كما وعدتكم مسبقا سأتناول الرواية تناولا انطباعيا محضا ولستُ بصدد نقدها نقدا أدبيا يرتكز في عمقه على بعد اختراقي يغوص حتى الوصول إلى جذر الرواية في محاولة مستميتة لسبر غورها والولوج في الخفي من روافدها الداعمة لها لتقف على قدميها في وجه أي نقد حاد، فبيقيني أن هذا الانزلاق للّب الجذري يحتاج إلى آليات وأدوات لا أمتلك - وبكل فخر - عشرها.. ولكنَّ هذا لا يصادر حقي الطبيعي في تسجيل انطباعي، ولا يُمسك بيدي من الإدلاء بدلوي فيها حتى وإن كان ممزقا كما أسلفت.. بعد هذه المقدمة القصيرة والتي قصدتُ بها الهروب من أي مسؤولية قد تلقى عليّ.. أو من تسفيه لرأيي واتهامي بالسباحة في تيار لا أجيد فيه ألف باء «التطبيش» وعليه وإيماءً إلى كل ما تقدم سأدخل في انطباعي وأنا مطمئن البال مرتاح الضمير نائيا بنفسي عن كل هجوم قد أتلقاه من أحبة كل همهم أن يضعوا العصي - التي تزخر بها مخازنهم العتيقة - في دواليب الناس..
المتصفح ولو بشكل عبوري كعبور إخوتنا الكرام للرواية ربما سيتفق معي في بعض الملاحظات..:
أولا: اعتماد الرواية في شكلها الرئيسي على تعدد الأبطال، فالنجم الأوحد أو القطب الذي يدور حوله الكل لم يجد له مكانا بين طياتها ولعل كثيرا مما يكتب من رواياتنا منذ ملحمة «زينب» للدكتور محمد حسين هيكل وحتى عهد قريب كانت ترتكز في تكوينها الإبداعي وحضورها الفني على فكرة البطل الأوحد، ولكننا نلحظ في الفترة الأخيرة روايات تعتمد في خلق شخوصها على فكرة الأبطال المتعددين والذين يشكلون بتجمعهم وامتزاجهم كتلة وحدوية بنيوية تنوب في تكاملها عن البطل الأوحد قديما وتخلق روحا انبعاثية تخفي في مجملها تشتت النظرة الجماعية لأبطال عدة لتضعهم في دائرة الضوء كقوة متكاملة متراصة تزيح التفرد الأزلي للبطل الفرد وفي زعمي أن رواية «بنات الرياض» تنحو هذا المنحى فهي لم تعتمد على البطل الواحد ولم تجعل منه محورها ومرتكزها الرئيس، بل فرقته واختزلته في أربع شخصيات رئيسية هي «لميس وقمرة وسديم وميشيل» ووزعت كل شخصية بتنامي بنائها الدرامي ولهثها الحياتي المتصاعد ونموها الزمني المتسارع وزعتهم بانتقائية أسست لمعطى السرد لديها بحيث يسمح لها بقص الأحداث ولصقها كما تشاء.. ويعطيها - كما تظن - مساحة من الحرية تتحرك فوقها للتوقف عند شخصية بعينها في وقت معين والتحول بفجائية مباغتة إلى شخصية أخرى دون توطئة أوتهيئة وفي ظني أن في هذا الانتقال المفاجئ تشتيتا لوعي وذهنية القارئ تجعله كمتابع لمباراة في التنس الأرضي ينعطف برأسه يمينا ويسارا..
وإن بررت الكاتبة ذلك - ضمنا - بأنها حاكت هذا النسيج من الحكايا ليصل للمتلقي على هيئة بريد الكتروني ولكن كل هذا لم يغفر لها زللها السردي ولم يمكنها من الصعود بالشخصية بشكل درامي متصاعد حتى تصل بها إلى الحبكة المنطقية المتوخاة.. وهذا يرشحها في المجمل لأن تكون قصصا قصيرة لا عملا روائيا طويلا حتى وإن جاوزت الـ 300 صفحة، وحتى لو تعددت أحداث الشخصية الواحدة وتبعثرت في فترة زمنية طويلة..
• ثانيا: الكاتبة هنا والتي تقمصت دور «الحكواتي» أو القصّاص اختارت لنفسها اتجاها أرادت النأي بنفسها عن الولوج في عمق شخوصها والاكتفاء بسرد ما سمعته من بطلاتها وعدم إقحام أفكارها «التقدمية الليبرالية» في بنية العمل ولكنها لم تفلح في هذا المنحى وغاصت حتى أذنيها في أكثر من مناسبة في رسم الشخصيات بحسب رأيها الشخصي وحسب نظرتها وتحررها وليبراليتها الأمر الذي جعل منها حكما وقاضيا يفرض آراءه وأيدلوجياته الخاصة على شخوص الرواية..
