عبد الهادي فنجان الساعدي
صدرت للكاتب صباح رحيمة رواية "جسر الخر" بمقدمة جميلة واهداء اجمل. وقد كانت موشحة بمفردات عامية جعلت منها رواية شفافة في بدايتها وتحمل الكثير من عبق العلاقات الحميمة وعذرية الريف وكل القيم التي حملها اولئك الرجال معهم مغلفة بطيبة متناهية. وكان استعماله لتلك المفردات العادية ناجحا في اكثر الاحيان حيث عملت على تقريب الرواية من قلوب الفقراء: مثل (حامض حلو) (الدربونة) (البريمزات) (الحرز) وكلها كلمات ما زالت تحتفظ بحلاوتها وذكراها الجميلة خصوصا في قلوب ابناء الطبقات الفقيرة التي كانت هذه المفردات تشكل لهم كثيرا من المعاني و المفردات الحياتية الحميمة.
"جسر الخر" رواية عن قرية نشات بالقرب من وحدة عسكرية للحرس الملكي وكان اكثر سكانها من ضباط الصف حيث انها حملت اسم "قرية ضباط الصف" اضافة الى اسمها الاول وهي تدور حول نشاة هذه القرية ومع هذه النشأة كانت هناك علاقات حميمة ووطيدة تنشأ بمرور الزمن.. وقد نجح الكاتب في نقل مفردات هذه العلاقات بشكل وثيق وجميل (.. في قلوب قاطني هذه البيوت الطينية الطيبين واصحاب النيات الصادقة التي تشكل القاسم المشترك الذي يجمعهم لتكون مصيبة أي واحد منهم هي مصيبة الجميع وسروره هو مسرة القرية بطينها وسعفها بحجارتها وبركها) (الرواية ص 7).
كل هذا الحب والتوحد والاشتراك في المصير الواحد تبعثره التوجهات السياسية التي تعصف بالمدن واحيائها التي لا تفرق بين الطبقات الفقيرة منها والغنية.
الرواية مليئة بالصور الجميلة والشجية التي تبعث الذكريات في قلوب الناس الذين تتكرر لديهم هذه الصور الجميلة والحزينة (وفي احيان كثيرة يتعرض احدنا للسقوط اثر انزلاق (يداه) او تعثر قدميه المسرعتين فتتعالى قهقهاتنا مع صوت بكائه بعد إن يرمي له الراكب عدته فينهض لينفض التراب من فوق ملابسه وتعرج قدماه او يتحسس جروحه بألم وخوف بينما تبتعد عنه العربة والزملاء) (الرواية ص 9).
انه يصف سقوط احد الاطفال بعد مجيئهم من المدرسة – وبعد محاولة الصعود الى العربة التي يجرها الحصان وهو تصوير دقيق لحالة كان قد مر بها الكثير من الاطفال من سكان الصرائف والاحياء الفقيرة في بغداد.
تمتلئ الرواية بذكر الاماكن القديمة والتي تركت محفورة في ذاكرة بطل الرواية مثل (قصر الحارثية الملكي) (سكة قطار البصرة) (قصر الرحاب) (مزارع البيبجية والمنصور).
انه تسجيل ذكي وواقعي للاماكن التي تدور فيها الاحداث مما يجعلها رواية مغرقة بالواقعية والمحلية التي ترفعها الى مصاف القصص العالمية لو استمرت بهذا الاسلوب دون الخوض في الصراعات السياسية البائسة التي تضطر الرواية الى الانحياز الى احد الاطراف المتنازعة مما يفقدها صدقها وطعمها الحزين الشفيف.
(وقفت كفاح ابنة داخل تنتظر من يعينها على حمل الاناء الذي ملأته في ذلك النهار القائظ ودارت بوجهها يمينا وشمالا ولم تقع عينها على أي مار في تلك الساعة وظلت واقفة بحيرة – حتى صدح صوت في اذنها: هي تحتاجين الى المساعدة) الرواية ص 14-15.
نقلٌ صادقٌُ للأحداث ولحالات اجتماعية تطغى على الحياة الرتيبة لتبعث البهجة والاثارة في قلوب بعض سكان القرية او المحلة.
الرواية مليئة بمفردات العلاج كـ (الحجامة) و( العطابة) وطرق الحياة والعلاج وانواع التمور (تمر الحلان) و(الخلال المطبوخ) و(المدكوكة ) و(المجبوس) و(المدبس). اضافة الى بعض المشاهد من العادات والتقاليد وكانت مفتاحا لقلوب القراء وخصوصا الطبقات التي عايشت هذه العادات وذاقت حلاوة التمر بطرق صنعهِ البدائية وبقيت صور هذه الحياة بمجملها في ذاكرة الناس لتسجلها هذه الرواية بطريقة حاذقة وسلسة. (انظر الرواية ص 28-29).
كل هذه اللقطات الدقيقة لصور الحياة اليومية في هذه القرية الفقيرة تقابلها لقطات اخرى لحياة كان يعيشها زملاء الدراسة الاغنياء (وكثيرا ما سبقني نظري الى داخل السيارة لحظة صعود سمير ليقع على مجموعة من الاكياس الورقية المنتفخة وقد تدحرجت من احداها حبات من انواع الفاكهة على المقعد الخلفي. لتدور في خلدي تلك الصور وتكبر الكلمات تطالب تفسيرا لهذا النصيب؟ وما تعنيه كلمة الارزاق؟ وكيف يمكن للانسان ان يحصل عليها؟ ولماذا نعيش نحن داخل بيوت طينية محفوفة بمخاطر الافاعي والعقارب والانهيار ناهيك عن الحرائق.. ولا تزيد عن الخمسين متر بكامل مساحتها). (الرواية ص 33).
هذه المقارنات تتكرر والقصد منها هو بيان الفوارق الطبقية الموجودة بين شرائح المجتمع وقد نجح بنقل هذه الصور الواقعية التي عايشها الكاتب ونقلتها الرواية بكل دقة الا انها لم تتعرض لتفاصيل الصراع الطبقي وتركت ذلك الى اخر الرواية لتفجر الحدث بشكل يختلف تماما عن الواقع وعن تأثير تلكم الاحداث على الاغلبية من سكان الصرائف والطبقات الفقيرة.
هنالك التفاتات ذكية يستعمل فيها الكاتب معلوماته عن بغداد القرن العشرين وشوارعها المهمة والرئيسية والتراثية وتفرعاتها التي لا تخلو من نكهة خاصة كسوق القماش (البزازين) وشارع المتنبي والمقاهي القديمة والشهيرة في شارع الرشيد. (انظر الرواية ص 40-41).
يتخذ بطل الرواية مواقف انحياز سياسية متسترا بالدين تارة وبالقيم الاجتماعية تارة اخرى ضد التيار الماركسي الذي كان في صراع مع القيم الدينية والاولى بالكاتب ان يكون موقفه حياديا صادقا في الرواية وليكون صادقا في نقل الاحداث وما كان يجري بشكل منطقي لأن الرواية من الروايات التي تعتبر وثيقة ينقل من خلالها الاحداث التي جرت في ذلك الوقت دون انحياز والا. اتهمت الرواية بالتزوير في نقل تلكم الاحداث والحقائق. (انظر الرواية ص 81-89).
انحدار شديد يبدأ من صفحة 89-101. بالرواية نحو افاق سياسية يسودها النقد اللاذع والمتميز ضد الماركسية وانتصارٌ للاسلام وكان النعرة القومية كانت بعيدة عن هذا الصراع باشكالها البعثية والقومية الناصرية وباساليبها المتخلفة التي شاركت في صنع تاريخ العراق الدموي. لقد ظهر الانحياز القومي في الرواية واضحا او متسترا بالدين مما اثر تأثيرا سلبياً على سير الرواية وجعلها تطفح بالنقاشات السياسية العقيمة معيدة دورة تاريخية مؤلمة بشكل يكاد يكون معكوسا دوان ان تعطي للبعثيين والقوميين دورا في تأجيج الاحداث الدموية.
