رمــــوز وهموم ســـــودانية
(حلقة2)
( لـقـمـــــان الـحـكـــــــيم )
بسم الله الرحمن الرحيم
((ولقد آتينا لقمان الحكمة أن أشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد)) ----- آية 12 سورة لقمان.
>>>>>>
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتخذوا السودان فإن ثلاثة منهم من اهل الجنة لقمان الحكيم والنجاشي وبلال المؤذن)) ... قيل حديث ضعيف...... ولكن صححه البعض على قول الأوزاعي بسياق آخر حيث أورده الحاكم في مستدركه عن الأوزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير السودان ثلاثة لقمان وبلال ومهجع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم)) .
وقال الذهبي : هكذا قال ((مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم)) ولا اعرف هذا.
أما الطبراني فيزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الحبــش في قوله: ((اتخذوا السودان فإن ثلاثة منهم من سادات أهل الجنة : لقمان الحكيم والنجاشي وبلال المؤذن)).
..........
وقال الأوزاعي : جاء رجل اسود (ربما كان يشكو عنصرية البيضان) إلى سيد التابعين سعيد بن المسيب رضي الله عنه فقال له سعيد: ((لا تحزن من أجل انك اسود فإنه كان من اخير الناس ثلاثة من السودان: بلال ومهجع مولى عمر ولقمان الحكيم كان اسود نوبيا ذا مشافر)).
وفي قول إبن المسيب هذا ما يؤكد أن لقمان الحكيم إنما كان نوبيا وليس حبشيا.
.......
وقد ذهب البعض بعيدا نحو ((سودنة)) بلال بن رباح رضي الله عنه وفقا للحديث النبوي المشار إليه اعلاه ، ولما أتى به الحاكم في مستدركه ، رغم أنه من المتواتر ان بلال بن رباح رضي الله عنه، كان يقر لأصله وفصله بالحـبشـنة. وقد قيل انه كان عندما يسمع كلمات المدح والثناء توجه إليه ، كان يحني راسه تواضعا ويقول : ((إنما انا حـبشـي كنت بالأمس عـبـدا)).
ويبدو أن وصف العرب لبلال رضي الله عنه بالحبشي تارة والسوداني تارة أخرى ، إنما كان مرده إلى أنهم كانوا ولا يزالوا يستخدمون مصطلح ((سوداني)) للدلالة على العنصر الأفريقي الأسود وليس السودان المعروف حاليا بحدوده السياسية والجغرافية.
على اية حال لا اريد أن ((أحرم)) البعض من السودان ، من افتخارهم باتنماء بلال بن رباح رضي الله عنه للسودان ، فهو شرف لا يدانيه شرف وهو كما قال عنه عمر بن الخطاب : ((أبو بكر سيدنا وأعتق بلالا سيدنا )) رضي الله عنهم أجمعين.
وكذلك يسري على النجاشي و مهجع مولى عمر بن الخطاب ، ما يسري على بلال المؤذن رضي الله عنهم اجمعين ...... وأمر النجاشي معروف للقاصي والداني . أما مهجع بن عبد الله (مولى عمر بن الخطاب) فهو بدري شهد بدرا واستشهد فيها ..... وقيل انه كان اول شهيد من شهداء معركة بدر الكبرى . رماه عامر الحضرمي بسهم فقتله .... وقد جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((سيد الشهداء مهجع وهو اول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة )) وقد أسنده مقاتل في أول كتابه. ويشاركنا أهل اليمن السعيد الإدعاء بتبعية مهجع رضي الله عنه لهم . حيث يقول إبن سعد في الطبقات عن ترجمتة لمهجع انه من الطبقة الأولى من الصحابة وانه مولى عمر بن الخطاب وأنه من أهل اليمن أصابه سبي.
والحمد لله أن تبقى لنا خالصا مخلصا من بين هؤلاء الأقطاب الأخيار لقمان الحكيم عليه السلام ، لا ينازعنا في سودانيته احد ..... ولن نسمح لأحـد بجدالنا فيه ، مهما بلغ بنا الكرم والأريحية السودانية المعروفة أقصى مــداها .
لقمـــان السوداني الحـكـيـم
قيل هو لقمان بن عنقاء بن سدون ... وقيل ان إسم أبيه ثاران ... وبمقارنة تاريخية بسيطة للعهد الذي عاش فيه لقمان نجد انه وعلى الأرجح كان من رعايا مملكة نبتة ، وإفرازا طبيعيا لحضارتها بقيمها ومثلها الروحية السودانية الأصيلة ........