ولا أريد هنا أن أسرد الأمثلة الكثيرة في الرواية التي زجت الكاتبة برأيها الخاص لتقتحم به جو الرواية المتشنج أصلا لتصبه في مصلحة رؤاها ورؤيتها للحياة.. صحيح أن كل كاتب عندما يكتب رواية تعبر في النهاية عن رأيه.. ولكن الأصح أن يدع الشخصيات التي خلقها بكل أبعادها الثقافية والفكرية هي من تتحدث عن نفسها دون تدخل من قريب أو بعيد في قناعاتها حتى وإن كانت انهزامية فهي في الأخير رافد أساسي يدعم الرواية ونتيجة حتمية للعوامل والمؤثرات التي تشكلت من خلالها الشخصية نعم للكاتب أخيرا الحق في طرح رأيه في توجه الرواية العام، ولم يسطر راو روايته إلا لتنقل في المنحى العام رأيه الخاص ولكن كما أسلفت هذا يتأتى في توجه الرواية العام وليس في جزئياته أو ما يفهم من تحركات وسكنات شخوصه..
• ثالثا: لم يكن البناء اللغوي العام للرواية قويا، وإن كانت المفردات المرصوصة بين ثناياها كلمات معبرة ورقيقة في كثير من جملها ومرتبة ترتيبا منطقيا بيد أنها لم تكن بالمستوى الراقي الرفيع والبناء المتراص المتين التي تجده مثلا في روايات عبد الرحمن منيف.. أو الكثافة اللغوية المتقنة المزدحمة في أعمال الطيب صالح مثلا.. طبعا دون إغفال عامل الخبرة الطويلة المتوفرة لهذين المبدعين وندرتها عند رجاء الصانع، ولكنّ استدعاءهما هنا كأنموذج وليس للمقارنة بين الكاتبة وبينهما،، وتحفيز لها على الاهتمام باللغة وتراكيبها ومفرداتها ومدلولاتها بشكل أكثر في الأعمال القادمة.. وفي زعمي أنها لو التفتت للغة كقالب مهم تصب فيه عملها لأخرجت الرواية لنا في أفق أرحب ومدى أوسع.. غير أن كل ما قيل آنفا لا يمنع من الإقرار أن الرواية جاءت خلوا من الأخطاء المطبعية وكذلك النحوية وهذا يُجير لصالحها إذ لا يكاد يخلو كتاب من هذه الأخطاء..
• رابعا: كنا ننتظر منها أن تعطينا لمحات لأبعاد شخصياتها النفسية تشرح فيها تلك التقلبات الانهزامية فيهن ونظرتهن السوداوية لعالم الرجال، والرغبة العارمة في تهشيم وخلخلة المتراص من مجتمعها والقفز بحركة التوائية على الثوابت من قيمه وتقاليده المحافظة.. وهل هذا مبعثه انفلات معاش في الغرب كشخصية مشيل التي تربت هناك أو نتيجة التأثر بأفكاره المصدرة لنا كباقي الشخصيات ؟ لم تستطع الكاتبة نقل هذه الدوافع في الرغبة في الاصطدام بالمجتمع والتي اختارت «نجد» هنا لتسقط عليه كل ما هو ظلامي ومتخلف
• خامسا «وأخيرا»: رغم كل هذه الملاحظات السريعة جدا والتي كتبتها بعد ما يربو على الشهرين من قراءة الرواية ورغم قيد مساحة المقال إلا أننا لا نريد أن نبخس الكاتبة حقها من أول رواية تخرج بها للعلن.. فقد استطاعت بها أن تخلق لنا نصا جميلا بالميزان النقدي العام، وإبداعا متفردا بقياس الأسلوب الذي ابتدعته لإيصال روايتها للناس سواء من ناحية الطريقة أو من ناحية اختيار المادة الأنثوية الجاذبة لكل ما هو مطرود من إنتاجنا الإبداعي أو من ناحية المكان المحافظ المغلق والغارق في سكونه والذي بمجرد إلقاء حجر ولو صغير فيه سيُحدث ضجة وتماوجا يؤدي في حتميته إلى تصادم بين قطراته.. ولا ننسى هنا الضجة المفتعلة والمدروسة بإتقان من قبل الكاتبة حول الرواية، فهي أي الضجة وافتعالها يعد عملا إبداعيا مستقلا بذاته..
وأخيرا بما أنها الأولى في تجربتها الروائية فهي تشكل في مجملها باكورة جيدة تغفر لها كثيرا من السلبيات المطروحة والذي مرجعه قلة التجربة..
التعليقات (0)