بقلم: ثروت زيد
شدّني عنوان (قروا ولاد يعبد والا عمرهم ما قروا) الذي طالعتنا به صحيفة الحياة الجديدة، ذهب بي الاعتقاد أن الكاتب سيتحدث عن مكانة المعلم ووضعه الاجتماعي، لكنني فوجئت من وصفه للمعلم بالسجان وأفضلية الإضراب للطلبة، من وجهة نظر الكاتب، ليتحرروا من سجنه، وأن قصة يسوقها الجد للطفل أفضل من حضور الطالب حصة تعليمية، وقد أثار استهجاني أن وصف الكاتب أيام حياته في المدرسة بأنها الأسوأ رغم أن لنا كتربويين تفسيرات في ذلك، هممت بالرد عندما وجدت أن ما كتب أثار حفيظة الكادر التربوي معلمين وإداريين على حد سواء، لكن وجدت أن إنصاف المعلم صاحب المقولة هو شيء من الوفاء للمربين الأوائل.
يصلي الفجر حاضراً، ويغمس خبز الطابون الساخن بزيت الزيتون، ويشرب الشاي ويحمد الله، يتسربل بدلته الوحيدة حتى يظهر أمام الطلبة نموذجاً يحتذى به، ويركب حماره بعد أن يضع له المخلاة التي عادة ما تحوي التبن والشعير، ويتجه من عرابة إلى يعبد حيث المدرسة، وفي الشتاء يلف حذاءه بكيس من البلاستيك حتى لا يتلطخ بالطين، وما إن يصل مشارف المدرسة يخلعه ليظهر بحذاء أنيق.
كان الأهل يرسلون أبناءهم إلى المدرسة ووصيتهم للمعلم دائمًا "أطفالنا، محل الرجاء وأمل المستقبل، أمانة في عنقك"، لتستقر هذه الكلمات في وجدان المعلم صاحب الحس المرهف، والمشاعر الجياشة، يستشعر معناها ويدركها بوعي وتبصر، إذ إن للمعلم الدور الحيوي والمحوري في الإسهام بصناعة مستقبل أفضل للأجيال، وعليه تُعقد آمال القيام بالنهضة الحقيقية لمجتمعنا.
لم يدخر جهداً من أجل أن يتعلم (ولاد) يعبد، تتلمذ على يديه في تلك المدرسة، التي بنيت من الحجر والطين، الأطباء والمعلمون والفنيون والصحفيون وغيرهم من الأسماء التي لمع ذكرها على مستوى الوطن، كان دائما يتذكر كلمات أولياء الأمور الدالة على حرصهم في تعلم الطلبة (الك اللحمات والنا العظمات)؛ لم يقصدوا بها العنف الجسدي بقدر ما هي إشارة إلى حاجتهم الماسة لتعلم أبنائهم، لم يحتفظوا بهم إلى جوارهم ليسمعوهم القصص أمام الموقد في الشتاء رغم أن الفحم متوافر بكثرة في يعبد، بل كانوا يدفعون بهم إلى المدرسة في البرد القارس، وفي كثير من الحالات كان الطفل يغطي جسده برداء والده حتى يصل إلى المدرسة، فالمستوى الاقتصادي للمجتمع بغالبيته آنذاك كان مستوراً لا أكثر، وربما كان ذلك من أسباب حرص الأهل على تعليم أبنائهم أملاً بالحصول على وظيفة في المستقبل، ومع تدني المستوى التعليمي آنذاك بين الناس، إلا أنهم يزورون المدرسة كشكل من أنماط المتابعة وشد أزر ابنهم ومساندة المدرسة التي لم تكن سجناً ولم يكن معلمها سجاناً.
لقد عرف معلّمنا أن الطلبة متفاوتون في حبهم للمدرسة، فهذه فروق فردية يعلمها الممتهن لمهنة التعليم، وتختلف كفايات المعلمين في معالجتهم لهذه التحديات وفق خبراتهم ومؤهلاتهم، إلا أن معلمنا كان يبذل جهداً مميزاً سعياً منه لتحقيق تفريد التعلم والتعليم لطلبته، وجعل المدرسة مكان جذب لا نفور، ويعمل على توفير المناخ التعليمي الملائم وضمن الممكن، رغم أنه كان يعلم أن هناك مدارس أخرى في جزء من هذا العالم بيئتها المادية غنية ثرية جاذبة للأهل والطلبة على حد سواء.
عندما يعود الأطفال إلى بيوتهم كثيرًا ما يتحدثون عن المدرسة والمعلم، فمنهم مادح متفاخر بتحصيله وتفاعله مع المعلم، ومنهم المتذمر الذي يخشى أن يظهر تضايقه ليس رهبة من المعلم ولكن خشية من غضب الوالدين، فرضا الأهل من الأبناء طالما قُرن برضا المعلم، ولا يفصح المتذمرون عن ذلك ولا يتحدثون عن ضعف تفاعلهم إلا بعد انقضاء المدرسة وقد يكون ذلك بعد سنين كجزء من الذكريات.
وفي ذات يوم عاصف، سماؤه مزمجرة، وأصوات الرعد تلف أرجاء المكان، خرج معلمنا راكبًا حماره قاصداً مدرسته، الطريق مضاءة بلمعان البرق وهو يلف جسده بما تيسر له من معطف طويل وحبات المطر تقطر من أُذني حماره، يزيح رأسه من عاصفة البرد فالمطر بوجهه أثناء ذهابه إلى الشمال الغربي من عرابة حيث يعبد، وفي منتصف الطريق بين البلدين هناك وادٍ، صوت خرير الماء الجاري به يُسمع من بعيد، حتى في يومنا هذا عندما تدب الحياة بالوادي يقطع الطريق بين البلدين رغم أن جسرًا بني عليه، ويحيط بالوادي أرض طينية هي امتداد لسهل مرج ابن عامر، إذ إن التحايل على الطريق أمر غير ممكن، حاول معلمنا عبور الوادي دون جدوى، وبعد محاولات عديدة وصراع مع المطر والبَرد قرر أن يعود أدراجه والأسى يتغلغل في قلبه على فقدان طلبته يوماً دراسياً، وبصوت متهدج يحمل الحزن العميق والاستنكار للظروف المادية وعدم قدرته على التغلب على تحدياتها دون أن يتذكر راتبه الذي لم يكن إلا صاعاً من القمح وقليلاً من الزيت وأموراً أخرى، وكأنه يحاكم نفسه محدثًا حماره وشفتاه ترتجفان توترًا ليقول ( قروا ولاد يعبد وإلا عمرهم ما قروا)؟؟
التعليقات (0)