ان الروائي هو شاهد عصره وقد كان الروائي هنا شاهدا وموثقا دقيقا في بداية الرواية.. الا انه انحدر بالرواية بشكل غير منطقي نحو مهاوي السياسة وهذا الانحياز الفاضح.. لا يليق ابدا بهذا الشكل من الروايات (انظر الرواية ص 101).
(لم ادرك انه في ضفة عقائدية وهم في الضفة المعاكسة تماما، لانهم ينظرون اليه على انه مجرد شخص مشعوذ غير مرغوب فيه، يشد البسطاء الى حبال الغيبيات والبحث عن دروب المجهول بايمان راسخ على ان كل هذا المجهول مسيطر عليه ومسير... الخ) ص 136-137.
لقد وظفت الرواية حتى (المشعوذين) (وفتاحي الفال) من اجل ان تضعهم في ضفة الايمان لتؤكد كفر الذين في الضفة الاخرى. والغريب في الموضوع ان تحول النظرة الى الشعوذة وكأنها كفر، كما ان الشعوذة في هذا الوصف تكون هي الايمان الذي تثبته الايات القرآنية. كل ذلك من اجل تهيئة الجو لدخول القوميين وكأنهم الفئة التي جاءت بكل نزاهة لتحل محل الكفر والالحاد في قيادة المنطقة ولتهيء الرواية لمجيء فجر جديد يمثل احلام الفقراء الذي اضطهدتهم قيادات ثورة 14 تموز 1958.
(تبددت الوعود واختلطت الامال بدخان البنادق حتى سددت الى صدره على ايدي مجموعة من الشباب وهو يمر عبر شارع الرشيد وسط العاصمة بغداد). (الرواية ص 141).
انه تمجيد لعملية اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم على يد مجموعة من البعثيين وادانة الزعيم الذي قاد ثورة 14 تموز 1958 وكذلك للجمهور والشرطة والمقاومة الشعبية ولا اعتقد بأن المقاومة الشعبية كتنظيم ساند بقيت الى سنة اغتيال الزعيم.
المفروض ان تكوين الرواية السياسية شاهدا حيا على مجريات الاحداث التاريخية ولكن ما نراه هنا هو تضخيم... ان لم يكن تزوير لاحداث مرت في فترة حكم عبد الكريم قاسم، وما نراه من تصوير للاحداث يكاد ينطبق بشكل كبير على ما جرى في انقلاب 8 شباط وبعد انقلاب 17-30 تموز الذي حول العراق الى مزرعة للبعثيين وقد اعدموا الكثير من (الرجال الذين درسوا ونالوا الشهادات) وقد اعدموا لأنهم (لا يؤمنون بما يؤمن به رجال السلطة) (انظر الرواية ص 171).
بالرغم من كل الحقائق المؤلمة .. وبعد كل الوثائق التي ظهرت والتي تدين انقلاب 8 شباط الدموي والقائمين به تأتي هذه الرواية لتجعل منها ثورة شعبية كان الجميع بانتظارها وكأنها ثورة حقيقية وفجر حقيقي ينقل البلد وابناءه من عصور الاعدامات والاعتقالات والدمار الى عصور النور والربيع ناسية اوغافلة (الرواية) كل الوثائق التي ظهرت وهي تدين انقلاب شباط الاسود الذي مولته المخابرات الامريكية والشركات الرأسمالية بحسب الوثائق ومذكرات البعثيين انفسهم مثل الفكيكي وطالب شبيب وعلي صالح السعدي وفؤاد الركابي وكتاب العراق في جزئه الخاص بالبعث للمؤرخ حنا بطاطو.
لقد فقدت هذه الرواية الكثير من بريقها بانحيازها الى جانب الانقلابيين وفي بحثها عن فجر دموي اغبر يشبه الى حد بعيد فجر 8 شباط الدموي.
التعليقات (0)