من أنت أيها الملاك ؟
تعليل الإنكباب على موضوعة الصحراء
بالأمس وأنا استمع أخبار إحدى القنوات الفضائية عبر المذياع عن اعتراض ضابط أمني في المغرب لتسمية أب لابنه باسم أمازيغي فما كان من والد الطفل إلا أن رفع قضية يطالب فيها بحرية اختيار اسم لابنه ، وحكم القاضي لوالد الطفل بعد مضي تسعة شهور عاشها دون اسم .
هذا الخبر جاء متوافقا مع أحداث رواية كنت قرأتها الأسبوع الماضي لإبراهيم الكوني غير أن صاحب الخبر انتهى بانتصاره، بينما سارت أحداث الرواية نحو نتيجة معقدة وغير متوقعة.
رواية الكوني جاءت من حيث العنوان على غير عادته إذ اعتمد – غالبا – على العنوان المختصر في رواياته ؛ أما روايته الجديدة والتي تبنتها مجلة دبي الثقافية في إصدارها المجاني الملحق بشهر ( يناير/ 2009م ) ، أتت بعنوان يلفت انتباه من له علقة قراءة مع كاتبها. ( من أنت أيها الملاك؟ ) إذ يحفزك على مطالعة رواية يبدو أنها تختلف عن روايات الكوني السابقة من حيث الموضوع.
قبل بضع سنين تنافس الكوني ( الليبي ) والمرحوم الطيب الصالح ( السوداني ) على جائزة الروائي العربي وكانت من نصيب صاحب ( موسم الهجرة إلى الشمال )، وعلل الناقد جابر عصفور قرار اللجنة التي راجعت الأمر مرات، علله بتعدد موضوعات روايات الطيب الصالح، بينما موضوعة الصحراء لا تكاد تغادر أعمال الكوني ولا تخرج عنها.
يبدو أن الكوني يعلل اهتمامه في روايته الجديدة، بعد فشله التجانس مع المدنية التي لا يمكن الوثوق بأحد فيها؛ إذ تتحدث روايته عن مواطن ( مسي بن مسي ) رزق بابن وأراد تسميته ( يوجرتن ) وهو اسم لأحد أبطال الأسلاف ، غير أن هذا الاسم لم يكن من الأسماء المدرجة ضمن اللائحة المقدسة المسموح بها في مكتب السجل المدني، ليدخل ضمن روتين المراجعات والانتظار من دائرة إلى أخرى، ومن تحقيق لآخر حتى تموت أم الولد ويشب – الولد - وهو دون اسم بل ويسحب اسم والده ليكونا عرضة الترحيل وراء الحدود.
ورغم محاولاته العديدة للحصول على الاسم لابنه غير أنه يقع فريسة للاستغلال والغدر من أقرب من تعرف عليهم، بل يصل الأمر إلى ابنه الذي عرّفه أبوه على الصخرة المقدسة لدى الأسلاف ليتآمر مع أعداء الوطن ليسرقوه ويذهبوا به إلى ما وراء البحار، فما كان من الأب إلا أن يلعن اليوم الذي فكر فيه الاستيطان في المدينة، فيقرر العودة إلى الصحراء بعد أن خاف على ابنه من الانضمام إلى جماعات الظلام التي نوت تفجير مبنى السجل المدني، وراح الوالد ينصح ابنه بالرجوع عن مخططه مع أصحابه غير أن إصرار الابن حدا بالأب أن يقتل فلذة كبده بمدية كان قتل بها ذئبا في يوم من أيام شبابه، ليعود إلى موطنه وموطن أسلافه الصحراء .
الكوني في روايته يرد على محدودية موضوعة الصحراء لديه ليكتب عن المدينة التي يفتخرون بها ويكشف عنها لباس النفاق ( مدينة شؤونها بيد الأشباح – 141 )، ويستهجن أن تكون النظم في المدينة فقط ( تخطئ ! في الصحراء لوائح أشد صرامة من لوائح العمران، ولكن سرها في أنها لوائح أمنا الطبيعة وليست لوائح أخينا الإنسان – 114 ) وشتان بين الأخ والأم الرؤوم، ومن لوائحهم ( أهل الحكمة – في المدينة – يقولون إننا في بلادنا أصحاب ذنب شئنا أم أبينا – 134 ). ويصل الكوني عبر ( مسي ) ليصف جرائم أهل العمران في الصحراء ( 135- 137 ) ويكرر عبارة ( فهل اكتفيتم ؟ كلا بالطبع ) ثلاث مرات، و ( فهل اكتفيتم أخيرا يا ترى ) مرة واحدة. عبارات ملؤها الإجرام في حق الصحراء.
ما يشغل الكوني ليس الصحراء المادية وإلا وقع في مطب المدينة بل يرغب في الأرض الواسعة لما فيها من حرية مطلقة تتيح للإنسان صنع حياته دون مدنية تعتمد على ( ناموس الحظوظ ) ولذا نرى أسلوبا يعتمد على التهكم والمفاجأة في النتيجة يذكرنا بلافتات أحمد مطر ( 56 ) .
الروائي الكوني يبحث عن مكان يمارس فيه تجارب حرة لا تقيده بالأملاك، أو الذرية ؛ ( لأن الذرية وحدها تستطيع أن تدفع الآباء إلى خيانة كل عهد، بما في ذلك العهد المبرم مع الرب – 147 )؛ ويبحث عن أولى جامعاته ( الصحراء في مسيرة تعليمي كانت أولى الجامعات – 100 ) ثم يعقب رادا على أحد المحققين لا يصرح باسمه - ( ربما لأنه ليس أصيلا في المكان ) – الذي سخر من معارف الواحات بالمقارنة مع معارف الصحراء؛ يقول مسي : ( يوم في رحاب الحرية يعلمنا أكثر مما نتعلمه من بطون كتب الدنيا كلها – 100/101 ) – كما يرى ( مسي ) – أن أفضل مكان يُعترف فيه بالتاريخ هو الصحراء ويرى أهميته ( 69 ). ويحافظ على العهد ( 153 )، وتجانس بين الآباء والأبناء .
إنه يبحث عن الصحراء التي تختار أسماء أبنائها بعناية بحيث تتناسب مع الشخصية، لا المدينة التي تختار اسما يخفي الشخصية كـ ( نزيه الفاضل ) موظف السجل المدني الذي سبب المشكلة معه، فلا ترى علقة صغيرة حتى بين الاسم وطبيعة الشخصية غير النزيهة وغير الفاضلة.
والمدنيون يرون العزلة في الصحراء، ويرى ( مسي ) الوجود في العزلة عبر طريق الهجرة فـ ( هي كلمة السر في محراب الحرية – 210 ) .
عبر روايته، يقوم الكوني بالدفاع عن نفسه من خلال تركيزه على موضوعة الصحراء وسط المدينة، ويحاول اقناعنا بوجهة نظهره؛ التي سطرها في أغلب رواياته، غير أنه بدا متعبا ومنهكا في الكتابة في هذه الرواية من خلال تكرار ( كأن ) خمس مرات في أربعة أسطر ليوصل لنا حالة الصمت والقطيعة بين الأب وابنه . ( 252 ) .
رواية ( من أنت أيها الملاك ؟ ) لا تجعلني أؤمن أن ( مسي ) هو الملاك بل هو ( إبراهيم الكوني )، وقد أجاد مخرج الغلاف حين وضع صورة الكوني على الغلاف بهيئة مدنية دون الهيئة التي اعتدناها ( لباس الصحراء ) .
برير الصلاح
كاتب وقاص
السعودية
التعليقات (0)