة ليموزين ، قلت للسائق الباكستاني ..البطحاء ..

عبر السائق باحتراف شديد الطرق ، من تحت كبري الخليج ، ثم انزلق بمهارة الى شارع التحلية هاربا من الازمة الخانقة ، ليلتف نحو البطحاء عبر طريق خارجية اقل ازدحاما ، الفخامة تتكلم عن نفسها بكل ما حولي ، الرياض الجميلة ، كنت التقط بعض الصور بسرعة بكاميرا كانون ديجيتال ..وما أن وصلت مدخل البطحاء ، نقدت السائق الاجرة ونزلت مبهورا بكل ما أرى ، شغف الاماكن المزدحمة ، ورائحة الاماكن القديمة ، ملمس الجداران العتيقة وتلاصقها ، اسلاك الكهرباء والهاتف المتدلية المتشابكة الممتدة عبر اعمدة قديمة ، مصابيح الاعمدة تشع بنور خافت ، مهرجان الالوان ، كرنفاللات البضائع ، كلها كانت تبعث في شيء من الالفة والانس والبهجة ، لا ادري كم صورة التقطت بسرعة ، خشيت ان لا تتسع ذاكرة الكاميرا لكل ما اريد أن اسجله ..ندمت لانني لم أحضر اللاب توب لافرغ عليه هذه التحف ...

لفت انتباهي اثناء ازدحام الناس من كل جنس ولون  وتنوع اغطية الرأس ، قررت أن اصور اكبر قدر ممكن من تنوع اغطية الرأس ، الناس تقف أمام الكاميرا بحب والفة ، تستعد للصورة ، التقطت مئات الصور ، بعض الصور استخدمت لها العدسات الاضافية للقطات البعيدة ...قلت ..معرض الصور القادم (صور من اغطية الرأس في العالم ) ..فرحت بهذا الانجاز ..وقلت في نفسي ..استهلال طيب ..بداية موفقة ..ستكون رحلة الرياض رحلة فارقة في تاريخ العمل في السعودية ، وانتابني شعور بالراحة ..لم اعرف كيف مضى الوقت سريعا ، لم اتنبه لجوعي وعطشي الا لما قرصني الجوع ، تعجبت كيف تمكنت البطحاء من اخذي من نفسي ، كيف اقحمتني في عمقها ، دلفت الى  كافيتيريا ..تناولت الشاورما والعصير الطبيعي الطازج ..تجاوزت الساعة العاشرة مساء ..تذكرت موعدي غدا الساعة العاشرة صباحا في مكاتب الشركة في العقارية  منطقة العليا ، شارع الثلاثين .

وصلت الفندق ،  افرغت الصور من الكاميرا على اللابتوب ، ووضعت الكاميرا على الشاحن ، ضبطت المنبه على الساعة الثامنة صباحا  استعدادا لموعد العمل ، ونمت بملابسي .

 

قرأت في صفحة معنونة بأسمي ..وبجانبها  عبارة الجزء الاول :

لم أكن أعلم أنني كنت اهرب من نفسي قبل أن اهرب من الناس ،  ولكن ما وصلت وأعتقدت أنني نلت ما تمنيت حتى وجدتني اقف أمامي . ما أن تلقيت خبر قبول طلبي للعمل في السعودية حتى سارعت بالموافقة والمباشرة بالاجراءات ، وقعت على شرط الشركة ..العمل في أي مكان في المملكة العربية السعودية ، كان هاجسي أن اهرب ، ان اتخلص من ذكرياتي ، ومن كل الماضي ، انطلق من بداية جديدة ..بداية تؤسس لمرحلة جديدة ، في بلد لا يعرفني فيه أحد ، أنسى كل ما عانيت وكابدت ..

هالني حد الصدمة ، كيف تمكنت ذكرى من معرفة هذه المشاعر الكامنة في قلبي ، حبيسة أفكاري ، رحت أتذكر ..هل بحت لها أو لغيرها ..روادني شك في أن رحمة تفشي أسرار علاقتنا لذكرى ، أو لعلها كتبت ذلك في مفكرتها اللعينة ، تلك المفكرة التي تمكنت ذكرى من سرقتها ..أو الاطلاع عليها ..ثم تابعت القراءة وثمة رغبة في معرفة المزيد ..