وقد جاء في كتب التوراة ما يشير إشارة واضحة لا لبس فيها ، إلى ان لقمان الحكيم كان من أبناء النوبة العليا (النوبة السودانية) .... ويشفع ذلك كذلك ما تواتر عن سيرته ؛ سواء من حيث سيناريو المكان الذي شهد طفولته ومطلع صباه ، أو من حيث التشريح الجسماني له ..... كان أسود البشرة أفطس الأنف غليظ الشفتين أجعد الشعر قصير القامة قوي البنية مشقق القدمين ... أما المكان الذي نشأ وترعرع فيه فقد شهد له أنه ترعرع وسط الغابات يتسلق شجرها الباسق ويراوغ وحوشها ، ويعدو في شعاب الجبال الوعرة حافي القدمين نصف عار.... وأنه كان كثير التطواف وسط الأدغال.
كان تطواف لقمان اقتناص للتامل والتفكير في ملكوت الخالق المبدع ، وفرصة لتلمس حسن تدبير المولى عـز وجل في كل شيء ...
نام لقمان ذات نهار ، فأتى له في منامه هاتف وبشير من الله عز وجل بالاصطفاء ويخيره بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة .. قيل خوفا على نفسه من أن لا يطيق أعباء النبوة.
وما لبث البلاء والامتحان بعد الإصطفاء أن حل بلقمان حين اختطفه بعض قطاع الطرق ، وباعوه لتاجر رقيق ذهب به بعيدا عن أعين وايدي أهله في السودان ، ليبيعه في اسواق النخاسة مع غيره من ضحايا الرق وليستقر به الحال في أرض فلسطين عبدا لا حول له ولا قوة .....
صبر لقمان وتقبل هذا الامتحان ، والأمل معقود على خالق الكون ورب الناس .... وكان لابد ان لا يصح في النهاية إلا الصحيح. والقاريء بين السطور لعلاقته مع سيده يكتشف أن هذه السيرة تشير إلى وجود نوع لا يخفى من الود والاحترام ، وتنسم لأمانة وتوكل وحكمة وعقل وذهن وقاد يمتلكه لقمان دون تكلف ولا إعـياء او رياء .....
ربما كان لقمان قد وصل في خدمة سيده هذا إلى درجة الأمين على المال والمرافقة الشخصية ، وهي درجة لم يكن الرقيق في تلك العهود يصلونها إلا بشق الأنفس ، وبعد العديد من الامتحانات التي يخضعون لها بمرور السنوات ... ولكن لا نشك في ان لقمان قد وصل إلى تلك الدرجة لدى سيده بسرعة مذهلة لما حباه الله به من حكمة ونزاهة يد .....
سأله سيده مرة أن يذهب بشاة فيذبحها ويأتي له بأخبث ما فيها . فذبح لقمان الشاة وجاء لسيده بالقلب واللسان.
ويأتي طلب سيده منه ان يذهب بشاة فيذبحها ، وياتيه باخبث ما فيها دليل على أن سيده لم يكن يتعامل معه او ينظر إليه بمنظار المسترق إلى الرقيق ، وإنما كان ينشد فيه الحكمة والتعلم والإطلاع .... وقد أخطأ من حام حول هذه الحادثة على اعتبار أنها جاءت محاولة من سيده لإمتحانه . فالسياق يرفض ذلك وينكره. إذ لا طائل من وراء إمتحان على هذا النحو الباهظ التكلفة والثمن ... ولو كان الأمر مجرد إمتحان لذكاء عبد ، لاكتفى منه سيده بمجرد السؤال العابر دون حاجة لتقديم ((قرابين)). أو لربما انتهز فرصة ذبح شاة في مناسبة ما ، ثم يطلب منه على سبيل الونسة أو من وحي اللحظة أن يستخرج منها أخبث ما فيها فيرميه ..... وعادة ما يكون ((أبو كبير)) هوأخبث ما في الذبيحة إن سلمت من حمى الوادي المتصدع.
ثم أمره سيده بعد فترة أن يذهب بشاة أخرى فيذبحها ويأتيه باطيب ما فيها .. ففعل لقمان وأتاه بالقلب واللسان مرة أخرى . فتبسم السيد وسأل لقمان عن سر هذا الاختيار، فأجابه لقمان قائلا:
- إنهما يا سيدي أطيب شيء إذاا طابا وأخبثه إذا خبثا.
