رغم صرف الملايير
مازالت طرقات الأقاليم الجنوبية تقتل
تحصد حوادث السير الكثير من الأرواح وتخلف آلاف الجرحى وتكبد الاقتصاد الوطني خسائر فادحة، تقدر بأزيد من عشرة ملايير درهم أي ما يناهز 3 بالمائة من الناتج الداخلي الخام. ورغم تنظيم العديد من الحملات التحسيسية لتوعية مستعملي الطريق بمخاطرها، وتقوية الترسانة القانونية بهدف الزجر، تبقى طرق الأقاليم الجنوبية موصوفة بالطرق القاتلة.
لقد وُصفت حوادث السير بمختلف الأوصاف القدحية والدرامية... من حرب الطرق إلى الحرب القذرة، إلى حرب بدون أمجاد. إنها حرب تقتل الآلاف كل سنة، وتخلف آلاف المآسي الأسرية والاجتماعية، فضلا عن التكاليف المالية والاقتصادية. وتبقى نتائج الحملات والإجراءات المتخذة والحرب المعلنة باستمرار ضد حوادث السير بالأقاليم الجنوبية بدون نتائج حاسمة ما دامت دوامتها مستمرة وأسباب استمرارها قائمة كما هي.
على المستوى الوطني تُلخّص الأدبيات المرتبطة بحوادث السير أسباب الكارثة عادة في مظاهر تكاد تكون تقنية محض ترتبط بالعاملين البشري والميكانيكي. وهكذا تكون الأسباب الرئيسة لحوادث السير تتلخص في عدم التحكم في القيادة، وتقصير الراجلين والسائقين في اليقظة، وعدم احترام أسبقية المرور، والسياقة في حالة سكر، إضافة إلى الإفراط في السرعة، وعدم احترام إشارات المرور. أما العوامل غير البشرية فيجري حصرها في الحالة الميكانيكة للسيارات، وفي الحالة السيئة لشبكة الطرق، وكأن هذين المعطيين مستقلين عن إرادة الإنسان، إن التشخيص قلما ينفذ إلى عمق المشكل المتمثل في كيفية تَمثّل السائق والراجل ورجل الأمن ومختلف المتدخلين لقانون السير، وللقانون عموما، بما يحيل، في نهاية التحليل، على موضوع المواطنة ودولة القانون كإطار لتنظيم العلاقات على أساس احترام المبدأ الأولي المتمثل في الحق في الحياة. إلا أن الأسباب في الأقاليم الجنوبية مختلفة في غالبيتها عن طبيعة الأسباب المشخصة في الشمال ووطنيا، نسوقها في هذه الورقة، دون اعتماد أي ترتيب، ومن ثم إن التطرق إليها بالشكل المعروضة به لم تخضع لأي معيار تراتبي.
حالة الطريق
رغم كل الجهود التي بُذلت والملايير التي صُرفت على الطرقات الرابطة بين الأقاليم الجنوبية، مازالت وضعيتها وحالتها من الأسباب الكامنة وراء العديد من الحوادث المميتة التي شهدتها الطرق الرابطة بين سيدي إفني وكلميم، وهذه الأخيرة مع الداخلة مرورا بطانطان والعيون وغيرها من الطرق الأخرى.
لازالت هذه الطرقات ضيقة قد لا تسمح باحتضان شاحنتين لحظة تقاطعهما، إذ تضطر إحداهما إلى الخروج إلى حافة الطريق، أو على أقل تقدير خروج كلتاهما جزئيا.
ظل ضيق هذه الطرقات يشكل أحد الأسباب المهمة والمستمرة في حدوث جملة من حوادث السير المميتة، التي حصدت الكثير من الأرواح. وتزداد الخطورة إذا علمنا أن هذه الطرقات تشهد مرور كزفات الجيش والشاحنات الضخمة التي تستعمل في نقل المعدات الثقيلة، سواء المدنية منها أو العسكرية لاسيما ليلا.
ضيق جنبات الطروقات
إن أغلب الطرقات الرابطة بين مدن الأقاليم الجنوبية معروفة بالحيز الضيق لجنباتها وبعلو جزئها المبلط "المزفت" عن السطح الأصلي للأرض.
إن الحيز الضيق جدا لحافة الطريق، بين "الإسفلت" و الوهد ( le petit ravin ) لا تسمح بوقوف سيارة عادية خارج الطريق، فضلا عن السيارات الكبيرة والشاحنات، مما يدفع أصحابها لترك عرباتهم جزئيا على الطريق، وهذا ما يشكل خطورة أكيدة على مستعملي الطريق في النهار، أما ليلا إن الأمر يصير بمثابة انتحار محقق لا شك فيه.
الترقيع عوض الترميم بالمقاييس المتعارف عليها
بفعل اعتماد نهج الترقيع و"البريكول المناسباتي" في التعاطي مع صيانة أغلب الطرق الرابطة بين مختلف مدن الأقاليم الجنوبية، والتي صُمّمت أصلا لتكون عالية نسبيا عن سطح الأرض الطبيعية، ظل هذا العلو يزداد سنة تلو الأخرى إلى حد أن بعض حافات تلك الطرق تعلو عن الطريق بعشرين (20) أو ثلاثين (30) سنتمترا أحيانا، مما حوّل طرفي "الإسفلت" إلى سلاح مميت، كيف ذلك؟
مع الترقيع والتدخل الجزئي المناسباتي في نطاق سياسة ونهج ترميم الطرق المعتمدين خصوصا بالأقاليم الجنوبية، بفعل شساعة المجال والظروف المناخية الصعبة، أضحت طرفي "إسفلت" الطرقات بمثابة حاجز مختلف العلو حسب المناطق، مما جعلها بشكلها خطرا أكيدا على مستعملي الطريق، سواء أصحاب السيارات أو الشاحنات. فما دامت الطريق ضيقة أصلا يضطر مستعمليها إلى الخروج عنها كليا أو جزئيا، حسب الحالات عند التقاطع مع شاحنة أو سيارة آتية من الاتجاه المعاكس، وحتى إن كانت السرعة عادية إن مجرد مغادرة العجلة اليمنى الأمامية عن "الإسفلت" غالبا ما تُلحق أضرارا بالغة بها جراء عُلوّ الطريق غير العادي عن سطح الأرض، وكذلك بفعل حدة منتهى "الإسفلت" على الحافة التي باتت كشفرة السكاكين القاطعة، مما يكون سببا في عدم تحكم السائق في سيارته؛ وهذا ما أدى إلى الكثير من الحوادث المفجعة. وأحيانا يكون الإضرار بالعجلات اليمنى بالغا وضخما ، إذ قد تتفكك وتنفصل العجلة كليا عن هيكل السيارة وتسقط في الحافة وتنقلب وتتفاقم الخطورة كلما ازدادت السرقة وكان الوقت ليلا.
مرور الإبل على حين غرة من حيث لا يحتسب مستعمل الطريق
لا يخفى على أحد أن الطرقات الرابطة بين المدن في الأقاليم الجنوبية، غالبا ما تخترق مناطق ترعى فيها الإبل دون راع يحرسها ويمنعها من الاقتراب من الطريق. ورغم وجود علامات التشوير لتنبيه السائقين بوجود جمال بالمنطقة - علما أن هذه العلامات تبقى نادرة نسبيا - فغالبا ما يفاجأ مستعملي الطرق الرابطة بين المدن بالأقاليم الجنوبية بمرور جمل أو ناقة على حين غرة من حيث لا يحتسبون فيقع اصطدام لا يمكن تلافيه بأي وجه من الوجوه، لتصبح السيارة وراكبيها تحت وطأة وزن الحيوان؛ نظرا لكبر حجمه وضخامته وبنيته، إذ خلافا للدواب الأخرى، حين الاصطدام لا يقذف الجمل إلى الأمام أو جانبا بعيدا عن السيارة وإنما يجثم عليها ويسقط بكل ثقله عليها.
ومايزال هذا الأمر من مسببات حوادث مرور مميتة بالطرق الرابطة بين مدن الأقاليم الجنوبية، لاسيما في الليل، والتي حصدت الكثير من الأرواح وخلّفت العديد من العاهات المستدامة.
شاحنات نقل السمك تُحوّل الطريق إلى مضمار انزلاق خطير
من المعروف أن الطرق الرابطة بين مدن الأقاليم الجنوبية المتباعدة بينها، لاسيما الطريق الوطنية رقم 1 الرابطة بين تزنيت والداخلة تعرف باستمرار مرور كل الشاحنات المحملة بالسمك الآتية من الجنوب. والكثير من هذه الشاحنات تستعمل الثلج لصيانة وتبريد السمك المحمّل، وغالبا ما يتعرض جزء كبير منه للذوبان على امتداد الطريق ومع مرور الوقت ويبدأ في التسرب وينهمر من الشاحنات على طول مسافات، هذا علاوة على أن العديد من السائقين دأبوا على التخلص من ماء الثلج المذاب دفعة واحدة من حين لآخر على قارعة الطريق دون وازع أخلاقي "مع سبق الإصرار والترصد" ودون أي اكتراث بتعرض حياة الغير للخطر ودون مبالاة بما قد تسبّبه المياه الممزوجة بدهنيات سمكية من متاعب وما تشكله من أخطار أكيدة لمختلف مستعملي الطريق. وتكرّست هذه الآفة طرقات الرابطة بين مدن الأقاليم الجنوبية. وجراء هذا الفعل الجرمي غير المقبول وغير المسؤول باتت أجزاء مهمة من طرقات الجهات الجنوبية - لاسيما الطريق الوطنية رقم 1 - فضاءات انزلاق السيارات والشاحنات بامتياز؛ نظرا للزوجة خليط ماء الثلج المذاب ودهنيات الأسماك المحملة. مما ساهم في خلق العديد من النقط السوداء على امتداد الطريق الرابطة بين تزنيت والكويرة. وكانت العديد من نقطها مسرحا لفاجعات طرقية خلّفت خسائر مهولة في الأرواح والمعدات. والغريب في الأمر، أن هناك مناطق أضحت معروفة الآن بخطر الانزلاق بفعل الممارسة غير المسؤولة لسائقي شاحنات نقل السمك، لكن لم نعاين - على وجه تصرف "من أضعف الإيمان" ليس إلا- لإقامة علامات تشوير كافية لتنبيه مستعملي الطريق والسائقين بهذا الخطر المحدق بهم، لاسيما في الليل عندما يتعذر رؤية حالة الطريق على بعد مسافة كافية من مكامن هذا الخطر قصد الاستعداد النفسي ولاتخاذ الإجراءات الاحترازية الضرورية.
أخطار زحف الرمال
من المخاطر التي ماتزال تحدق بمستعملي الطرق الرابطة بين مدن الأقاليم الجنوبية والسائقين، ظاهرة زحف الرمال بالمناطق الصحراوية، والذي مازال يتسبب في عدد من حوادث المرور متفاوتة الخطورة والانعكاسات حسب الزمان والمكان ونوعية وسيلة النقل المستعملة.
تعد إشكالية زحف الرمال بالأقاليم الجنوبية مشكل مزمن و"مستدام" مازال ينتظر الحل الأجدى لحد الساعة. وقد تم الاكتفاء بحلول وقتية دون فعالية أبانت عن عدم جدواها، إذ يُعتمد إلى حد الآن على الاعتماد على إزاحة الرمال المكتسحة للطرق التي تعيق باستمرار مرور السيارات والشاحنات، كما أنها سبّبت وماتزال تسبّب، هي الأخرى، في جملة من حوادث المرور الخطيرة والمميتة أحيانا كثيرة وعلى مدار السنة. فإلى متى الاكتفاء بالتعاقد مع شركات بعينها تستعمل جارفات من نوع "د4" أو "د8" لإزاحة الرمال المتراكمة على قارعة الطريق على حين غرّة بعد كل عاصفة رملية غير متوقعة وما أكثرها بالأقاليم الجنوبية، علما أن الكثير من نقط تراكم الرمال هذه كثيرة ومتباعدة فيما بينها؟ وقد يحدث أن تبقى الطريق مقطوعة لمدة قد تطول أو تقصر حسب الظروف في انتظار توبّر أو وصول الجارفات إلى عين المكان. هذا فضلا عن الأموال الطائلة التي أضحت تستوجبها تلك التعاقدات من أجل عمليات وتدخلات تبيّن بجلاء أنها غير مجدية أصلا والتي تثقل الميزانية العامة باستمرار وبشكل تصاعدي. ألم يحن الوقت بعد التفكير في حلول أكثر جدوى وفعالية للتصدي لظاهرة زحف الرمال وانعكاساتها الوخيمة على مستعملي الطرق بالأقاليم الجنوبية؟
في السابق، مند عدة سنوات، كان يتم رشّ "الزفت" على الرمال المحاذية للطرق على امتداد مساحات شاسعة لتثبيتها في مكانها، إلا أن هذا الأسلوب باء بالفشل الذريع، فضلا على أنه يُناقض كل مقتضيات الحفاظ على البيئة. لكن هناك تجارب أكدت جدواها وانسجامها التام مع البيئة كفيلة بالتصدي لظاهرة زحف الرمال على بعض الطرق الرابطة بين مدن الأقاليم الجنوبية. إنه زرع واستنبات نبتات صحراوية تتكيف بسهولة مع البيئة في المناطق المشهورة بهذه الظاهرة ، وهذا حل طبيعي من شأنه تثبيت الرمال المجاورة للطرق. ومهما يكن من أمر إن مصاريف هذا المشروع تقل بكثير عما تتطلبه التعاقدات مع شركات خاصة، علاوة على جدواه وفعاليته كما بيّنت ذلك تجارب في هذا المضمار.
غياب محطات للاستراحة ومراكز الإغاثة
إن مستعملي الطرق الرابطة بين مدن الأقاليم الجنوبية مستاؤون للغاية لغياب محطات للاستراحة ومراكز الإغاثة تستجيب لأدنى المواصفات المتعارف عليها على امتداد طريق كلميم-الداخلة وطريق العيون-السمارة وغيرهما، ويكابدون الأمرين بسبب هذا الغياب. فلا وجود على هذه المحاور ولو لفضاء واحد للراحة والاستراحة تتضمن مساحات آمنة محروسة ومرافق صحية نظيفة ومحلات مناسبة للأكل.
وهذا أمر يعتبره الكثيرون أحد مسبّبات الحوادث بتلك الطرقات، إذ يبقى مستعمليها مضطرين للاستمرار في السياقة دون انقطاع رغم التعب والإرهاق لعدم وجود تلك الفضاءات الآمنة.
كما أنه من الملاحظ كذلك غياب محطات توزيع الوقود والتزود به توفّر ظروف السلامة والوقاية المعتادة على تلك الطرق، والتي من شأنها أن تشكل فضاءات توفير جملة من الخدمات لتمكين العائلات والمسافرين والسائقين من قطع المسافات الطويلة والمرهقة في ظروف تقلّل من درجة الأخطار التي ماتزال محدقة بالطرق الرابطة بين مدن الأقاليم الجنوبية المعروفة بمناخها القاسي.
فهناك بعض النقط، جرت العادة أن يتوقف فيها أصحاب السيارات والشاحنات، إلا أنها تبقى فضاءات اضطرارية بفعل عدم توفر غيرها، علما أنها لا تتوفّر على أدنى شروط الراحة والسلامة والآمان والنظافة المطلوبة.
رتابة الطريق ونقص في علامات التشوير الطرقي
تضاف رتابة الطريق ونقص علامات التشوير لتكوّنا مخاطر أخرى ماتزال تُعدّ من مسببات حدوث حوادث مرورية مميتة.
إن طول المسافات بين مدن الأقاليم الجنوبية وغياب التشوير، خصوصا الضوئية منها، تجعل من تلك الطرقات رتيبة لدرجة لا تساعد السائق على الاحتفاظ بالانتباه واليقظة اللازمين بفعل الإرهاق والتعب وغياب المنبهات على الطريق، مما قد يساهم في وقوع حوادث، وهو أمر يقرّ به أغلب مستعملي طرق الأقاليم الجنوبية.
هذا، علاوة على غياب المراقبة ومراكز الإغاثة ومراكز الهلال الأحمر والوقاية المدنية ووجود سيارات الإسعاف المجهزة بما يلزم للتدخلات عند الحاجة في المناطق النائية. لاسيما وأن أرواحا كثيرة زُهقت بفعل بطئ وتعثر التدخل في اللحظة المناسبة في حالة وقوع حوادث خلّفت إصابات بليغة. وهناك أكثر حالات كثيرة ظلت تنتظر قدوم سيارات الإسعاف ساعات عديدة، ولم نعاين يوما أن مروحية عسكرية تدخلت لإنقاذ ضحايا حوادث سير في طرقات الأقاليم الجنوبية رغم كثرة توفرها بالمنطقة، اللهم بخصوص حالات نادرة جدا همّت أجانب، وهذا أمر يدعو إلى أكثر من تساؤل. فما هو المانع لمثل هذه التدخلات في منطقة نائية موصوفة بتباعد المدن والتجمعات الحضرية فيما بينها، أليس الجيش مؤهلا لمدّ يد المساعدة للمواطنين عند الحاجة في مثل هذه الحالات الخاصة، أم أن البيروقراطية مازالت تعيق مثل هذه التدخلات؟
ويظل السؤال المحيّر حقا هو: هل طرق الأقاليم الجنوبية ظلت معرضة للتهميش رغم الملايير التي أنفقت من أجل إحداثها، ومن ثم ظلت طرقا قاتلة؟ وقبل هذا، لماذا لم تعرف هذه الطرقات أي تطور منذ إحداثها على غرار ما تعرفه طرقات الشمال عموما؟ وما موقع طرقات الأقاليم الجنوبية في الاستراتيجية المندمجة الاستعجالية للسلامة الطرقية المعتمدة وطنيا؟
التعليقات (0)