ركوب أظْهُر المصريين ... باسم الشريعة والدين
بداية لابد أن نبين حقيقة قرآنية هامة جدا وضحها رب العزة جل وعلا في القرآن العظيم ، وهي أن أي إنسان في هذا الكون غير مسئول عن اختيار الآخرين لدينهم ومعتقدهم ومذهبهم ، لأن اختيار الدين حرية شخصية فردية أقرها القرآن الكريم وتكررت في مواضع عـدة لأن هذه الحرية الدينية منحة وهبه وعطاء من الله جل وعلا لكل البشر فليس من حق فرد أو جماعة أن يسلبنا حقنا في هذه الحرية الدينية وليس من حق أي فرد أو جماعة أن يتدخل في هذه المسألة أبدا أبدا ، وكذلك وضح وبين القرآن أن مقابل هذه الحرية في اختيار الدين هناك مسئولية فردية وشخصية عند الحساب ، ولن يتحمل أحد وزر أحد مهما كان من أصدقائه أو أقاربه أو أهله وعشيرته ، الكل عند الحساب سيهرب من الآخرين سَيَـفِـرُّ من أهله وعشيرته وأقاربه وأولاده وأصحابه وحتى زوجته ، سينشغل كل إنسان بقضيته ومصيره ، ولن يجد أحد متسعا من الوقت للدفاع عن غيره أو الوقوف بجانبهم وقت الحساب ، مهما كان يحاول فرض رأيه الديني عليهم في الدنيا ، ومهما كان يحبهم صدقا أو كذبا أو كان محبا لفرض الدين على الناس في الدنيا ، مهما ادعى أنه يريد تطبيق شرع الله في الدنيا ، ومهما ادعى أنه يدافع عن الإسلام في الدنيا فيوم القيامة الأمر يختلف تماما كما وضح ربنا جل وعلا ولأن الحساب في اختبار الدنيا سيكون فرديا لا جماعيا ، يقول تعالى عن هذا الموقف العظيم(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)عبس: 34 : 37 ، وقوله تعالى (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)النحل:111 ، ويقول تعالى يؤكد أن كل إنسان سيأتي فردا وحيدا وسيتخلى عنه كل من وعدوه بدخول الجنة وكل من خدعوه وأقنعوه أنه لو فعل كذا سيكون من أهل الجنة فهؤلاء جميعا سيهربون منه ويتخلون عنه وسينقطع الاتصال والتواصل بينه وبينهم وقت الحساب وعند العرض على الله يقول تعالى ((وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ)) الأنعام:94 ، ورغم هذا الوضوح القرآني إلا أن معظم الدعاة اليوم ومعظم المنشغلين بنشر الدعوة قد رفعوا أنفسهم درجات فوق الأنبياء والمرسلين ، فبينما يقرر ويؤكد رب العزة أن الدين لا إكراه فيه ، وأنه ليس من حق أي إنسان أن يجبر إنسانا أخر على اعتناق دين أو مذهب آخر مهما كان ذا قربى إلا أن هؤلاء الدعاة يتجاهلون كلام الله جل وعلا ويفرضون فهمهم للدين على الناس على أنه هو الدين ويدّعون أن كل من يوافقهم سيكون من أهل الجنة وأهل الحق وأنه على الصواب ، ويدّعون أن كل من يخالفهم هو من أهل النار لأنه على الخطأ وفوق كل ما فعلوه وقالوه استغلوا كل هذا الخرف في الدعاية السياسية ووعدوا أنصارهم السياسيين بدخول الجنة ، والأمثلة القرآنية العديدة التي تكررت في القرآن العظيم تبين وتؤكد أنني كإنسان ليس من حقي فرض الدين على أي مخلوق آخر مهما كنت على يقين أنني على الحق ، وأعتقد أن أنبياء الله عليهم جميعا السلام الذين كُلفوا بتبليغ رسالاته للبشر كانوا على هذا اليقين لأنهم أصحاب دعوة سماوية ومكلفون من الله بتبليغها للناس ، لكن رغم ذلك لم نقرأ في القرآن الكريم آية واحدة تبين أن أحد الأنبياء فضّل نفسه على الناس وتعامل معهم بتكبر وتعصب أو غلظة في عرض دعوته وتبليغ رسالته ، بل كان يركز الأنبياء دائما أن يكونوا قدوة في أفعالهم وسلوكياتهم وحركاتهم وتعاملاتهم مع الناس ، و لا ننسى أن خاتم النبيين قبل أن يبعث نبيا كان مشهورا بالصدق والأمانة بين كفار قريش.
