مواضيع اليوم

رمضان عبر العصور

nasser damaj

2009-09-07 01:44:11

0

رمضـان عـبر العصـور
خليل الفزيع

مر شهر رمضان منذ فجر الإسلام بعهود وسياسات ودول أثرت على عاداته وتقاليده المرتبطة بما يترتب على الصيام من سلوكيات وممارسات لا تخرج عن إطاره العام ولا تمس واجباته وأركانه، فمنذ أن نزل الوحي على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بفرض الصيام، والمسلمون يجلون هذا الشهر ويمنحونه من المهابة والتقدير مالا يمكن وصفه، وقد كتب صيام رمضان على المسلمين في يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر شعبان، من السنة الثانية للهجرة، حيث نزل جبريل عليه السلام مبعوثا من عند الله إلى رسوله الأمين بقوله العزيز:
)يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون(. فبشر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين بفرض الصيام بقوله: (أتاكم شهر رمضان.. شهر خير وبركة.. يغشاكم الله فينزل فيه الرحمة ويحط الخطايا، ويستجيب الدعاء، فأروا الله فيه من أنفسكم خيرا، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله عز وجل) .
ويؤثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أول من جمع الناس على صلاة التراويح خلف إمام واحد ، فقد خرج ذات ليلة في رمضان.. في السنة الثانية من خلافته، ومعه أحد الصحابة، فطاف معه على المساجد فوجد الناس يصلون فرادا فقال عمر: ( والله لأظن أنني لو جمعت هؤلاء خلف إمام واحد لكان أفضل) ثم أمر أبي بن كعب أن يقوم بالناس جماعة. وفي الليلة التاليـة خرج عمر وسره أن يرى الناس يصلون التراويح جماعة. وبذلك يتضح لنا أن صلاة التراويح بوضعها الراهن لم تكن معروفة أيام النبوة الأولى، ولا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وإنما هي سنة من عمل عمر بن الخطاب، ولم يعترض عليه أحد من المسلمين، تنفيذاً للحديث الشريف (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين والمهديين من بعدي.. عضوا عليها بالنواجذ).
وفي العصر الأموي، استمر المسلمون في تعاملهم مع رمضان كما هو الحال في عهد الخلفاء الراشدين، فلما جاء العصر العباسي، اتسمت ليالي رمضان بالاحتفالات التي كانت تقام احتفاءً بالشهر الكريم، وكان الخليفة هارون الرشيد على ورعه واحتشامه وحرصه على أداء الصلاة في أوقاتها، وإكثاره من النوافل والسنن حتى قيل أنه كان يصلى كل يوم وليلة مائة ركعة، لا يتركها إلاّ لعلة، فقد قيل أنه كان ولوعا بالتفنن في إعداد وسائل المرح والترفيه البريء لعامة الناس في رمضان، بما يقيمه من ولائم في قصره أو في الحدائق العامة.. تتسم بالبذخ بما لم يعرف له مثيل.
وفي عهد احمد بن طولون كان الأثرياء في مصر يرسلون خدمهم إلى الأماكن العامة قبيل المغرب.. يبحثون عن الصائمين، ويتوسلون إليهم أن يتناولوا الإفطار على موائد سادتهم، فإذا حدث واعتذر أحدهم عن تلبية الدعوة أرغموه أو هددوه، وإن أصر على رفضه أشبعوه ضرباً وحملوه قسراً إلي منازل سادتهم، ليتناول الإفطار وهو مرغم، ولعل السر في هذا التفطير القسري هو أن الخدم الذين يجلبون أكبر عدد من الناس.. لهم حظوة عند سادتهم.
وفي عهد الفاطميين ، نقلت إلينا كتب السير أن الخليفة المعز لدين الله ، كان يقيم ولائم الإفطار في قصره لعلية القوم، ومثلها في المساجد والأحياء الشعبية لإطعام الفقراء والمهاجرين، فإذا جاء وقت السحور كان نصيب الجميع منه مثل نصيبهم من الإفطار.
وفي عهد الدولة الأيوبية اقتصرت العناية بتكريم شهر رمضان على الاحتفال برؤية هلاله، والاحتفال بليلة القدر بإقامة الأذكار والشعائر الدينية، وتلاوة القرآن وإلقاء دروس الوعظ في المساجد، وحث الناس على محاربة الصليبين الذين كانوا يهددون العالم الإسلامي، في سعيهم لانتزاع بيت المقدس من حوزة المسلمين، وكانت دور الأثرياء تفتح أبوابها للوافدين إليها من الفقراء، ومن جنود الجيش العائدين من الحـرب، فينعمون بإفطار لذيذ وسحور شهي، وسماع آي الذكر الحكيم والأحاديث النبوية الشريفة.
وفي عهد المماليك بلغت العناية بشهر رمضان والاحتفال بلياليه حدا كبيرا، ويؤثر عنهم أنهم كانوا يحرصون على قراءة القرآن من أول رمضان في الجامع الأزهر حتى يختم في ليلة العيد في احتفال مهيب يحضره السلطان وطلبة الأزهر وقضاة المذاهب الأربعة، ثم تفرق الخلع والهبات على العلماء والفقهاء وطلبة الأزهـر والأيتام والأرامل والمرضى والمهاجرين، وتحدثنا وثائق الوقف الإسلامي أن المماليك كانوا أول من رصدوا في حجج أوقافهم، العقارات والأطيان الزراعية، وحددوا ريعها للصرف منها في رمضان على وجوه البر، وفي التوسع في إقامة الشعائر الدينية، وتعمـير المساجد ومساعدة المحتاجين.
أما في العهد التركي فقد كانت لرمضان عناية كبيرة، وكان الوالي التركي يهدي إلى جميع الأمراء وغيرهم من الموظفين وكبار القوم في غرة رمضان.. أطباقاً مملوءة بأفخر أنواع الحلوى، وفي وسط كل طبق صرة بها نقود ذهبية حتى تعم البهجة سائر أركان الدولة، وكانت ولائم الإفطار والسحور تقام في قصـر الخليفة طوال الشهر الكريم، ويحضر إليها كل من يشاء من الناس؛ كبارهم وصغارهم.. خاصتهم وعامتهم، ومن الطريف أن كل من يتناول إفطاره يتسلم بعده مكافأة تسـمى بالتركية (ديش كراي) ومعناها (أجرة الأسنان) وكانت هذه المكافأة توزع على جميع الفئات ، وتختلف قيمتها باختلاف مستويات هذه الفئات، فالأعلى مرتبة مكافأته أكثر ممن هو دونه مرتبة، وهكذا.. الأقل فالأقل.. حتى عامة الناس، أما حراس القصر من الضباط والعسكر، فإنهم يتسلمون مكافآتهم في نهاية شهر رمضان.. كل بمقدار راتبه الشهري، وظلت هذه العادة الإحسانية سنين طويلة إلى أن اقتصرت في النهاية على المقربين من السلطان.
وحدث في أواخر العهد التركي أن أصيبت البلاد بجدب شديد، فاشتدت الأزمـة الاقتصادية، وتمكن الغلاء من الناس، وكان ذلك في نهاية شهر شعبان سنة 1179هـ حتى بلغ الحرمان بالناس مبلغه، فلما بلغ الأمر إلى الأمير طاهر باشا الكبير صدر أعظم الدولة العثمانية، أصدر فرمانا إلى الولاة بوقف جباية الضرائب لمدة عام، وإعطاء كل محتاج من بيت المال القدر الذي يكفيه هو وعياله مئونة قوتهم طوال شهر رمضان وأيام العيد، وأمر الحكام والولاة في جميع البلاد أن يقيموا الولائم في كل بلد لإطعام الفقراء على نفقتهم طوال شهر رمضان من العام المذكور، وأهاب بالأعيان أن يفتحوا بيوتهم للفقراء ولتلاوة القرآن طوال الشهر، ليتذوق المحرومون نعمة الخير، ويتمتع الجميع بروح التآخي الإسلامي الكريم .
هكذا كانت مظاهر الحفاوة بالشهر الكريم في الماضي.. أما في الحاضر فلم تعد تجمع العالم الإسلامي عادة واحدة بعد أن تمزق إلى دويلات، اتخذت كل دوله عاداتها وتقاليدها في التعامل مع الشهر الكريم، وهي عادات تختلف من بلد لآخر، بل أن الدولة الواحدة قد يوجد بين مدنها اختلاف في العادات الرمضانية، كما لم يعد المسلمون يستقبلون رمضان جميعا في يوم واحد، حيث أصبحت بدايته تختلف من دولة لأخرى، ومع ذلك فقد ظل استقبال المواطنين من قبل المسئولين يوما في الأسبوع عادة سائدة في بعض البلدان الإسلامية، حيث يتم تناول طعام الإفطار في جو من الحميمية تسوده مشاعر الإيمان، ويخيم عليه الإحساس بجلال الشهر الكريم، وتمتد موائد إفطار الصائمين في الشوارع والساحات العامة في بعض البلدان، وفي بلدان إسلامية أخرى يتم إحياء الليالي العشر الأخيرة من الشهر الكريم بقراءة القرآن في احتفالية كبيرة وبرعاية الشخصيات الرسمية الهامة في الدولة، لكن المؤكد أن التقنيات الحديثة قد أثرت على علاقة المسلمين بالشهر الكريم، وسهلت عليهم صيامه، ووفرت عليهم كثير م الجهود والمعاناة التي كان تتبذل من قبل الصائمين في الأزمنة السابقة، وكل رمضان والجميع بخير.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات