يقال أن الإبداع ضرب من الجنون .. والجنون ما هو إلا شطط في الإبداع، وبذلك لن تصبح مبدعاً حتى تصبح مجنوناً، لعل هذا القول يقترب من الصواب، لكنه يحتاج إلى بعض من التروي، ومساحة إضافية من الفهم حتى نستطيع الوصول إلى بغية القول ومناله.
فجنون المبدع هو، في أحد أشكاله، إتيانه بشيء من غير الواقع يصوغه بطريقته وينميه بمهارته، وفي الحقيقة هو من الواقع، لكنه ليس من الواقع الذي تعودنا عليه، فهو فكرة جديدة على تفكيرنا الذي لم نرض أن نجعله مرناً كي يستوعب أي جديد مقبول علمياً ودينياً ومنطقياً.
فالمبدعون إن لم يلجوا باب الجنون بقوا على شاكلتنا يفكرون كما نفكر وينتجون كما ننتج، ويصنعون ما نصنع، وبذلك لن يكونوا سوى آلة طباعة ونسخ، تعيد وتكرر أول صفحة من سجل الحياة دون النظر إلى بقية ذلك السجل الإنساني الضخم الواسع الذي مازال ينبع في عقول المبدعين.
وأقصد بالمبدعين جميع من أضافوا شيئاً جديداً إلى المكتبة الإنسانية من شعراء وفنانين وأدباء وعلميين ورياضيين وحداثيين وغيرهم في ألوان العلم والمعرفة كافة.
وعلى سبيل المثال: لو بقي أديسون يفكر كما نفكر ويعيش كما نعيش لم نر شيئاً مما قلب به دفة الحياة، وكذلك بيل غيتس، لو رضي بتفكيرنا لم يزد على موظف صغير في إحدى الدوائر الحكومية، يصارع الروتين وينتظر أول الشهر.
ونزار لو لم يشطح بإبداعه، ولو لم يلبس عباءة شيطان الشعر وجنون الخيال، لكان أستاذاً للغة العربية يبدل بزته كل أربعة أعوام مرة، ويدور في أزقة الحارات يبحث عن طالب كسول حتى يعطيه درساً خصوصياً.
ومجنون ليلى أدخله جنونه التاريخ من أوسع أبوابه، ولولا ذلك الجنون لكان راعياً للغنم في أحد الشعاب يعيش يومه ويرضيه الكفاف، ولم نعرفه ولم يقتحم باب الصدارة في مناهجنا الدراسية.
حتى ذلك المجنون الكبير الذي جن وجَنننا معه، لو فكر بالتفاحة كيف يأكلها وما هو طعمها ورائحتها؟ أو لو فكر أهي طازجة أم فاسدة؟ أو لو شرع في شتمها وسبها؟ لأنها وقعت فوق رأسه، لو فكر كذلك لم يكتشف قانون الجاذبية الأرضية الذي قلب موازين العلم وأحدث ثورة في علوم الفيزياء والفلك والجيولوجيا وغيرها.
ونحن في مجتمعاتنا النامية نهضم الفكرة الجديدة حقها ونصفها بالترف العقلي والتفكير الهامشي، ولا تعدو كونها من كماليات الكماليات التي يجب علينا التخلص منها، سداً للذرائع، فكم من عالم وشاعر وأديب ومبدع ومجنون لو أزلنا غبار التجاهل وعدم الاهتمام عنه، لقلب موازين العالم النامي، وجعله العالم الأول، ولكن هيهات أن نهتم بمبدعينا إلا بعد مماتهم .. وكيف نحتفي بهم؟ تكفيهم شهادة تقدير مع مهرجان خطابي.
وبذلك مجنون الإبداع في ديارنا يقف على مفترق ثلاث طرق، إما الهجرة، وإما التلاشي، وإما التخلف العقلي، ولكل طريق من هذه الطرق آلاف الأمثلة الشاهدة.
والآن لا أقول إلا رفقاً ثم رفقاً بمبدعينا ومجانيننا، فهم القفزة النوعية التي نبحث عنها.
http://alroeya.ae/2014/09/15/179442/رفقاً-بالمجانين/
التعليقات (0)