كان السيد إذن ينشد في لقمان الحكمة ، وكان لقمان يفكر باسلوب غير نمطي يسعى من خلاله إلى بلوغ المعنى المنشود في التقريب ..... وهكذا كان سيده في مجال طلب العلم لنفسه .. أو ربما لم يكن بهذه الدرجة من الفطنة ، ولكنه كان يجلس القرفصاء تلميذا نجيبا فائق التحصيل في مواجهة الأستاذ المعلـم لـقمان السوداني الحكيم .......
كان يمكن لأي متذاكي لو كان في مكان هذا السيد ؛ أن يحتج على لقمان الحكيم بقوله ، أن الشاة مجرد حيوان لا يعقل وليس منوطا بحمل الأمانة ، وانها لا تنطق ولا تفكر مثل الإنسان. وان الله عز وجل قد خلقها بهيمة انعام ، وأوجدها وسخرها لمنفعة الإنسان المخلوق الأسمى ليس إلا . وهي عجماء بكماء عند إدراجها في خانة لغة التخاطب، وهي على هذا النحو لا تغتاب أحدا بلسانها ولا تبهته ولا تقذف المحصنات ولا تشتم وتحط من قدر هذا ، ولا تهتك عرض ذاك. وهي بالجملة ليست همّازة لمّازة مشّـاءة بنميم ، ولا تاتي بفاحش من قول أو فعل . ولا ترتكب الموبقات ولا تأكل حراما ولا تستلم رشاوي وعمولات وتستغل النفوذ وتسرق المال العام، أو تأكل مال صدقة أو زكاة أو مال يتيم ، ولا تخطط لتدمير مستقبل زميل ... وهي إن شطح بها التفكير ، فإنما يكون في حدود مأكلها ومشربها وإرضاع سخلها . ولا تسعى للنكاح إلا في موسم التزاوج ولفترة محددة معينة ، بغرض التناسل والتكاثر لا بغرض اللذة والمحبة والعاطفة الجارفة كما يفعل بنو البشر طوال العام حلالا كان ذلك داخل غرف نومهم الخاصة ، أو بين الركام وفي جنح الظلام مع سبق الإصرار والترصد تحت طائلة الحرام .... بل إن ما ينداح في جسدها إنما هو حياة وليس روح ..... وأن الأمر بالتالي لن يصبح منطقيا إلا في حالة واحدة فقط ؛ هي أن يذهب لقمان بإنسان بالغ راشد عاقل قوي البنية ، فيذبحه ثم يأتي بلسانه وقلبه على اعتبار انهما اخبث ما فيه تارة وأطيب ما فيه تارة اخرى.
...... هكذا إذن جرى الفهم المتبادل بين الحكيم والمتلقي الذكي حين افترض كلاهما أن المقصود هو الإنسان.
علاقة لقمان بمملكة نبتة السودانية:
من آثار مملكة نبتة شمال السودان
مضت الأقدار بلقمان في أرض فلسطين حيث يفيد السياق أن سيده قد أعتقه على نحو ما سواء بالمكاتبة او لوجه الله ، فكلاهما جائز وكان معمولا به لاسيما في عهود الصحوة الأخلاقية التي تواكب مبعث الرسل والأنبياء ....... وقد اشتهر لقمان في تلك البلاد المقدسة بالحكمة والطهر والأمانة والعفاف ، فزاد احترام الناس له ووصلت شهرته إلى أقصى مداها ، فجرى اختياره قاضيا من ضمن القضاة في بني إسرائيل على عهد النبي داود عليه السلام ..... وعليه فلا شك ان لقمان قد عايش الفترة ما بين عامي 1043 ق.م و 973 ق.م على اقل تقدير...... وهو من ناحية اخرى مؤشر بالغ الأهمية على ان لقمان الحكيم كان أحد رعايا مملكة نبتة السودانية التي ازدهرت ما بين عامي 1600ق.م و 664 ق.م في وقت ساد فيه الظلام مصر بسبب حروب أهلية ...... وهذا يسلط الضوء أكثر على جذور الحضارة السودانية التي أنتجت مواطنا بهذا الثقل والحجم ؛ ليس في ميزان البشر والتاريخ فحسب بل في ميزان خالقه وبارئه عز وجل .. ويلقي الضوء على مدى ما نمتاز به نحن السودانيين على وجه العموم من نقاء وصفاء وقدرة على الخلق والإبداع . وحيث لا نزال نتمتع بكثير من الصفات الأخلاقية الإيجابية التي بلغ فيها مواطننا لقمان القمة وهام الشهـب والنجوم.
تحرر لقمان الحكيم السوداني من ربقة العبودية بمجهوده ونتاج ذهنه وبصائر ومنحة من خالقه وحده الذي لا إله إلا هو ولا نعبد إلا إياه ..... ثم ليصبح من بين القضاة على من؟؟؟ على بني إسرائيل الذين قال خالقهم في سلبياتهم من كلمات ومعاني لن تنفذ حتى لو كان البحر مدادا لها ...... وعليه فكان لا بد أن يكون لقمان شخصا متفردا في الرقي والحكمة والذكاء ، حتى يستطيع الجلوس للفصل بينهم في قضاياهم وأطماعهم ومكائدهم المتبادلة فيما بينهم أو تلك التي يدبرونها للآخـرين.
وقد قيل أن لقمان لم يألُ جهدا في منح عمله بالقضاء عصارة خبراته وصفاء سريرته ونقاء قلبه ومزيج حكمته ، فرضي عنه الجميع وصار مضرب الأمثال.
السماء لا تمطر ذهبا ولا حكمة:
يخطئ الكثيرون في فهم قوله عز وجل في سورة لقمامن – آية 12: ((ولقد آتينا لقمان الحكمة ...... )) حيث يظن هؤلاء ان لقمان الحكيم كان نائما او مستلقيا على قفاه فوق عنقريب(سرير خشبي شعبي). أو جالسا تحت شجرة مانجو فهبطت إليه الحكمة من السماء هكذا دون جهد منه ..... والمسألة بالقطع ليست كذلك بكل تأكيد .... فالحكمة هنا مثلها مثل الرزق والبنين والصحة وطول العمر والستر والجمال والذكاء وغير ذلك من نعم الله عز وجل التي يمنحها للإنسان لكن تحصيل هذه النعم وصيانتها وتطويرها وحسن إستغلالها يكون مرهونا بتوكل الإنسان على ربه ثم سعيه واجتهاده الشخصي في التحصيل بالعرق والجهد والتصميم والإرادة .... وقد قيل في كتب التفسير ما يؤكد على ذلك حيث يقول إبن جرير: إن الله رفع لقمان الحكيم بحكمته إلى مرتبة القضاء بين الناس فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك فقال له:
- ألست عبد بني فلان الذي كنت ترعى الغنم بالأمس؟
قال لقمان :
- بلى .
قال الرجل:
- فما بلغ بك ما أرى؟
فاجابه لقمان:
- قدر الله وأداء الأمانة وصدق الحديث وتركي ما لايعنيني.
المقصود بالحكمة:
ذهب العلماء المفسرون إلى ان المقصود بالحكمة هنا هو((الفهم والعلم والتعبير)) ..... وقد منحها الله عز وجل إلى لقمان ، وأمره أن يستزيدها بالشكر في قوله عز وجل ((أن أشكر لي)) ...... وهناك من يدخل نفسه في غياهب جدال عقيم مفاده هل كان لقمان نبيا ام لا؟؟ وكيف جرى له منح الحكمة ؟؟ ويذهب بعض القدريين إلى الزعم بأن لقمان بعد أن خيّره ربه بين النبوة والحكمة ، اختار الحكمة إشفاقا على نفسه من تبعات النبوة ومشقتها .... وأنه على إثر ذلك أتاه جبريل عليه السلام و((هو نائم)) فذر عليه الحكمة أو ((رشّ)) عليه الحكمة فأصبح ينطق بها .... وهو سيناريو غير مقنع وفق قناعات "إسعى يا عبد وأنا أسعى معاك" ....
القـدرية عـند لـقمـان وأهـل السودان:
لا تكاد تقرا قولا للقمان الحكيم إلا وترى فيه بالفعل عادات وتقاليد وقيم ومثل أغلب اهل السودان والتي لا يزالون يتوارثونها أحفادا عن آباء وأجداد عبر التعامل اليومي وتشكل لديهم الأساس الذي لا يمكن تجاوزه ...... فالقدرية عندنا إذن تعني الامتثال لأمر الله خيرا كان أو شرا ، دون تواكل عند طلب الكسب أو تضعضع عند مواجهة المشاكل ...... وأن للإنسان دور كبير في التعامل مع هذا الـقـدر بالمقدرات المتاحة له كمخلوق ... فالقـدرية قد تمنح أحدهم الذكاء الحاد. ولكنها وحدها لا تجعل منه مثلا مهندسا مبدعا خلاقا في مجال البناء والتعمير . وإنما الذي يجعله كذلك هو الشق المتعلق بسعيه ومجهوده هو كفرد ، فيلتحق بالمدرسة ويتدرج في مراحل التعليم ويواظب على دروسه وتحصيله العلمي ، ويأتي بمجموع ونسبة تدخله كلية الهندسة إلى أن يتخرج . وقد يلتحق بدراسات الماجستير ثم الدكتوراه ...... ثم لا ينتهي الأمر عند هذا الحد وإنما يتطلب مواصلة الإطلاع وإعمال العقل للتخطيط السليم وإلا فإنه سيصاب بالتكلس ويصبح محنطاً يطارده الفشل الذريع.
........ ولأجل ذلك وعلى الرغم من أن لقمان الحكيم كان يشدد دائما على أن الله عز وجل هو الذي منحه نعمة وموهبة الحكمة ؛ إلا أنه كان يؤكد على سعيه لتاصيل وصقل هذه الموهبة والنعمة بالجهد الذاتي النابع من دواخله ..... وهاهو مرة اخرى يرد على سائل استغرب فيه ما وصل إليه من رفعة وسط الخلق ..... وقد جاء عن عمر مولى غفرة قال : وقف رجل على لقمان الحكيم فقال:
أنت لقمان أنت عبد بني الحسحاس؟
قال : نعم.
قال: أنت راعي الغنم ؟
قال: نعم.
قال: أنت الأسود؟؟!
قال: أما سوداي فظاهر. فما الذي يعجبك من أمري؟؟؟
قال: وطء الناس بساطك وغشيهم بابك ورضاهم بقولك.
فقال له لـقمان:
- يا إبن أخي (أنظر حلاوة اللسان في قوله يا إبن اخي) إن أصغيت إلى ما أقول لك كنت كذلك ، ثم تابع قوله: غضي بصري وكفي لساني وعفي طعمتي وحفظي فرجي وقولي بصدقي ، ووفائي بعهدي وتكرمتي ضيفي وحفظي جاري وتركي ما لايعنيني ، فذاك الذي صيرني إلى ما ترى.
..............
إن المتفحص لهذه الصفات التي أوردها لقمان الحكيم في وصقه لذاته يجد أنها ليست بالمستحيلة على الإنسان العادي ناهيك على الصالح المختار .... وبالفعل نرى أناسا كثر في السودان سواء من بين الأهل او الجيران او زملاء العمل يتصفون بهذه المزايا جميعا دون ان يتكلفوها ... وهم مع ذلك لا نراهم في صلاتهم وصيامهم وزكاتهم وصدقاتهم اكثر من غيرهم ؛ بل يؤدونها على الوسطية والمعتاد ..
صبر لقمان وعلاقة الأب بإبنه:
وقيل ان لقمان تعرض في حياته لأقسى ما يمكن ان يتعرض له إنسان إلى جانب فقده لحريته وحقوقه المدنية ، وهو فـقـده لكافة ابنائه عــدا إبن واحــد ، فصبر على قضاء الله وقدره .... وكان كلاهما لبعضهما نعم الأب ونعم الإبن ..... هكذا يفهم من يقرأ الآيات الواردة في سورة لقمان بتمعن وتؤدة ..... فقد كان لقمان قوي الارتباط بإبنه يحرص على متابعته دون أن يحجر على حريته أو يسجنه داخل قفص من حنان وحرص والد على حياة ونجاح ولده ... وإنما كان يتعامل معه بالرفق واللين ، فهما ابلغ في الإقناع ، وتجعل الإبن يألف أبيه ويزداد التصاقا به وقناعة بخبراته التي يحاول تشريبها له حرصا على مصلحته وجريا على عادة كل أب....... وأتوقع أن عمر الصبي إبن لقمان كان وقتها بين سن السابعة والرابعة عشر ، إتساقا مع توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى احد صحابته فيما يتعلق باسلوب تربية الولد حيث ارشده بقوله : ((لاعبه سبعا وادبه سبعا وصاحبه سبع)) ....... بمعنى أن على الوالد ان يتدرج في معاملته لولده خلال مراحل حياته فيتركه يمرح ويسعد بطفولته حتى يكمل الولد سن السبع سنوات ... (وقد ثبت بالفعل أن الطفل لا يصل إلى مرحلة التمييز إلا عند الثامنة من عمره) ثم يبدأ بعدها في تعليمه السلوك القويم ومتابعته ومراقبة تصرفاته من سن السبع سنوات وحتى يكمل سن الرابعة عشر وهي بداية مرحلة المراهقة ، فيعدل الوالد من أسلوب التربية فيبدأ في التقرب إلى عقل ولده ومعاملته معاملة الإنسان العاقل ، واستشارته في كافة الأمور حتى يكسبه الخبرة في التعامل مع الناس والحياة إلى أن يصل الولد إلى سن الرشد وهي 21 عام فبتركه ليتخذ قراراته بنفسه، والوقوف إلى جانبه على سبيل المؤازرة دون محاولة محو شخصيته والهيمنة على عقله وعواطفه ....... وكما يقول المثل الشعبي السوداني : ((ولدك كان كبر خاويهـو))....... وهناك للأسف الشديد بعض الاباء الذين يصر بعضهم على ضرورة أن ينشأ ابناءهم على نفس المفاهيم والنسق الذي نشأ عليه آبائهم .... وهذا بالطبع مستحيل قبل أن يكون فسادا في الراي والتفكير. بل وفيه ظلم فادح على الأجيال الجديدة التي لابد انها ستخرج إلى حياة مختلفة ومفاهيم وأدوات جديدة ، وواقع معاش يختلف عن الواقع الذي عاش وترعرع في خضمه الآباء .... وإذا أراد الأب بنحو عام أن يطــاع فـليأمــر بما يسـتطاع.
نصــائح لــقــمـان لإبنــــــه:
ما من أحد في حاجة إلى إعادة الاطلاع على نصائح لقمان الحكيم لإبنه ..... وعليه ومنعا للإطالة فإن الغرض هو اختيار تلك النصائح التي لا يزال يتفرد بها المجتمع السوداني عامة (إلاّ القليل ممن ظلم نفسه) وذلك بهدف التأصيل لهذه العادات والسمات التي يتميز ويتفرد بها السوداني عن غيره من مجتمعات مجاورة أو غير مجاورة .....
فضائل المجتمع السوداني التي نقلها لقمان إلى العالم:
وحيث يقول الله عز وجل في سورة لقمان ساردا فحوى النصائح التي أبداها لقمان إلى إبنه ومنها :
1- ووصينا الإنسان بوالديه.
2- إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3- الصبر على المصائب.
4- عدم تصعيـر الخد للناس أوالمشي مرحا مختالا فخورا.
5- القصد في المشي وغض الصوت.
ووصينــا الإنسان بوالـديــه:
كان ولا يزال الفرد والمجتمع السوداني بكافة قبائله ، وكذلك من نزح إليهم من الدول المجاورة وعاش بينهم وتعلم منهم واندمج فيهم ..... كان هذا المجتمع ولا يزال يتسم بصفات وعادات وتقاليد قل أن يوجد مثلها في غيره من مجتمعات .... ولا اعتقد أن لقمان السوداني الحكيم كان في نصائحه لإبنه (التي أيدها القرآن العظيم) قد كان يغرد خارج سرب المجتمع السوداني .... كان لقمان السوداني الحكيم في نصائحة لإبنه يتحدث إذن بلسان سوداني مبين ، وبأخلاق ومثل وقيم لا يؤمن بها إلا سوداني ، ويتمسك بها عروة وثقى في الزمن الجميل والصعب والمستحيل على حـد سواء .......
ورغم كل ما أحاط هذا الشعب السوداني العظيم من مآسي وضغوط معيشية خلال مجاعة سنة (1306 هـ) على عهد عبد الله التعايشي ، أو مجاعات وعطش عهد 25 مايو على يد جعفر نميري . وضنك وإهمال واستهتار فترة الديمقراطية الثالثة إثر انتفاضة أبريل ..... رغم كل تلك المحن والإحــن والزمن الصعب الذي مر على الشعب السوداني ، والـذي حدا بكافة علماء الاجتماع إلى التحذير من تفكك النسيج الاجتماعي ؛ إلا أن المجتمع السوداني وكما يقولون ((كذّب الشينة)) ، وقلب كل الموازين وظل صامدا في مواجهة الأعاصير والرياح التي ضربته من كل جانب ، ومن كل حدب وصوب ...... وظل المجتمع السوداني محافظا على تقاليده وقيمه فيما يتعلق بتماسك الأسرة سواء النووية منها أو الممتدة على حد سواء بحسب مقتضيات الحياة وتجاذباتها في العاصمة والحضر والريف بوجه عام ....... وهي وإن كانت متفاوتة في قوتها أو ضعفها ، إلا أن المعايير العامة للعلاقة الأسرية بقيت راسخة دون مساس يسلبها الحد الأدنى من الترابط ...... ورغم أن العديد من المجتمعات العربية الإسلامية قد صرفت النظر في الأغلب الأعم عن هذه الشعيرة الدينية فيما يتعلق بالترابط الأسري وبرّ الوالدين ، فإن الأسرة السودانية ظلت متماسكة في هذا الشان رغم ضيق ذات اليد . ولم نسمع بأسرة طردت الجد والجدة ورمت بهما في ركن قصي في المنزل أو إلى قارعة الطريق أو المستشفى الحكومي العام لأجل تجنب القيام بأعبائهم من مأكل ومشرب وعلاج وكساء وعاية بدنية ..... ويكاد الزوج السوداني بشقيه المرأة والرجل .. يكادان يتفردان أو هما بالفعل يتفردان بعدم وجود المماحكات التي تحدث بين الزوج وحماته (أم زوجته) كما يحدث في مصر على سبيل المثال .... وكذلك العداء السافـر الذي ينشأ منذ صافرة البداية بين الزوجة وحماتها (أم الزوج)..... وغني عن الإشارة أننا لا نستخدم مصطلح حماة الجاف هذا ، وإنما نستخدم كلمة أكثر رقة وتأدبا ولطافة هي النسيبة أوالنسيب. والخالة لأم الزوجة أو الزوج ، والعم لوالد الزوجة أو الزوج.
إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لابد أن لقمان عليه السلام قد نصح إبنه بإقامة الصلاة على دين إبراهيم عليه السلام ((حنيفيا مسلما)) ...... ولا شك أنه قد اهتدى إلى هذه الشعيرة خلال إقامته بفلسطين وملازمته لأتقياء وصالحي وعبّاد بني إسرائيل في ذلك العهد الذي كان فيه داود عليه السلام نبيا عليهم ... ذلك أن نشأة لقمان في أرض النوبة التي كانت على الوثنية في ذلك الحين تنفي احتمال تقبل الله عز وجل لصلوات هؤلاء التي كانت موجهة نحو الأصنام وعبادة آلهة مختلقة شبيهة بآلهة قدماء المصريين من قبيل آمــون و رع .. إلخ
وعلى أية حال فإن الذي تجدر الإشارة إليه هو مدى محافظة السودانيين عامة على أداء فريضة الصلاة في كل الأحوال والظروف رغم ما يجدونه من مشقة خلال فصل الشتاء من استخدام الماء البارد لوضوء صلاتي الفجر والعشاء الذي يدمي اليدين والقدمين ....
وفي مجال الصبر على المصائب فحدث ولا حرج . ولا يحتاج الأمر إلى مزيد إطناب ووصف .... ولكن الذي يكاد لا ينازع فيه السوداني أحد هو عدم تصعيـر الخد للناس أوالمشي مرحا مختالا فخورا ... وتصعـير الخد هنا بمعنى إعراض المرء بوجهه عن الناس إذا كلمهم أو كلموه احتقارا منه لهم واستكبارا عليهم .. وعليه فيكون المطلوب هو أن يلين الإنسان جانبه للآخرين ويبتسم في وجههم ويتواضع لهم ..... وقد قيل أن أصل الصعـر هو داء يصيب الإبل في أعناقها أو رؤوسها حتى تلتوي أعناقها عن رؤوسها . ومن هنا جاء التشبيه ...فالتعالي وحب العظمة والأبهة وإذدراء الآخرين خصال مقيتة نجد السوداني فيها أبعد ما يكون عن الاتصاف بها .... وهي لا تزال محمدة وإيجابية يحسدنا عليها الكثيرون دون أن ندري ...
والمشاهد أن السوداني مهما علا منصبه أو شأنه وعلمه ، فإنه لا يتواضع للناس فحسب بل ويحتال ويسعى بكل ما أوتي من حيلة وعن سابق إصرار وترصد للتواضع وهضم النفس خاصة بين أفراد قبيلته وأهله ووسط الحي الذي يسكن فيه وبين زملائه في العمل .... والتواضع عندما يتسم به أصحاب المناصب والسلطة والنفوذ أو أهل العلم الرفيع ونحو ذلك يكون وقعه أفضل وأكثر تأثيرا لدى الغير ، ويزيد من قيمة صاحبه ويرفع قدره على نحو يكاد يجعله أقرب إلى مكانة أولياء الله الصالحين لدينا في السودان ...... وكم من زعامات وشخصيات سادت ثم انتقلت إلى جوار ربها ... ولم يبقى من سيرتهم سوى تواضعهم يمدحهم به الناس ويطرونهم به عند تناول سيرتهم بين الحين والآخر.
تتميز الشخصية السودانية بالتواضع الفطري .. بل وتتعمد ذلك كلما إرتفع شأنها وإزداد نفوذها
وفي قوله ((ولا تمش في الأرض مرحا)) نهي عن التكبر والإعجاب بالنفس والاتصاف بالجبروت والعناد أوكما نطلق عليه ((نشفان الراس)) ... وقوله ((وأقصد في مشيك)) معناه التزام الوسطية في كل الأمور .. ويذهب المعنى إلى أبعد من مجرد المشي بالقدمين ليشمل كافة تصرفات الإنسان وردود أفعاله ومسلكه في الحياة ، وحتى أسلوب قيادته لعربته ، لا سيما الشباب الذي يعتقد أن قيادة العربة بسرعة مبالغ فيها أو جنونية ، تجعل منه بطلا وفارسا مقداما في عيون الناس ، وخاصة الفتيات وتلميذات المراحل النهائية من سنة الأساس ... في حين أنه بتصرفه ذلك يحط في حقيقة الأمر من قدر نفسه ، ويجعل الآخرين (بمن فيهن الفتيات) ، يأخذون عنه إنطباعا بالتهـور وعدم تقدير المسئولية..... وعلى نحو يؤدي القرب منه والتعرف إليه والتعامل معه إلى عواقب وخيمة.
ووما نحمد الله عليه في السودان أنه لا توجد بيننا الألقاب في التخاطب (من قبيل سيادتك / نيافتك / سعادتك/ معاليك/ يا بيه / يا باشا / يا فندم) التي تنتشر بين الآخرين في المجتمعات العربية والإسلامية المجاورة أو المشابهة ؛ ولا نكاد نسمع بمثل هذه الألقاب سوى في نشرات الأخبار في الإذاعة والتلفزيون على اعتبار أنها في حقيقة الأمر وبحكم طبيعتها ((أبواق دعاية)) تمارس مهنة التطبيل والتهليل خوفا وطمعا ، وصار ذلك جزءا من تراثها ونسق عملها اليومي الذي لا ترضى عنه بديلا . على الرغم من أن محاولات كثيرة جرت من قبل ، لاسيما خلال فترة الهيمنة الشيوعية على نظام مايو 1969م حين فرضت على أجهزة الإعلام إسنخدام ألقاب أكثر التصاقا بالجماهير من قبيل الأخ الرئيس القائد ، و.... الأخ فلان الفلاني عضو مجلس قيادة الثورة ....
ورغم انفراد الخديوية المصرية باستعمار السودان من عام 1821م و 1885م بإسم الباب العالي والخلافة الإسلامية ثم المشاركة النظرية خلال فترة الحكم الثنائي من عام 1898م إلى 1956م إلا أنهم لم يفلحوا في إلباسنا الطرطور أو الطربوش الأحمر سواء أبو زرار أو بدونه مثلما فعلوا بالمصريين وأهل الشام ... ولم يفلحوا كذلك في جـرّنا إلى الولع بتصنيفات وألقاب ودرجات من قبيل أفندي و بيك و معالي وباشا و أفندينا ....اللهم إلا فيما يتعلق بالألقاب المكتسبة من المهنة أو الشهادات الدراسية، يطلقها بعضنا على الآخر على سبيل ((التحبب البرئ)) والإشادة وليس من قبيل النفاق .... وأكثر ما يحب السوداني هو مخاطبته بإسمه وإن كان البعض ممن اغترب في المنطقة العربية على نحو خاص قد بدأ يستخدم الكنيـة في التخاطب من قبيل ((أبو فلان)) و ((أم فلان)) ... لكنها مع ذلك لا تزال تستخدم في نطاق ضيق لا يؤخـذ في الاعـتبار ......
خلاصة القول أننا يحق لنا أن نفتخر بسيدنا لقمان الحكيم ، بوصفه كان مواطنا ينتمي إلى تراب السودان ، وقد استطاع بالفعل نقل العديد من الأخلاق السودانية المتأصلة والمتجذرة لتأخذ مكانها في سياق أشرف الكتب مؤيدة من المولى عز وجل بالثناء والحث على التخلق بها ...... وعلينا كسودانيين أن نسعى جاهدين ، للحفاظ على ما نتمتع به من إيجابيات . وإن كنا كمجتمع لا ندعي لأنفسنا الكمال أو عدم وجود حالات شاذة يجري إفرازها بين حين وآخر ... لكنها تبقى في كـــل الأحـــوال بمثابـــة الشــــاذ الـــذي يـــؤكــد القاعدة.
التعليقات (0)