في التاريخ الحديث سُجِّل سبق للجزائر على تونس في احتلالها من الاستعمار الفرنسي سنة 1830 احتلالا عسكريا متوحّشا لغاية فرْنستها واجتثاثها من جذورها العربية الإسلامية واعتبارها مقاطعة فرنسية،في حين تأخّر احتلال نفس الاستعمار لتونس إلى سنة 1881 تحت مسمَّى انتصاب الحماية...لم تعتمد فرنسا نفس الاستراتيجية ولم تخطط لنفس الأهداف في استعمارها لكل من الجزائر وتونس،ولعلّ ذلك من بين أبرز الأسباب المفسرة لتداعيات الأحداث لاحقا في كلا البلدين الشقيقين...
اندلعت الثورة المسلحة التونسية ضد الاستعمار سنة 1952 في حين تأخر اندلاع الثورة الجزائرية إلى سنة 1954 التي كانت أكثر دمويّة وعنفا وبالتالي ضحايا ودمارا من مثيلتها في تونس..وفي حين أحرزت تونس على استقلالها سنة 1956 تأخّر استقلال الجزائر إلى سنة 1962...
كالكثير من البلدان العربية،عاشت الجزائر وتونس تجربة الاشتراكية في عهد الاستقلال في اتجاه احتكار السلطة للثروة والقرار السياسي والاضطلاع بكلّ الأعباء التنموية..غير أنّ تونس سرعان ما تخلّت عن هذا الخيار التأميمي للحياة العامة لفائدة التشجيع على المبادرة الحرّة والاقتصاد الذي ينحو نحو التحرّر التدريجي بداية من سنة 1970،في حين أنّ الجزائر استمرّت في اعتماد ذات الخيارات فتورّطت في نمط سياسي واقتصادي متخلف إلى أواخر الثمانينات تاريخ سقوط المعسكر الشرقي الشيوعي الذي كان يقوده ما يُسمَّى الاتحاد السوفياتي...
لفتت تونس الانتباه بما سمّي سنة 1987 بالثورة البيضاء التي انتقل فيها الحكم من بورقيبة إلى بن علي بشكل بدا سلسا وسلميا ودستوريا صاحبته وعود سياسية واجتماعية واقتصادية مغرية ومحفّزة فتحت باب الإصلاح والديمقراطية بشكل صدّقه،تقريبا،الجميع وانخرطت في مشروعه القوى الوطنية الفاعلة...وكان الجزائريون في ذلك الوقت ينظرون إلى تونس بعين الإعجاب ويشعرون بالمرارة إزاء أوضاعهم المتردّية سياسيا واقتصاديا مما فسّر ما سميت بانتفاضة أكتوبر الأسود 1988 التي عقبتها عملية انفتاح النظام الجزائري بقيادة الشاذلي بن جديد على الإصلاح بالسماح بالتعددية السياسية وهامش وافر من حرية التعبير أفضى إلى استفادة الطرف المحسوب على الإسلاميين من الوضع الجديد في انتخابات 1990 التي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ على حساب الحزب الحاكم جبهة التحرير...ورغم محاولات تعديل كفة موازين القوى والتضييق على الإسلاميين،فإنّ الجبهة الإسلامية فاجأت مجددا بانتصارها في الانتخابات التشريعية لسنة 1991 مما انجرّ عنه إجبار الشاذلي بن جديد على الاستقالة من رئاسة الدولة وإلغاء نتائج الانتخابات وتشكيل قيادة سياسية عليا (المجلس الأعلى للدولة) برعاية المؤسسة العسكرية القوية في الجزائر والمنخرطة تقليديا في الشأن السياسي...منذ ذلك الحين دخلت الجزائر دوامة حرب أهلية دامية ومدمّرة بين السلطة الحاكمة،من جهة،والجناح المسلّح لجبهة الإنقاذ وحلفائه من المتشددين،من جهة أخرى...بالمقابل اكتفى التونسيون،على مضض،بقبول إصلاحات سياسية واقتصادية ترقيعية وأحيانا شكلية انكشف زيفها،خصوصا،مع اندلاع ثورة 14 جانفي 2011 التي أطاحت بنظام "السابع من نوفمبر" ببيانه وميثاقه ووعوده الخادعة والذي احتكره الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وانحرف به لفائدة حكم عائلي مافيوزي...
على وقع الثورة التونسية التي اندلعت شرارتها الأولى يوم 17 ديسمبر 2010 والتي مهدت لثورات "الربيع العربي"،بدا الجزائريون في حيرة من أمرهم وهم الذين اكتووا بنيران "ثورتهم" التي سرعان ما تحوّلت إلى حرب أهلية لم تكد تخمد ألسنة لهيبها إلى اليوم،رغما عما سُجِّل للرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة من جهود موفّقة في إرساء السلم الاجتماعية بداية من سنة 2000 بعد الاستفتاء على "ميثاق السلم والمصالحة الوطنية"...