خرجت من فندق الاردن انتركونتننتال ..استقبلني الشارع بحركة السيارت المجنونة ، كم شعرت انني فقير وصغير وبسيط ، ووحيد ، كانت والدتي قد توفيت منذ أيام ، والدي في أمريكا كل ما فعله أن اتصل ..ثم قال لي وأنا أبكي في بيت العزاء ..تماسك ..وانتهت المكالمة لينهي معها واجبه نحو والدتي ونحوي ايضا ..  ، البنايات الشاهقة ، رائحة الفندق ، فخامة المكان ، المحلات الفخمة ، بعض المحلات كتبت على بوابتها للنخبة فقط ..محل آخر ..للمتميزين فقط ..كم شعرت بالامتعاض ..مررت سريعا امام الواجهات الزجاجية ، الاسعار جنونية ..البضاعة اقل من عادية .. تذكرت هذه العبارة ...قلتها لرحمة لما عدت من عمان في المساء لما التقينا في الملتقى الثقافي في امسية القاص  ( ايمن ملوح   )     .قلت حتما هي رحمة من تفشي أسراري واسرارها ..رميت الرواية جانبا وبصقت بقوة ثم قلت ..حقيرة حقيرة رحت أصرخ بلا وعي ..ربما لو كانت رحمة عندي لقتلتها خنقا .

آليا نهظت وتابعت القراءة :  بكل صدق لم اجد من يقف معي بمشاعر حقيقية غير ذكرى ورحمة والدكتور رحيم ، وكل من أم بيت العزاء في ديوان العائلة كان كأنه يقوم بأمر آلي روتيني ، همه أ يسقط الواجب فقط لا غير .. في السماء عندما كنت أعود للبيت من ديوان العائلة ، كنا نجتمع ..تبقى رحمة والدكتور رحيم وصديقنا المشترك أيام الجامعة سعد الفقير ..

وأنا  انزل مشيا من الفندق من الباب الخلفي تذكرت رحمة ، كيف وقفت بمشاعر صادقة ، على الرغم من حالة عدم الاستقرار في علاقتنا التي كانت تسير نحو حتفها ونهايتها . بعد أن تأكدت رحمة أنني كما تقول رهين أمر والدتي ، وأني لا يمكن أن اتخذ أي قرار بمفردي .

كنت أغرق بالصمت ، فقط صوت تنفسي يعلو على كل شي ، فجأة  رن جرس الباب ، تعجبت كيف لا يمكن أن نضع جرس الباب على الصامت كما نفعل بالهاتف ، نهظت ..كان سعود القحطاني ..خلفه تماما مصباح الجيران يشع بضوء أصفر قوي ، ظهر سعود كشبح ..الضوء أغبش بصري للحظات ..قبل أن اجيب قال ..أنا سعود ..أش بيك ..مخبل أنت ..ثم صرخ .هلووووو ..أنا سعود ..كمن نهض من النوم قلت ..اهلا اهلا ..سعود ..تفضل ..لكنه استدار يريد العودة  ثم قال اذكرك بموعدنا بكره الربوع ..مهرجان الكليجا ..ثم نزل الدرج بسرعة ..شعرت براحة ورضا أنه لم يدخل ..

كانت ثمة نار تتأجج في صدري ، لم أتمكن من تفسير معرفة ذكرى بكل هذه التفاصيل ، وبت بين شك ويقين ، مصدق ومكذب ..فما نفع أن تكتب عني ثم تقول  في بداية الرواية (محظ تصادف لا أكثر ) ..

 

مساء اليوم الثاني في الرياض محمد اقبال

رن منبه الهاتف رنة  فدائي يا شعبي يا شعب .. ، نهظت ، وقفت تحت رشاش الماء الدافىء ، فصلت شاحن الكاميرا تناولتها  وخرجت  ، تذكرت ندمي على عدم اصطحابي لللاب توب في جولتي في البطحاء ، رجعت أخذت الكمبيوتر ، وضعت الحقيبة على كتفي وخرجت .

أخذت سيارة ، قلت للسائق ، متنزه ومطعم الفرسان لو سمحت ، هز رأسه ، لم يعرف اللغة أم لم يعرف المكان ، اعدت بالانجليزية ، مطعم الفرسان ...ثم انطلقت السيارة بسرعة تخترق الزحمة الخانقة ، كان كأنه يسابق الزمن ، مهارته بالقيادة ليس هناك مجالا لانكارها ، الا انني لا ابالغ اذ قلت شعرت بالخوف  ، توقف على الرصيف ، وقال وصلنا ، نزلت ، المتنزه محاط بأشجار الاثل الكثيفة المتراصة ، والبناء الابيض من خلفها تحت أضواء المساء الخافتة ، وبعض النوافذ تحت سقف القرميد الاحمر ،  يشع منها ضوء المصابيح الغازية الاصفر ، ظهرت واجهة البناء كلوحة مرسومة  بالالوان الزيتية ،  ناولت احد الحراس على البوابة بطاقة الدعوة تبعا للملاحظة المكتوبة تحت الدعوة لضرورة احضار بطاقة الدعوة ..

في صالة الاستقبال الكبيرة ، ردهة صغيرة تفضي الى الصالة الكبيرة الفخمة مكان الاحتفال ، كان على الجميع أن يمروا من بوابة كشف المعادن ، عبرت من خلال البوابة ، كان أحد كبار الامراء من العائلة الحاكمة راعيا للاحتفال ..بسرعة التئم الجمع وبدأ الحفل ببعض الكلمات ، وتسليم الدروع ، والشهادات التقديرية ،  وبعض الهدايا التذكارية ، ومن ثم التوجه الى البوفيه المفتوح ،  لتناول طعام العشاء ..كنت على أحر من الجمر ..اتمنى أن ينتهي هذا الاحتفال لانطلق الى معرض الرياض الدولي  للكتاب .

مررت على أحد صرافات البنك البريطاني للشرق الاوسط ، سحبت مبلغا من المال ، اشرت لسيارة ، ويممت شطر معرض الرياض الدولي للكتاب ..قرأت البرشور ، حي الواحة ، طريق الملك عبدالله بن عبد العزيز .. مركز الرياض الدولي للمؤتمرات والمعارض.. لاح من بعيد مجموعة من المباني الضخمة الفخمة ذات التصاميم الرائعة بواجهاتها الزجاجية ، التي أضفت عليها الانارة رونقا وجاذبية ، جعلت منه مكانا آسرا للاعجاب بحق .

تجولت في ارجاء المعرض ، الاجنحة حسب الدولة ، ههمت نحو جناح الاردن كان بجانب جناح فلسطين ، هذا التجاور ربما غير المقصود أثار في شجونا كثيرة ، وقفز نهر الاردن أمامي كما زرته اكثر من مرة ، كانت خالتي بمثابة والدتي ، تربيت في كنفها وتحت عينها ، وكنت اناديها ماما ، لهذا كنت اقول لي أمان ، واقول امي أمينة (خالتي ) وأمي الحقيقية ، وكأن القدر أراد أن يعوضني عن والدي الذي ذهب وتركنا .

الاقبال الشديد على المعرض ..والزحام ..والفعاليات الكثيرة على جانب المؤتمر ربما بحاجة الى ايام للمتابع المهتم ، مررت بجانب ندوة حول التعددية وأثرها في الوحدة . كانت اللافتة على بوابة أحدى القاعات تغري بالدخول لطالما عشقت الحوارات والنقاشات والندوات ، تذكرت للحظة جامعة اليرموك يوم أن كنت رئيس نادي الحوار الفكر ، وتذكرت أثر ذلك على مستقبلي المهني ، اصبحت تهمة بدل مهمة ..