ونذكر بعض أمثلة لبعض المرسلين ، ضرب الله جل وعلا بهم أمثلة رائعة في حرية العقيدة وحرية الاختيار لكل إنسان ، في قصة نوح عليه السلام الذي ظل يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاما وفي نهاية القصة حين أمره ربه أن يصنع الفلك ويحمل فيها من كل زوجين اثنين وكل من آمن معه ، وبعد أن ركب نوح عليه السلام ومن آمن معه في السفينة ظلّ ينادى على ابنه لكي يركب معه فرفض ، وأصرّ على موقفه ومات كافرا يقول تعالى(وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنْ الْمُغْرَقِينَ)هود:42 ، 43 ، وفي قصة إبراهيم عليه السلام خليل الله الذي وصفه ربنا جل وعلا أنه كان أمّة واتخذه الله خليلا ، ورغم ذلك كان أبوه كافرا يعبد الأصنام ويشرك بالله جل وعلا يقول تعالى(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ )الأنعام:74 ، يقول تعالى(وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ )التوبة:114 ، يقول تعالى((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ)الزخرف:26 ، وهنا نموذج رائع في رقي الدعوة وأسلوبها وتسلسل بديع من رب العالمين في حوار طويل بين إبراهيم وأبيه اتمنى أن يتعلم منه المتطرفون والارهابيون الذين يريدون فرض عفنهم الفكري على الناس على أنه صحيح الدين ، وتسول لهم أنفسهم تكفير وقتل كل من يخالف فكرهم البشري وفهمهم للدين ويدّعون أنه سيكون من أهل النار يقول تعالى((وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً))مريم: 41 : 48 ، حين رفض أبو إبراهيم الهداية هو من معه وأصروا على عبادة الأصنام اعتزلهم وتركهم إبراهيم عليه السلام ولم يكفرهم أو يحاول قتلهم ، لكنه ابتعد عنهم.
المثال الثالث في قصة نبي الله لوط عليه السلام وهو من ذرية إبراهيم أيضا ، كانت امرأة لوط كافرة برسالته ، وحين جاء أمر الله إلى لوط ومن آمن معه تركوا القرية بأمر من الله ، وهربوا بدينهم من القرية التي كانت تفعل الخبائث يقول تعالى(وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)العنكبوت:31 : 34.
القصة الرابعة وان اختلفت لكنها تبين وتؤكد أن الإنسان الذي يريد الهداية يهديه الله جل وعلا مهما كان المكان أو الزمان الذي يعيش فيه ، والإنسان الذي يصر على الكفر لن يهديه الله أبدا مهما كان في بيت يشع بالإيمان ولنا موعظة في قصة امرأة نوح وامرأة لوط كأمثلة للذين كفروا رغم أنهن زوجات لأنبياء ، امرأة نوح أكبر طغاة التاريخ التي آمنت بالله جل وعلا رغم أنها تعيش في بيت فرعون موسى الذي ادعى أنه إله مع الله وضرب الله بهذه المرأة مثالا للذين أمنوا ، يقول تعالى(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)التحريم:10 ، 11.
هؤلاء أنبياء الله ولم يستطيع أحدهم فرض الدين على أبيه وزوجته وولده وماتوا كفارا ، ولن ينفع هؤلاء الكفار يوم القيامة قرابتهم من الأنبياء والمرسلين ولن تغني عنهم هذه القرابة من الله شيئا ، وعلى النقيض تماما امرأة فرعون أعتى طغاة التاريخ ضرب الله جل وعلا بها مثالا للذين أمنوا ، إذن من يريد ويصر على تطبيق الشريعة ويتجاهل حقول الناس في العيش بحرية وعدالة وكرامة إنسانية ، ويتجاهل المرضى والفقراء المعدمين ويتجاهل فساد التعليم وفساد معظم مؤسسات الدولة ويتجاهل الفوارق الطبقية الهائلة ولا يفكر إلا في تطبيق الشريعة فهو يخالف آيات وتشريعات القرآن ويرفع نفسه فوق الأنبياء الذين اهتموا بحياة الإنسان وقدسوها ولذلك خليل الله إبراهيم حين ترك زوجته وابنه اسماعيل عند البيت الحرام كانت مطالبه ودعواه لهم تتلخص في أمرين أن ينعم أهله بالأمن(بأمن يتحول المكان الذي تركهم فيه إلى مجتمع متكامل) ، وأن تتوفر لهم سبل العيش(بأن يرزقهم الله من الثمرات ) ، لكن ترك مسألة إقامة الصلاة لهم فقال (لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) يقول تعالى(رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)إبراهيم:37 ، ونستفيد من هذا الموقف أن أي مسئول عن أسرة أو عن دولة يجب أن يهتم بتحقيق الأمن وتوفير احتياجات من يعول ، ويترك لهم حرية الدين لأنها مسئولية شخصية وفردية.
ومن وجهة نظري إن إصرار أي نظام سياسي حاكم على موضوع تطبيق الشريعة هو هروب من مهام وظيفته الأصلية وهي تحقيق مطالب الناس وتوفير حياة حرة كريمة لهم وتوفير كل احتياجاتهم وتحقيق العدالة والمساواة بينهم وفوق كل هذا تحقيق الأمن والأمان ، لكنهم يتركوا كل هذه الإصلاحات الملحة والضرورية التي يحتاج إليها ويشتاق إليها معظم المصريين ويضحكون على الناس ويرفعون شعارات تطبيق الشريعة ، وهنا كل أمة وكل شعب سيحدد مستقبله ومصيره بنفسه وباختياره لأن الشعب هو مصدر السلطات كما يقولون ، فهل سيسمح الشعب المصري لأحد أن يركب ظهره باسم الشريعة أم سيصر أولا على تحقيق مطالب ثورته في العيش بكرامة وحرية وعدالة اجتماعية.
التعليقات (0)