الأوضاع في الجزائر لا تختلف كثيرا عن تلك التي تعيشها شقيقاتها التي انخرطت في ثورات الربيع العربي،غير أنّ الجرح الذي لم يندمل بعدُ نتيجة القفز إلى المجهول بما ترتب عنه من صراع دموي وفقدان للأمن وانكماش اقتصادي وخيبة أمل،هو الذي يُفسّر حالة البحث عن حلول أخرى للتغيير في دون اللجوء إلى الثورة العنيفة...
ورغم تأصّل طبع المقاومة والثورة على الاستبداد لدى الجزائريين،لا نراهم متحمِّسين اليوم للفعل الثوري وإن أرسلوا برسالات تحذيرية واضحة للسلطة الحاكمة مفادها أنهم مستعدّون للضغط بكلّ الوسائل من أجل الإصلاح الذي يرومونه ويتوقون إليه،من ذلك ما شهدته الجزائر من انتفاضة شعبية بداية سنة 2011 كان لافتا انخراط "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" في تأجيجها كما يُدلّل عليه بيان "نداء النصرة" المُوَقَّع من شيخها عباس مدني ومن الدوحة بالذات بتاريخ 7 جانفي 2011 والذي استهله بالقول :" أيها الشعب الجزائري الأبي،إنّ جبهتك الإسلامية للإنقاذ التي استمدت مشروعيتها من اختيارك الحر،تقف إلى جانبك في انتفاضتك السلمية المشروعة التي تهدف إلى استرجاع حقك المغتصب المشروع والمتمثل في حقك في تسيير شؤون بلادك والتمتع بثرواتك..."
نسوق هذا لمحاولة وضع الرّاهن في سياقه التاريخي والتذكير به لغاية فهم إيقاع الأحداث الضاغطة اليوم في كلِّ من الشقيقتين تونس والجزائر...ففي الوقت الذي لم تعد فيه إمكانيّة أخرى في تونس سوى المضيّ قدما من أجل التأسيس لنظام جديد تبدو ولادته عسيرة ومحفوفة بالكثير من المطبّات والمزالق وحتّى مؤشرات "لَيِّ أذرعٍ عنيف" غير مطمئن،يبدو الوضع في الجزائر مُرَشَّحا لعمليّة إصلاح تدريجية وبأقلّ ما يُمكن من الهزّات غير محمودة العواقب مقارنة بتونس وسائر دول الرّبيع العربي...إلاّ أنّ الحال في الجزائر يبقى وقفا وبالدّرجة الأولى على مدى جدّيّة السلطة الحاكمة في المضيّ قدُما على نهج الإصلاح بما يعني القطع مع الحكم التسلّطي والفساد وبالتالي فتح أفق الديمقراطية والحرّيّة والكرامة الوطنيّة التي ينشدها الجزائريون...
لا يبدو قطار الإصلاح في الجزائر يسير على سكة دون معوقات إذ ثمّة صعوبات جدّيّة ناتجة بالأساس عن إرث المؤسسة الحاكمة التي تتنازعها اليوم قوى المؤسسة العسكرية وجبهة التحرير الجزائري ومن يعتبرون أنفسهم الورثة الشرعيين للرّئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي تقدّم به السّنّ ولم يعد من السهل المراهنة عليه إلا كشريك في تأمين انتقال السلطة ديمقراطيا وبشكل سلمي...
خارج مؤسسة الحكم يبدو أنّ الطيف المحسوب على الإسلاميين لم يفقد بريقه وتوهّجه وقدرته على المناورة والتأثير في المشهد السياسي خصوصا بعد ما آلت إليه نتائج الانتخابات من ترجيح لكفّة الإسلاميين في الدول المجاورة للجزائر (المغرب وتونس..)،وبسبب ما يشقّ قوى السلطة من تصدّع وما يسيطر على بعضها من أطماع،وما بدت عليه القوى الحداثية الأخرى من صعوبة في التموقع المؤثر والمقنع ...
إنّ الانتخابات البرلمانيّة التي تستعدّ الجزائر لخوضها يوم 10 ماي 2012 ستكون محطّة حاسمة ومفصليّة في تعزيز مسار الإصلاح المنشود أو انتكاساته بما يُبقي على كلّ الاحتمالات قائمة لبلد تَرْقبُه الأعين في الداخل والخارج بعين يقظة ومتوجّسة،إذ الجزائر ليست تونس،على الأقل،على مستوى الحجم والثروات والموقع الاستراتيجي المحاط بالاحتقان والأسلحة المهرّبة والإرهاب والواقع تحت ضغط أطماع الصراعات الإقليمية والعالميّة...
التعليقات (0)