الكتب الثقافية والادبية جناح مستقل ، موظفة اردنية تلف الشماغ الاحمر حول رقبتها ، وثمة اغنية خفيفة لتوفيق النمري عبر سماعة معلقة على الجدار ، هزي بطرف المنديل مشنشل برباع ..يم رموش الطويلة وعيون وساع ..ومن خلفة يردد الكورال بلازمتهم ..تصفحت العناوين الكثيرة ، كنت ابحث عن كتب وروايات (ذكرى ) كوننا كنا أصدقاء في رابطة الكتاب والملتقى الثقافي وكل تلك الامسيات الثقافية ...كتبها على رف خاص بجانب فخري قعوار ، سميحة خريس ، مؤنس الرزاز ..رأيت رواية جمعة القفاري ،تناولتها ، ثم أخذت كاتم صوت ، الشهبندر لهاشم غرايبة ، نارة لسميحة خريس ، حبر على ورق لذكرى .. هذا ما كنت ابحث عنه ..حبر على ورق ..قرأت عنها  ومما اثارته من ضجة اعلامية رافقة صدورها ، وحجم ردود الفعل غير المتوقعة عليها ، وانتقاد الاجهزة الامنية لتطرقها لاحداث جامعة اليرموك عام 1986 ..وكلامها عن رواية حديث الجند لايمن عتوم ..التي تشاركت معها في وصف المأساة كما سمتها .. ومما قرأته عنها في رسائل(  رحمة ) ..اكتفيت .. اعدت بعض الروايات التي أخذتها ..وتمسكت بحبر على ورق .. عرجت بسرعة على جناح فلسطين تناولت مجموعة اعمال سميح القاسم ، وتوفيق زياد .

اسرعت الى الفندق ، كان علي غدا  أن اقبال مدير عام المشاريع في الشركة الرئيسة ، لتسليمة  نسخا عن الاقراص التي تحتوي على افكار وخطة التطوير والخطة الاجرائية ..والاتفاق على تسليم الخطة التنفيذية ..

في سيارة الاجرة رحت اتصفح على عجل بعض الصفحات ، اثارني تصميم الغلاف للفنان محمود الصقور ..بقعة من الحبر كأنها سقطت عشوائيا على لوح زجاجي ، فتنارت ..وفوقها بخط رائع (حبر على ورق )  ثم ذكرى ......

في التصفح السريع مررت على أسماء شخوص وأماكن اعرفها ، شارع الجامعة ، البارحة ، سالسرايا ، رحمة ، ثم اسمي ، الدكتور رحيم ، هذا اشعل في نارالفضول ..ورحت اتلطع للوصول الى الفندق ..

عبرت البوابة ، صدمني التكييف ، استلقيت على ظهري ، فتحت الرواية ، بسرعة عجيبة كنت أمر على الصفحات ، أقرأ السطر الأول ..انتقل لجزء من السطر الثاني فالثالث . الى الفقرة الاخيرة ..كانت روايتي  الشخصية ، كأنها مذكراتي ، صوتي المكتوم ، ذاكرتي التي كنت أسعى أن انساها أو أتناساها ..كأني اعيش فيها ، شخوصها لحم ودم ،ذكرى لما كتبت حبر على ورق أرادت للشخوص في الرواية أن يكونوا مجرد حبر على ورق ..خيالات ..أو أطياف وهمية .. لكنهم خرجوا من بين السطور  ..اكتظت بهم حجرتي .. أخذتني الغفوة فنمت .

لا أدري كم لبثت في نومي ، صحوت وأنا أشعر بجوع شديد ، طلبت الطعام من خدمة الغرف ، كان الوقت متأخر على الخروج .. فقررت أن أخلد للنوم من جديد ، غدا هو اليوم الاخير من الزيارة ، من المتوقع أن انهي كافة اعمالي قبل الحادية عشرة ، وموعد العودة الى القصيم لن يكون قبل الرابعة عصرا ، ما تبقى من وقت قبيل السفر اتجول فيه في حي البطحا وسط البلد ، اتناول طعام الغداء ، التقط المزيد من الصور ، انظم ملفاتي على اللاب توب ، ثم انطلق الى موقف سابتكو .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !