مواضيع اليوم

رواية : لا تكفر بوطنك ... يا أبي

محمد المودني

2012-04-01 12:01:22

0


- محمد المودني // فاس ( دجنبر 2005 ) .

 

(1 )
 

الخيال عسل ننغمس فيه والواقع علقم نغرق فيه ... هذا هو حالنا من
الأندلس إلى العراق وما بينهما ... و " لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم " .


(2)

 

في كبد الليل استنثرت الصدور حمم الزفرات والآهات ، والأنين والعويل ... وتلاحمت الأنياب الضالة تحت أضواء باهتة لفها دخان أسود قذفت به مدافع الشياطين فجرفت التربة ورد مت الأخضر واليابس.
رياح عاتية هبت مزمجرة فوق قمة الجبل لامست لفحاتها الباردة أحياء ترقد في حضنه تحت ركام المتناقضات ... أجساد ملوثة افترشت العتبات والتحفت بجرائد أصابها الجدام من كثرة نفاقها ، بطونها انتفخت ببركة الصيام المؤبد وعقولها غطت في نوم عميق ... وأخرى شحيحة انتشت بأحلام عسلية إغتصبتها بإصرار وترصد . بين مطرقة الإغتصاب وسندان التسول والإجرام أجساد غرقت حتىالنخاع في جوف الأرق المرتجترعلى ضفتي الليل والنهار أحلاما لاتنتهي . الرياح عزفت على أوتار الشبابيك ألحانا حزينة رثتها وأد نومها في الأرحام ، حبات المطر العنيف نقرت زجاج النوافذ ، نسائم البرد تسللت بين شقوقها ولامست رأسه المتكيء على وسادة تفوح منها رائحة موسمية وقد تكوم تحت لحاف قتلت السنون دفأه ... كان ينظر للشاشة بعيون شبه نائمة تداعبها كوابيس اليأس المزمن ، ينتقل من محطة لأخرى في توتر حاد ... لا جديد يبشر بإندثار البؤس المديد ويرسم على شفتيه بسمة فقدها منذ أن أسقطه المخاض إلا جديد الإغتصاب والنهب والتسول والنفاق بأصوات ألفها وإن إختلفت صورها ...
تنهد في حرقة ، إبتلع مرارة يأسه الأليف ، ظغط بعنف على زر التلفاز، أطفأ المصباح الحزين ... بقيت الأجساد الصغيرة نائمة في أحضان أحلام بريئة تدفئها أنفاس أم تكابد بإبرها لتحقيق أمانيا مشروعة ... جر هيكله المثقل بأكوام الآهات إلى غرفته يلوك زفرات حارقة تقذفها أحشاء مزقتها مخالب مصاصي الدماء ، أغلق الباب بهدوء ... فتح نصف النافذة لستنشق الغرفة نسائم الهواء البارد وتلفظ الروائح العفنة ...
حبات المطر تتكسر على زجاج النافذة وتتطاير ذراتها بين ضلوع الغرفة ...أدلى برأسه إلى الشباك ، غسل الدرب بنظرات خاطفة ...
سيول جارفة تقذف بها السماء بسخاء لم يعهده منذ زمن بعيد ، وأمواج أثقلتها العفونة البشرية تتلاطم بين ضفتي الشارع الطويل تغسل وجه الأزقة والدروب من نتانة القمامة وأسراب الذباب والباعوض ... بقي متسمر بين الدفتين الزجاجيتين وقطرات الماء تنزل من رموشه وشواربه ، يتأمل كرم السماء بإنبهار وقد علت محياه المبلل فرحة طفولية ورسمت على شفتيه ابتسامة وردية أزاحت عن قلبه فرشة اليأس اللعين وسرت في عروقه رعشة الأمل المباغث ...
مفرقعات الغيث انفجرت خيرا على وجه الأرض الميتة وارتوت عروق التربة المباركة وانتعشت شرايين الحياة ... أمطار طالما إنتظرها العباد والبهيمة والنبات بعدما هاجرت سماء تلوثت بردة معلنة وغضبت على أرض إكتضت بعقول منافقة وقلوب ميتة تفترس صغارها دون رحمة وتنام في عسل الكبائر تتبادل نخب الذل والعار ... غاص في أرشيفه ينبش في ذكريات الطبيعة...
- مللنا الأمطار، يا أبي ، وإشتقنا لأشعة الشمس التي لم تطلع علينا منذ عشرين يوما...
قال لوالده والتنور يتوسط الغرفة يبعث في أركانها دفأه حيث انكمش كل أفراد الأسرة جماعة تحت غطاء صوفي وقد أغلقت كل منافذ البيت الطيني وانقطعت أواصر الإتصال بين البيوتات المتناثرة على رقعة القرية بعدما اكتسحها الظلام المخيف ، وضوء القنديل الخافت يوحي بنبضات الحياة...
- استحيي يا ولدي ، هذا أمر الله فلا اعتراض على قضائه ... عشرون يوما خمس موسم الأمطار وما زلنا في بدايته ، هذا شيء ألفناه يا إبني ... فاستغفر ربك...
- أستغفر الله العظيم وأتوب إليه ، يا أبي...
- إنه موسم الشتاء ، الناس أعدوا له الطعام والحطب والأعلاف لمدة لا تقل عن أربعة أشهر... قد تغيب الشمس لأسابيع طويلة ولا يتوقف المطر لأيام وليالي متوالية ... حتى تنبع المياه من الجدران والصخور وتدمع السقوف ماء زلالا ، والأعشاب تنبت في أركان البيوت ... فيعم الخير البلاد والعباد ، يا حبيبي ...
السنوات العجاف التي يشرب كؤوس مرارتها حولت الحقيقة إلى أسطورة يحكيها الكهول للشباب والصغار... أفل الخير وأقبل الشر... غابت الملائكة وكثرت الشياطين في هذا الزمن العاهر ...
وسط سوق غلاز رست شاحنتين محملتين بأكياس الدقيق أحاط بهما القائد بزيه العسكري ومعه المخازنيا وشيوخ القبيلة ... الناس كثيرون إناثا وذكورا شيبا وشبابا وقفوا في صفوف متراصة وصمت رهيب ، والموت البطيء يخلخل أعضاءهم أحاطت بهم هراوات القائد التي لا ترحم الجائعين ... أحد مساعديه انتصب في كبرياء على حافة باب الشاحنة الأولى وبين يديه لائحة طويلة ينادي أسماءها بفضاضة ...
- محمد بن عبد السلام ... - حاضر، سيدي،
- اليعقوبي أحمد ... - حاضر، سيدي،
-عبد السليمو بن احميدو ... - حاضر ، سيدي ،
- خدوج بنت ادريس ... - حاضرة ، سيدي ،
- .... ، ...
كل من تشرف بثقة القائد على ضمانة الشيخ يتقدم إلى الشاحنة وينقض على كيس الدقيق وعلبة الخميرة بعد ما يكون قد أدلى لصاحب اللائحة بوصل الأداء ، ويغادر المكان تحت غمزات الهراوات والعودة لن تكون قبل أسبوعين حسب التعليمات ... عدد أفراد الأسرة لا اعتبار له في التوزيع ، صاحب فردين مثله صاحب عشرة ...
تقدم محمد غاوغاو وأخوه علي يستعطفان القائد بعدما نادت اللائحة عليهما ...
- سيدي القائد ، والدتنا توفيت الليلة ونحتاج لأربعة أكياس لنقوم بواجب الدفن ... ، ...
همس القائد في أذن الشيخ الذي همس في أذن أحد أعوانه الذي غاب في الزحام ... عاد بعد لحظات بسرعة السهم يشق الصفوف المتراصة ليهمس للشيخ الذي نفى الأمر بحركة رأسية للقائد ، فالتفت هذا للحاضرين بصوت مرتفع ...
- هذان الرجلان إدعيا موت والدتهما ليحصلا على أكثر من نصيبيهما ، لهذا سأحرمهما منه مرتين ...
نكس الرجلان الطويلان القامة رأسيهما في إستحياء وخجل وانصرفا وسط الزحام تحت تهديدات الهراوات ونظرات الشماتة واللامبالاة الجيران مستشعران ألما في منتصف صدريهما ...
لفحات البرد القارس حدت من شروده ، ألقى بأعقاب سجارته إلى الدرب عبر الشباك واندس تحت بطانيات إنسلت خيوطها وبهتت ألوانها على سرير خشبي متهالك يتمايل عند كل حركة محشور بين خزانة خشبية قديمة تضم ملابسا مهلهلة ، وأخرى صغيرة تحفظ بين جنباتها كتبا ومجلات فقدت طعمها ، وأشياء أخرى . وضع رأسه على وسادة متحجرة بأحلام محنطة قد يعظمها أقزام التاريخ كما يعظمون غرق الفردوس المفقود في كؤوس فاضت على جنبات أيامنا وليالينا الفاجرة اخترقت عيناه الشباك وارتمتا في حضن السماء ... تذرع إلى ربه بأن يعفوعن عباده ويبيد أسراب الباعوض الذي يمتص دماء الوجوه المجعدة ليعيش متخما ، فاضت جفونه بدموع التخشع ... قرأ سورة الإخلاص ثلاث مرات ، إستغفر ربه سبع مرات ، قرأ المعودتين ثلاث مرات ، حمد ربه سبع مرات ... تقلب على جنبيه وعلى ظهره وبطنه كمن أصابه مغص شديد ، تمرغ في غبار الأرق المقيت كما تتمرغ الحمامة الجريحة في بركة دمائها... استوى في جلسته ولعن إبليس سبع مرات ، ركن جمجمته بعنف على مؤخرة السرير وصريره يجلجل على طبلتي أذنيه ... إغرورقت عيناه ...
- آه يا ربي ... لو يبعثوا لي تعويضات تلك الترقية الملعونة التي تأخرت لسنوات ... اليتيم يبكي والزمن الرديء يخنق أنفاسه ... سأشتري ليوسف دراجة هوائية وبذلة رياضية كما وعدته عند نجاحه في الصف السادس ، وأشتري لزينب حاسوبا كذاك الذي رأته عند الجيران وأوضب أسنانها التي أفسدت جمالها البابيلي ، وأبعث عتابا للمخيم الذي تحلم به على امتداد ليالي السنة ، وأشتري لغيتة دراجة صغيرة ، ولكنزة لعبا تشغلها عن المطبخ ... أشتري لأمهم آلة الغسيل وجلباب المليفة ... لكن ... ولما لا أشتري شقة صغيرة تقينا شر الكراء وتثبت وجودنا بين الخلق ..؟ ..إيه يادنيا ... رواتب تنتفخ في كل المناسبات دون ضجيج ومكافآت سخية بلا رقيب لعقول لا تفقه غير حرف السين ، وبطون منتفخة بأحلام البؤساء امتصوها من صناديق البلاد والعباد ، وأنا قابع بالمطبخ ألوك فاتورة المكتبة التي قعرت ظهور أطفالنا بمؤامرات دستها المقررات المدرسية وعقلية أطر لا إطار لها ، وفاتورة البقال المتحايلة بشهوات رمضانية ... أحمل فقري وأطوف به بين مطرقة الماء والكهرباء وطلبات المدرسين اللا منتهية وسندان الطماطم ولفيف القطاني التي تتسلق سلم الأسماك واللحوم المطلة علينا من أبراجها العاجية ... ست سنوات من العهد الجديد وما زلنا ننام على الخبز الحافي ونستيقض على شقيقه اليابس يراوضنا الحنين إلى العهد القديم بظلامه الدامس ...
صرير السرير الخشبي نغص عليه سكونه المثلج ... طاف ببصره بين جدران الغرفة الضيقة ضيق الحال كمن دخل الزنزانة أول مرة يبحث عن شعرة تخترق ليتمسك ليتمسك بها كما تتمسك العاقر بيد الميت المجهول ... أسقط عينيه الذابلتين على لوحة شبابه المعلقة بمسمار صديء تعكس مصباح الدرب على وجهه المجعد ، راودته ابتسامة فاترة ...
عيون متسعة غارقة في سواد دامس وشوارب كثيفة تحتضن شفتين قرنفليتين تطل بينهما أسنان مرتبة ناصعة البياض ، وأنف أبدع الخالق في نحته وشعر متموج يلف بنعومته وجنتين كصحنين مرمر ...
استدار على يساره ... غاص في أعماق المرآة الملتصقة على باب خزانة الملابس ليكتشف عفونته ...
وجه انكمشت جلوده على عينين تطلان من عمق جفون غارقة في عظام منخورة ، ووجنتين نقشت عليهما بقع مقززة ، وشفاه محروقة تفضح أسنانا صدئة ، وشعر متآكل لامسه البياض ... عشرون سنة تفصل بين اللوحة المعلقة والمرآة الملتصقة ، وقلب يعتصر وعقل يختنق تحت أقدام أبطال مزيفين ، وأطفال يحلمون بلعب عشراء وحناء ليلة القدر يستحمون بدموع أم أصيبت بأرق مزمن ...
ومضات البرق أنذرت أركان الغرفة بانفجار طبيعي وشيك ... إستوى في جلسته بين تضاريس فراشه يدمدم دعوات اللطف فيما جرت به المقادر ... دوي الرعد وخرير المياه الجارفة إقتحما سكون الغرفة دون إستاذان ، إنتشلاه من وحدته وأليلقيا به على عتبة شبابه ...
القرية الجاثمة على صدر الجبل ، المتناثرة بيوتها الطينية بين الخنادق الهائجة والجداول الرنانة ، تحتفل في نشوة عفوية بالذكرى الرابعة والعشرين للإستقلال ... سكانها منحوا لأنفسهم عطلة العيد ، ذبحوا الذبائح ووزعوها على أسرهم حسب عدد أفرادها . بسذاجة بريئة أقاموا الإحتفالات الجماعية في المساجد والأضرحة ، والسماء تشاركهم فرحتهم بأمطار سخية لتتفجر ينابيع الخير في الحقول والبساتين وأركان البيوتات ... الوالد المنتشي بأيام شبابه يحلو له أن يحكي لأطفاله عن شجاعته الخالية ، والوالدة تردد أذكارا دينية غير مبالية باجتراره حكايات جائعة تنام على رتابتها ... - إن " عين جنة " ، يا ولدي، صمدت كثيرا بين هذه الجبال التي صدت ببسالة وصدق قنابل ومدافع الطامعين في امتصاص رحيق الأرض والعقل ...
ويتابع الوالد المنهك بقساوة الزمن ونشوة الكيف يحكي لإبنه الأكبر، وشخير إخوانه الثلاثة وأختهم الكبيرة يملؤ فضاء السطوان ، بشغف كيف أجلت الجاية ، بكل قراها المحشورة بين الصخور ، سيطرة الفرنسيين على القبيلة لسنوات ...
- لقد دمر المقاومون بيرو بوصدوق ، قاعدتهم الألى ، عن آخره ودكوا أضخم قاعدتهم ب قلعة دمزو" ... لم يدخلوا القبيلة إلا بشروط : عدم دخول جنودهم قرى القبيلة ، وعدم تدخلهم في شؤون المساجد ... وحين استتب لهم الأمر أذاقوا سكانها وعين جنة على الخصوص الأمرين : ضرائب فاحشة ، أشغال شاقة ، نزع ملكية أراضيهم الخصبة ... وبعد فرارهم تحت ضربات المقاومين الموجعة بقيت القبيلة تستر عورتها بلحاف رث وتأكل عظام موتاها ، تنكر لها مغتصبو الأحلام ودسوها في رفوف الإهمال والنسيان ... إيه الله يرحم أيام زمان ، يا إبني ... اللي ما عاش مع النصارى مشات ايامو خصارا ...
- لا ، يا أبي ، لا تكفر بوطنك ... إنه على كل حال إستعمارغاشم لا خير فيه وهذا بلدك لن يحتظنك سواه ، يا والدي ...
- أعلم ، يا حبيبي ... أعلم أنه الإستعمار... ولكن لم نقاسي معه مثل ما نقاسي اليوم ... أعلم أن هذا بلدي ، أحبه بأرضه وشعبه ودينه ولغته... هو مهدي ولحدي ... كم هي مرة قساوة الوطن على إبنه ... كم هي قاسية وحدة وغربة المواطن في وطنه ... تعذيب الوطن لإبنه لا يوازيه تعذيب ، يا حبيبي ، وظلم الأب لإبنه أقوى من نار الرماد ... الفرنسيون سلبوا حريتنا وانتزعوا أراضينا وحكموا علينا بالأشغال الشاقة ... بناء مقراتهم ، وخدمتهم وحراستهم ... فتح الطرقات لربط مراكزهم ، وقطع الغابات لتزويدهم بالحطب ... فرضوا علينا نظام " الربعيام " ... أربعة أيام في الشهر مداومة بالليل والنهار يقضيها كل فرد منا في خدمتهم على مدار السنة دون أجر ... أذاقونا كل أصناف العذاب ... إنه اللإستعمار على كل حال .. لكنهم لم يسلخونا من آدميتنا كما فعل بنا بنو جلدتنا ... جاء المقدم عليلو إلى المسجد ينادي من وراء عتبته بصوت مرتفع والإمام يقرأ فاتحة الركعة الثانية ...
- آعميمار .. أولد المختار ، القايد بغاك دابا ... فالحال ...
بحنجرة مبحوحة سقطت خشونتها تحت أقدام خادم القائد رد وشواربه ترتعش وأسنانه تسطك وهيكله العريض الطويل يتخطى الصفوف كالدمى مندفعا إلى الباب ...
- أنعام ... أنا مجود أسيدي عليلو ...
سلم سيدي أحمد الحاج الوزاني عن يمينه وعن يساره وإلتفت إلى المصلين من خلفه وقد احمرت وجنتاه وانزلقت الدموع من عينيه ونبرته الفاسية تمزق شرايين قلوبهم ...
- نتمنى أن يتقبل الله منا جميعا صلاتنا ... أنصحكم ، يا إخواني ، أن تؤدوا صلواتكم في بيوتكم إلى حين أن يرفع الله عليلو من أرضه ...
سافر سيدي أحمد الحاج ومعاونوه ، الذي كان يزور عين جنة في كل مناسبة ليطمئن على أحوالنا وأحوال عزبته ، إلى فاس مع آخر قدم من فلول الظلام ... قبل أن تميل الشمس إلى نوافل الضحى حل القبطان غيوم ، الشاب الوسيم الأشقر والطويل القامة ، القائد العسكري لمنطقة غفساي بالدوار على عجل مرفوقا بنفر من جنوده والقائد عبد الرحمان ومعاونوه ... بالساحة المجاورة للمسجد خطب في سكان القرية ...
- إن ما حصل أمس بالمسجد وصلاة المغرب قائمة هو من ضعف تقدير القائد لمشاعر السكان وسوء تصرف المقدم عليلو ... إني أعتذر لكم باسم الجيش الفرنسي عن كل ما حصل ولن نقبل أبدا بمثل هذا ... أعدكم بعدم تكراره ... وعلى السيد القائد أن يتحمل مسؤؤوليته كاملة إذا ما حصل مستقبلا ... أما أنت ، يا عليلو الكلب ، مرفوض من خدمة فرنسا ولك أن تبحث عن وجهك بين جيرانك وأنا متأكد أنهم لن يعذبوك كما فعلت معهم ...
رمى الوالد بقبعته الصوفية إلى عمق الغرفة بعنف ومرر كفيه بقوة على رأسه الأصلع ، وإستوى في جلسته وهو يحك بسبابته بين حاجبيه الكثيفين وقد اغرورقت عيناه ...
- إسمع يا ولدي ، حياتي مع ألإستعمار ومن بعده مع أبناء بلدي أكسبتني تجاربا لا تعد ... فوق مدخل سوق جمعة سلاس وضع بن العربي قائد قبيلة سلاس لافتة كتب عليها : على كل متسوق أن يضع سلعته وأمتعته في أي مكان من السوق دون أن يوصي أحدا بحراستها وإذا ما ضاعت ألقائد بن العربي يعوضه عنها بضعف ثمنها ... في هذا السوق نسي زوج أختي أحمد لكحال الله يرحم لحما معلقا بشجرة وسط السوق ، بعد أسبوع وجده في مكانه وقد تعفن دون أن يجرء أحد على أخذه ... وذات مرة ، وفي عز قوة الاستعمار، ما أن دخل القائد بن العربي مكتبه وسط السوق بعد انتشار أولى خيوط شمس الصباح حتى وقفت على بابه فاطنة بنت قدور من دوار العنصار، فأدخلها إليه أحد حراسه حيث وقفت أمامه وهو متربع داخل جلبابه الصوفي الأبيض على حصيرة الحلفاء وعمامته البيضاء التي لفت رأسه ، الذي عمه الشيب ، زادته هيبة ووقارا ... وضع كأس الشاي فوق طاولته التي لايتعدى طولها ذراعين ، جلس بسرعة على كرسيه الخشبي وبادر لتحيتها :
- صباح الخير والرباح أخالتي فاطنة .. ياك لباس ؟
- أسيدي القايد كان عندي أربعة دجاجات وديكين لم يصبحوا في الدار ...
- سرقوا لك ليلا ؟
- يعلم الله أسيدي القايد ...
اسمع يا ولدي ، بن العربي لم يطلب من فاطنة - ألأرملة العجوز والأم لثلاثة أولاد وبنت أصغرهم - الشهود ولم يأجل قضيتها ... بل أمر على الفور أعوانه المتخصصين والمقدم عبو بإحضار سارق الدجاج إليه من السند أومن الهند قبل آذان الظهر ... أمره نفذ قبل موعده وحكم على السارق بستة أشهر سجنا يقضيها في فتح الطرقات وما إلى ذلك من الاشغال الشاقة ... وعوض فاطنة عن ضياع دجاجها بما أرضاها...
- لكن يا أبي ، ...
- لكن ماذا يا حبيبي ... طبعا إنهم استعماريون ، الفرنسيون كانوا يعتمدون على الجدية والدقة في عملهم والعدل في حكمهم ، ولا يتركون ثقوبا تتسلل منها الفتنة للمجتمع ... جاء القبطان جاك في زيارة مفاجئة للقبيلة برفقة مجموعة من أعوانه وكنا في ساحل اخليج رجالا ونساء ، وكان يوم الصيام وحرارة الصيف أحرقت قلوبنا وحناجرنا ، نحصد فدان قمح القائد بنظام التويزة فرضه علينا عبد السلام تشبوط الذي كان لا يرحم ذكرا أو أنثى في ممارسة عنفه البربري كعون للقائد ... أوقف القبطان ، المتوسط العمر والقصير النحيف القامة الأشقر اللون ، سيارته على حافة الطريق ونزل إلينا وسط الحقل يسألنا ، والنساء يتجمعن حول فطيمو يحاولن إنقاذها من الهلاك بعدما فقدت جنينها بين أكوام السنابل من شدة الحرارة وشقاء المنجل وقساة تشبوط وتعب الصيام ... بلهجة لا تختلف عن لهجتنا في شيء ...
- لمن هذا الحقل يا حصادة ؟؟
تلعثم تشوبوط مترددا ... اقترب منه القبطان ولكمه بقوة على أم رأسه حتى تطايرت الحقيقة من بيت شفتيه ...
- سيدي القبطان ... إنه فدان السيد القايد ... وهذه التويزة عملية ننظمها لمساعدة بعضنا البعض في جمع محصولنا...
- وهل القائد يحتاج للمساعدة ... هل تساعدون الضعاف منكم .. ؟ ... ما أمر تلك المرأة الملقاة بين الأكوام ..؟
بادر زوجها السطيطو للقول بمرارة :
- إنها فطيمو زوجتي يا مسيو القبطان ... لقد فقدت جنينها من شدة التعب والصيام وفرط الحرارة ...
- ... وتصومون رغم هذا العذاب ..؟
- في الحقيقة أرغمنا المقدم تشبوط على عدم الصيام لكننا رفضنا عصيان الله وطاعة تشبوط ...
- لذلك لم يرحمكم هذا اللعين ؟ ... اسمع يا تشبوط الساعة الآن الواحدة بعد الظهر في الثانية سأكون عند القائد لأرى هذه التصرفات ، وفي الرابع بعد العصر يجب أن أجدك على باب مكتبي بغفساي وسيكون حسابك عسيرا ...
اغرورقت عيون تشبوط وتصبب عرقه قبل أن يتلعثم بكلمات بكماء ...
- لكن سيدي القبطان المسافة طويلة والحرارة ...
قاطعه بصوت مرتفع ...
- الحرارة ... وهؤلاء القوم الذين تمارس عليهم عذابك مع حرارة الشمس والصيام والمنجل لترضي بربريتك باسم القائد ... نفذ ما قلته في الحال ...
بعث القبطان فطيمو وزوجها مع اثنين من جنوده على متن سيارته إلى بيتها وتكلفت النساء العاملات بجثة الجنين ، ثم أمر كل العمال بمغادرة المكان وعودتهم لمنازلهم ، وتوعد كل من يعمل مع القائد مستقبلا من غير أجر بعقاب شديد ... وبقي ينتظرعودة سيارته ليتابع طريقه بعدها إلى عين مزراوة حيث مقر القائد ... أعتقد يا حبيبي ، أن الرحمة سكنت كل القلوب وهاجرت قلوبنا ليهجر شبابنا بلده ويلتحق بأعدائه على أجنحة الموت عساه ينال شيئا من إنسانيته التي فقدها في وطنه ... أربعة وعشرون سنة مرت على استقلالنا تجاوزمعها عمري العقد السابع ... فماذا تحقق لهذا الشعب ، يا ولدي ، غيرالبؤس والشقاء بكل صورهما ؟ ... فاللهم أحيي بلدك الميت وانشر رحمتك ...
رفعت الأم رأسها من بين أجساد أطفالها الممددين تحت اللحاف تعاتبه ...
- ألم تتعب من هذه القصص المملة ، يا ولد الطاهر ؟ وما ذنب هذا الولد في حرمانك حتى تقتل أمله في الحياة ؟...
- إن والدتك رغم ما قاسته يا حبيبي، راضية على مضض بمعاناتها ... أقسم لك لو أتيحت فرصة مغادرة الوطن لكل المواطنين لبقي الحكام يذرفون دموعهم بين الأطلال تحوم فوقهم الخفافيش يحلمون بعصا موسى ...
أزيز شاحنة مثقلة تمخر عباب الشارع أعاده لواقعه ... تنصل من فراشه ، شرب جرعة ماء من قارورة بلاستيكية، وقف مشدوها إلى اللوحة المعلقة ... لاك كلما ت مبهمة ... استدار خطوتين ، إصطدم بكرسي خشبي ، أزاحه جانبا ، تسمر أمام المرآة الملتصقة على باب خزانة الملابس ... لامس شعره المتآكل ، حاول أن يجحض عيناه فلم تسعفاه ... كشر عن أسنانه التي علتها ترسبات عفنة ، دمدم عبارات الحصرة والمرارة ... جلس على حافة السرير ، شرب جرعة ماء، أشعل سجارة بلا طعم ، إلتصق بجانب النافذة ...
دموع المطر تنساب على الزجاج وتتكسر على جنبات الخشب ... نفث الدخان بتأفف على الزجاج حيث ترسبت فرشة ضبابية رسم عليها حروفا متناثرة لا معنى لها ، مسح الزجاج بمنديل ورقي وألقى به وبأعقاب السجارة خارج الشباك ... جلس على الكرسي الخشبي وراء الطاولة الصغيرة حيث تناثرت صفحات جريدة رخيصة وأنصاف أقلام الرصاص وأشياء أخرى ... زمجرة الرياح العاتية تقذف بحبات المطر مصحوبة بصوت غريب إلى أعماق الغرفة ... أصاخ بسمعه ناحية الزقاق ... صوت حاد يقزز النفوس ... حاول تجاهله ... ارتعش زغب ظهره ... أشعل سجارة دون رغبة ووقف وراء الزجاج ...
المياه تكتسح الدرب وصدور الدور اقشعرت بلفحات الأمطار والصوت الحاد الغريب يشق السيول ...
حدق ببصره إلى زاوية خارج دائرة ضوء المصباح على ناصية الزقاق ...
أجسام صغيرة تتحرك بسرعة تحت وابل الأمطار.. إنها تقترب ويقترب الصوت الحاد ... دخلت دائرة الضوء ... هي قطط ، نعم قطط ... أربعة ، خمسة ، بل ستة قطط ... تجر بأنيابها قطة تبدو متهالكة ... إنها صاحبة الصوت الحاد ، تجرها برفق على ضفة بركة ماء ... القطط تتزاحم في جر زميلتهم المنهكة بسرعة ، تبعدها عن البركة ... وأخيرا وصلت القطة تحت شرفة باب البيت المقابل جثة هامدة وقد اختنق صوتها الحاد والتصق جلدها بضلوعها ... القطط المسعفة تسارع إلى حيث تجمعت الأكياس البلاستيكية ... تمزقها بأظافرها وأنيابها ... تنقل أشياء وأشياء للقطة الجريحة ... تبدو عظام الدجاج وفتات الأطعمة ... كدست أمامها ما يشبع بطنا آدميا ، أحاطت بها وكأنها تواسيها وتشجعها على النهوض ... تلعق عينيها وشعرهيكلها المنهك ، تحاول بعث الدفئ في جسمها ، تساعدها على الحركة وهي تلتهم الطعام بـتأني ... بدأت تحرك أطرافها ، تلملم جراحها، تصارع الوهن ... أخواتها تلعق جسدها ، تساعدها على الوقوف... رفعت رأسها .. تتلذذ أكلها وزميلاتها تدفئها بأنفاسها ...
سبح لله ، إستغفر ربه ...
إيه ، مخلوقات غير بشرية تفيض قلوبها بالرحمة والشفقة ... تتنافس على مصارعة الجوع والموت ولا تتهاون ولا تتقاعص عن فعل الخير ماتت جذوره في عمق قلوب تمشي على رجلين خلقت من أجله ... أخرج من جيب سترته منديلا ورقيا ، مسح وجه الزجاج من الترسبات المطرية ، ألقى بالمنديل الورقي إلى الدرب ... أشعل سجارة بعد تأفف عميق ...
وقفت القطة المتهالكة على رجليها وقد انتفخ بطنها وجف شعرها ... تعانقت القطط بحرارة فرحة بإنقاذ أختها من الموت المحقق ... قفزت بسرعة البرق فوق الأصوار تنط على السطوح تحت حبات المطر العنيف غير مبالية بلفحات الرياح العاتية ...
رمى بأعقاب سجارته على سطح البركة المائية ، أغلق نصف النافذة ، جلس على الكرسي الخشبي أمام الطاولة الصغيرة ، إلتقط صفحة من صفحات الجريدة الرخيصة دون رغبة ، غسل وجهها بلمحة فاترة ، أسقطها بعنف بين نظيراتها ، فتح ملفا أزرقا يضم بين دفتيه أوراقا صفراء ... قرأ عنوان روايته المبتذلة التي تنتظر الترميم وتحلم بالإفراج منذ سنوات ... تأفف بمرارة وأسقط رأسه بين كفيه يدلك جبينه بانفعال شديد ...
إذا بعثوا لي مستحقات ترقيتي المنسية لن أشتري الشقة ولن أشتري أحلام أبنائي ... سأنشر روايتي حتى وإن كانت بضاعة فاسدة ... سأتعلم ... وأتعلم ، أحاول تحقيق حلمي رغم تحفظ زوجتي ... هي محقة في تحفظها أنا أعرف ذلك ... الأطفال يحتاجون للطعام واللباس والمدرسة ولعب عشراء وحناء ليلة القدر ... ومسكنا يضمن استقرارهم ،، أعرف أن نادية محقة ... هي تشمئز كثيرا من دقات الحاج مموعلى بابنا آخر كل شهر ... نظرات البقال الحجرية تثير في نفسها التقزز ... مساعدات السي محمد وحياة ونجية مطارق تدق بقوة على أم رأسها وكماشة تعصر قلبها ... أعرف هذا ... إنها لا ترضى أكل ما هو ليس لها وإن كان من كرم إخوانها ... هي لا تغار من حبي للكتابة ، تتمنى أن تتجمع أحلامي بين دفتي كتاب في يوم من الأيام ... لكن بساطة أفكاري وضيق الحال لايشجعانها ، تزاحم الإحتياجات تصور لها الحلم مضيعة للوقت ...
تأفف بمرارة ، أغلق الملف الأزرق ورمى به إلى عمق الخزانة الصغيرة مع قصص مخطوطة على أوراق صفراء . جلس على حافة السرير ، أشعل سجارة من دون طعم ، عاد للنافذة يتأمل كرم السماء ...
القطط تمرح بقفزاتها فوق السطوح تحت حبات المطر غير مبالية بلفحات الرياح العاتية ...
ابتسامة عابرة انزلقت من بين شفتيه المحروقتين ، ألقى بنصف السجارة على سطح البركة المائية ، عاد للطاولة الصغيرة ، شرب جرعة ماء ... فتح الباب ببطئ ، تحسس طريقه على ضوئ الشارع إلى الغرفة المجاورة عبر الممر الضيق يلامس الأرض حافي القدمين ... وقف بجانب السرير يتأمل وجه يوسف وهو يغط في نوم عميق ... إغرورقت عيناه ، جلس بجانب جسده النحيل المكوم تحت لحافين صوفيين فقدا الكثير من دفئهما يراقب أنفاس إبنه الوحيد أكبر أخواته الاربعة لم يتجاوز ربيعه الثالث عشر بعد ...
طفولة بريئة تكتوي بنار رذالة القلوب المتحجرة ... وجه مستدير بوجنتين إستنشقتا ألوان بلعمان وعينين واسعتين ملأتهما ظلمة الليل يعلوهما حاجبان كثيفان زادا الطفل وسامة ووقارا...
سافر بين أنفاسه الهادئة يقرأ لوحة تمزق أكباده ...
كم يقسو على الولد في تربيته ، يحمله أكثر من طاقته ... في دراسته ، وفي تهذيب أخلاقه ،وفي تعليمه الصلاة .. يكلفه بمهمات مقيتة ومملة ، يثقله بشخصية عنترية ... صرامة جافة ... هو يعرف ذلك ... كم مرة عاقبه بقساوة لأتفه الأسباب ، ضربه ضربا مبرحا لا تتحمله الأجسام الكبيرة ، نهره بكلمات مهينة مرات ومرات ، خاصمه أكثر من مرة ... صرامة قاتلة ... قساوة الزمن الردييء أفقدت الأب الأبوة والطفل براءته وجماله فمات قلب الأب وغرقت في جوفه شخصية طفله ... تملكه الخوف والخجل من حقوقه قبل واجباته ... هو يدرك قساوته ، قلبه يعتصر وعقله ينزف ... قد ينكمش قلب الطفل على كرهه ،، كره طفولي مبرر وصرامة أبوية مبررة ... أب يحاول ترميم نفسه ... يتذكر بمرارة إهمال والده لتكوينه وإخوانه ... كم عانى من قساوة تربية والدته ... عقاب مبرر بتكاسله وآخر لا يبرره حبه الفاحش لكرة القدم ولأقرانه في القرية ... عقابات الوالدة كانت جارفة لا تنتهي وإهمال أب قتل في أعماقه حب الحياة ،، وطفل لا حول له غير أحلام الأطفال التي لم يتلذذ بها كأقرانه ...
مسح بكم سترته دموعه الساخنة ، لامس شعر يوسف الناعم ، قبل جبينه بحرارة وكأنه يلتمس منه العفو والصفح ، وضب غطاءه وربت على جنبه وأمطره بدعوات الرضى ... دخل الغرفة المجاورة ، إصطدمت عيناه بوجه أم يوسف وزينب وعتاب وغيتة وكنزة الممددة بين أنفاسهن الهادئة ... تأمل بحصرة جلدها وقوة تحملها لحياة مليئة بالنكبات حتى الإنتفاخ ، لامس رأسها برفق ودثر جنبيها ، رسم قبلات الحب والرضى على جبين البنات ... تذرع إلى ربه بأن ينورعقولهن ويحقق أحلامهن المشروعة ... تركهن تحت الرعاية الربانية يسعهن قلب أم يسبح لله ولحبهن ومتيم بيوسف الذي لا ينام ويستيقض إلا على لمساتها ...
عاد لغرفته يتحسس الممر الضيق حافي القدمين ... أغلق بابه ، جلس على الكرسي الخشبي وراء الطاولة الصغيرة ، شرب جرعة ماء ، ألقى نظرة على عقارب الساعة المعلقة فوق باب الغرفة ... إقترب موعد آذان الفجر ... الطقس بارد وممطر ، الأزقة منتفخة بالمياه والشارع تحول إلى بحيرة طويلة ، الوصول إلى المسجد جد صعب ... لكنه ألف صلاة الصبح مع الوجوه البائسة ... وجوه طاهرة لا تتخلف عن موعد المسجد غير آبهة بالعيون المترصدة ... شعارها لكم دينكم ولي ديني ...
صرير الأكياس البلاستيكية المكدسة بالأزقة والمنتفخة بالقمامة النتنة التي لم تجرفها السيول نغص عليه سكون الغرفة ، صرير أقوى من أنياب القطط والكلاب الضالة ، صرير اخترق فضاء الغرفة الملوث بروائح السجائر والرطوبة الخانقة على أجنحة الرياح المزمجرة وخرير المياه المطرية ... حركات فوضوية في الدروب والأزقة ... لم يتماسك نفسه ، أشعل سجارة على عجل وأطفأ المصباح وانتفض واقفا ، إلتصق بجانب النافذة ... غسل الحومة بنظرة شاملة ...
لا حركة ولا وجود لأي كائن حي ... حتى القطط غادرت السطوح ... الكلاب لا تقوى على هذا الغضب الطبيعي .. بحيرة الشارع حاجز قوي في وجه كل الآليات ... الأمطار والرياح سيدة الساعة والمكان ... لكن صرير الأكياس المنتفخة بالروائح القذرة يصفع طبلتي أذنيه ، رمى بأعقاب السجارة وراء البركة المائية ...
أمطار وخرير ورياح وحركات فوضوية تعلوها تهاليل الفجر ... صورة صوتية إكتضت بشتى الألوان والأذواق ... ضوء وهاج اشتعل وراء الزجاج بالطابق الثالث على الضفة الجنوبية للساحة الممتدة من شرق الحومة إلى غربها حيث يلعب الصغار بالدراجات الهوائية أيام عطلهم ويلعب الكبار كرة القدم على امتداد أيام بطالتهم ويعاكسون البنات بعد ما يسدل الظلام خيوطه ، وتتحول إلى مرتع لترويج واستهلاك كل أصناف المخضرات وممارسة اللصوصية والمعارك الشاذة بين أبطالها في عمق الليل ... رأس أصلع أطل خارج الزجاج ، يطوف ببصره بين أركان الساحة يتفقد أحوالها ... إنها منتفخة بالأوحال تسبح في المياه المتسخة ، وحبات المطر تسقط عنيفة ... جر الكهل رأسه الأصلع وأغلق الزجاج ...
برق ورعد وزمجرة وخرير وصرير ... والمؤذن يهلل لصلاة الصبح بينما كان شبح يخترق ظلمة زقاق يلامس بيت الرجل الأصلع ..دخل دائرة المصباح المنتصب فوق الزاوية اليمنى للساحة ،، هيكل يمشي على قدمين يلفه لحاف بلاستيكي يجرعربة خشبية إنتفخت بالتفاهات وأثقلتها أوحال أيامنا القذرة ... اقترب من الأكياس المكدسة تحت شرفة الباب ، قوس ظهره يبحث عن أشياء قد تهمه ولا تهم الرجل الأصلع ... باغته صوت خشن متفجر من خارج النافذة ...
- من هناك ؟
توقف الشبح عن ما كان بصدده ورفع وجهه إلى النافذة ... وبنبرة فضة ومقيتة نزلت عليه مطارق تدق في رأسه مسامرا سامة ...
- ماذا تفعل هناك يا كلب ؟
بصوت مبحوح ومحروق كمن ابتلع حفنة تراب أجابه وقد أغطس رأسه بين الأكياس التي تفوح منها روائح تثيرفي النفوس التقزز...
- فقط أنا ، يا سيدي الحاج ، ..
- أنت من .. ؟ ومذا تفعل هناك .. ؟
- أبحث عن ...
- تبحث ... ؟ تبحث عن ماذا يا لص ...؟ ألا يقهركم لا البرد ولا الثلج ، يا حيوان .. ؟
- جمع الأزبال ... هو لصوصية ، يا عمي الحاج ؟ وهل البرد أقوى من الجوع ... أيضايقك هذا في شيء ، يا سيدي الحاج ؟؟
- ألأزبال لم نضعها هناك لك أو لأمثالك ... ألا تشبعون ، يا أوباش ..؟
- أما زلتم بحاجة لهذه الأزبال ياحج .. ؟
- إنصرف يا حيوان وإلا ...
- وإلا ماذا ، يا أبي ؟ هل أنت من الكلاب المسعورة ..؟ أظنك من أسراب الباعوض الذي إجتاح البلاد وامتص دماء كل الناس ... أليس كذلك ، يا حاج ؟... ألم تكفيك سرقة نومنا وأحلامنا ، .. ؟
تسرب إنتفاخ الأصلع من ثقوب جلده المنكمش على ضغائن وأحقاد سامة تحت ضوء مصباحه الوهاج حتى أصبح في حجم جرو لقيط يعوي في صمت وراء الزجاج ... أغلق نافذته الخشبية بقوة المذعور وأطفأ مصباحه الو هاج والمؤذن ما زال ينادي لصلاتي الفجر والصبح ...
دمدم الشبح كلمات غاضبة وترك العفونة لصاحبها وجرعربته الخشبية بعنف كثور هائج ، يشق أمواج الشارع الطويل ... إلى بيت الله ...


- محمد المودني // فاس ( دجنبر 2005 ) .


 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات