لن يستطيع شبابنا مقاومة التيارات الإلحادية المعاصرة أو مواجهة أتون الشهوات المستعرة أو الوقوف أمام تيارات المادة الجارفة إلا بجهاد النفس على وفق الشريعة المطهرة وغرس مُثلها وقيمها في قلوبهم لتكون هي الحصن الذي يتحطم عليه كل التيارات الوافدة فإن الانتصار في ميدان القتال في زمننا صار سهلاً لأنه يتم بواسطة المدافع والدبابات والطائرات وغيرها من وسائل الدمار لكن التغلب على نزعات النفس وحظوظها وأهوائها ورغباتها هو الذي يحتاج إلى الجهاد الأعظم جهاد النفس فنحن لا نحتاج لإصلاح أحوال مجتمعنا لتغيير اللوائح والقوانين بقدر حاجتنا الماسة إلى تغيير ما بالنفوس لقول الله(إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)فالذي بالنفس ويجعلها ترضخ للمغريات وتُقبل على الشهوات وتنسلخ من مبادئها هو الطمع والشح والحرص والشَّره والغفلة والحقد والحسد والغل وغيرها من الصفات الذميمة ولا تتغير النفس من نفس أمّارة أو خبيثة إلى نفس لوامة أو مطمئنة إلا بالتخلي عن هذه الصفات واقتلاع هذه الآفات مصداقًا لقول الله(وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ)فكل صفات النفس التي تحجبها عن الأنوار وتُقعدها عن متابعة النبي المختار وتجعلها تخلد إلى دار البوار يجب على شبابنا التنبه إلى أخطارها والعمل على اقتلاعها من جذورها فالنفس كما قال الإمام أبو العزائم في شأنها:
هي النفس للداني تحنُ وترغب وللعاجل الفاني تميل وتطلب
هذه النفس كيف نعالجها؟ وكيف نقضي على شرورها ونزغاتها؟ أباللوائح والقوانين؟ أم بالدبابات والمدافع؟ لا هذا ولا ذاك. أنستطيع أن نُقَوِّمَهَا بالعلم الحديث؟ كلاَّ فإن أوربا جعلت العلم المادي إلهاً يعبدونه من دون الله ويدَّعون أنه يهيمن على كل شئ فإذا سألناهم: ما رأي العلم الحديث في تعاطي الخمر؟قالوا: يحرمها ويجرمها - لأسباب كثيرة يضيق حيّز هذه الصفحات عن ذكرها - فلماذا تشربوها رغم كشف العلم عن مضارها؟! وهذا أيضًا رأي العلم في الزنا وغيرها من منكرات الطباع والأخلاق ولكن العلم وحده ليس عنده القوة التي تدفعني إلى هذه المجاهدات وتلك المكابدات لكن الذي يدفعني لها نور القرآن وهدي النبي العدنان وصلابة الإيمان وقد قال في ذلك سيدنا عثمان بن عفان(إن الله يزع بالقرآن ما لا يزع بالسلطان)فنور القرآن هو الذي يستطيع أن يمنعني من العصيان لكن أمر السلطان أستطيع أن أفر منه أو أتنصل بل أستطيع أن أضيع كل ملابسات الجريمة حتى ولو كان هناك شاهد ملموس عليّ كالبصمة على الإصبع فالبعض يبتر إصبعه حتى تذهب آثار جريمته لكن من الذي يستطيع أن يمحو آثار جريمته ممن يقول للشئ كن فيكون؟ إنه يقول(وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)فالمؤمن الذي يشعر بداخله أن الله يراه يرى حركاته وسكناته ويطلع على خواطره وعلى توجهاته وعلى نياته كيف يعصاه؟إنه لا يستطيع عصيانه حتى ولو كان في خلاء من الناس لأنه تيقن بقلبه أن الله لا يخلو منه زمان ولا مكان وإن كانت عيون الحس لقصورها وضعفها لا تراه لكن عيون القلب تشهد صفات الله وجمالات الله وكمالات الله ظاهرة في كل مظهر في هذه الحياة
وإذا نظرت عيني إلى أي كائن تغيب المباني والمعاني سواطع
إذاً ما الذي يسوق الناس إلى البرِّ وفعل الخيرات ويجعلهم يتمسكون بالفضائل كالهدى والعفاف ويبتعدون عن الرذائل والمنكرات؟ جهاد النفس على نهج شريعة الله وليس هذا الكلام الذي نقوله نظريًا ولكن هناك التجربة العملية الناجحة التى خاضها محمد رسول الله والذين معه وكلنا نعلم ما كان عليه القوم من أخلاق جاهلية ونزعات إبليسية فقد كان بينهم من هو أشد من الشياطين فسادا وضلالا ولذلك قدَّم الله ذكرهم في الآية لخطورتهم على شياطين الجن وذلك في قوله سبحانه(شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا)وكان بعضهم في أفعاله وأحواله أضل من الأنعام ولذلك يقول الله في شأنهم(أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ)فلم يكن عندهم معاني ولا فضائل تليق بتكريم الله للإنسان أو تناسب الكمال الذي أعد الله له الإنسان لكن ماذا حدث؟ كل هذا تغير في طرفة عين على يد رسول الله فقد أصبحوا بعد السفاهة حلماء وبعد الجهالة علماء وبعد الضلالة هداة حتى قال فيهم النبى(علماء حكماء فقهاء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء)لقد طهرهم من صفات الجاهلية وخلَّقهم بعد جهاد أنفسهم بالصفات الربانية من الرحمة والشفقة والعطف والبذل والإيثار والعفو والصفح وغيرها وكذلك الأخلاق القرآنية من التواضع والخشوع والإخبات والابتهال والتبتل وغيرها فلما نصروا الله بإقامة شريعته وحفظ كتابه والعمل بأحكام دينه، والحرص على وصاياه وتوجيهاته نصرهم الله على أعدائهم تنفيذاً لقوله(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)إن الذي أضاع حال معظم الناس في هذا العصر اعتقادهم أن ميدان الجهاد في الحصول على الأموال فقط لأن بها تتيسر لهم وسائل الحصول على الشهوات ونيل جميع الرغبات ولذلك سولت لهم أنفسهم أن كل طريق للحصول على المال فهو مباح ولو كان الغش أو الخداع أو السلب أو النهب أو النصب والاحتيال أو الكذب فالمهم أن يحصل على المال بأي وسيلة وبأي كيفية ويبررون ذلك بقولتهم المغلوطة: الغاية تبرر الوسيلة لكن المؤمن يجاهد لتحصيل المال من طريق حلال فإذا انتهى من سعيه على معاشه عمل بقول الله لحبيبه ومصطفاه(فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)فتجده يجاهد في ميدان من الميادين التي أشار إليها القرآن فبعضهم يجاهد ليكون مع القوم الذين يقول الله فيهم(رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ)وبعضهم يرغب في الدخول في مقام(يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)ويكتب في ديوان المحبين فجهاده في التخلق بقول الله(يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ)ومنهم من يودّ أن يكون(مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا)ونحن نطلب هذا المقام في كل ركعة من ركعات الصلاة حيث نقول(اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ)والصراط المستقيم لا يكون بالصلاة فقط ولكن بالجهاد في التحقق بقول الله(وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ)فإذا كنت أطيع الله في القيام بالصلاة وأخالفه بالكذب على عباد الله أو الخيانة للمؤمنين بالله فهذه طاعة مردودة لأن الدين لا بد أن يؤخذ جملة واحدة فالطاعة كما أقوم بها في العبادات لابد أن أقوم بها في المعاملات ولا بد أن أتصف بها في الأخلاق بل قد وصل الأمر ببعض الصالحين إلى التأسي برسول الله حتى في العادات كالنوم والأكل والشرب وما شابه ذلك وذلك لرغبتهم الشديدة في أن يكونوا في معيته إذن فالمؤمن يجاهد في ميدان من ميادين الجهاد التي وضحها القرآن أو بيَّنتها سنة النبي العدنان ويطلب بذلك الأنس بالله أو التلذذ بذكر الله أو التمتع بمناجاة الله بكلام الله أو الدخول في معية سيدنا رسول الله أو الحصول على الدرجات العالية في الجنة أو ضمان الأمان في الدار الآخرة من عذاب الله والدخول في المقام الكريم الذي يقول فيه الله(أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)ومن يفعل ذلك فهو الإنسان الذي تحقق بخلافة الله واستحق تكريم الله في قوله جل شأنه(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)وقد نَبَّه إلى بعض هذه المعاني الإمام عليٌّ حيث يقول فى أبيات اشتهرت له:
أتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
دواؤك فيك وما تبصر وداؤك منك ولا تشـعر
وأشار إلى ذلك أحد الحكماء في قوله:
يا صورة الرحمن والنور العلي يا سدرة الأوصاف والغيب الجلي
فيك المعاني كلها طويت فهل أدركت سِرًّا فيك من معنى الولي؟
فنحن نريد إصلاح النفوس أولا قبل إصلاح القوانين واللوائح وإقامة النفوس الفاضلة قبل إقامة المباني والمنشآت فإصلاح النفس هو الذي عليه المعوِّل الأول في الإصلاح فلو أن فردًا واحدا فقط استطاع إصلاح نفسه لفتح الله به دولاً كاملة لأن الله يهيئ له الأسباب ويفتح له القلوب ويجري الخير على يديه ويسوق البر في ركابه تحقيقًا لقوله سبحانه(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا )وفي هذا العصر الذي نحن فيه لن ينصلح حال مجتمعنا إلا إذا انتشر العلماء العاملون والحكماء الربانيون والأئمة المخلصون يهذبون النفس بعلمهم وحالهم ويخلعون منها الحقد والحسد والغل والبغض ويملئونها بالحب والشوق والوجد والإيثار وينشرون أخلاق الأنبياء وصفات الأولياء فإذا امتلأت القلوب بهذه المعاني فستنحصر الجريمة في المجتمع وتنزوي الأخلاق السيئة وتتوارى الرذائل وسنجد في قلوب شبابنا وبناتنا سدًا إيمانيًا منيعًا يصد التيارات الإلحادية والمادية الجارفة التي يسلطها علينا شياطين أوربا وغواة أمريكا هذا السد الإيماني يجعل صاحبه من الفتية الذين يقول فيهم الله فى كتابه الحكيم(إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)فلو ألقي في وسط جهنم المعاصي في لندن أو باريس أو غيرها فلن يستطيع أي إغراء أو إغواء أن يؤثر فيه أو يفتنه لأن السد الإيماني بداخله يحفظه من ذلك من أين بُني هذا السد؟ من كلام الله ومن سنة رسول الله والعمل بهما بإخلاص طلبًا لمرضاة الله أما الذي ليس عنده هذا السد الإيماني فتجده يبحث عن المعاصي ليرتكبها ويلح في طلب الدواعي التي تهيئ له الدواعي وتتبرج له الدنيا وتتزين له المعاصي ولسان حالها يقول له : هيت لك فيجيبها لسان حاله قائلاً(قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)من الذي يصنع هذا السد ويبنيه في قلوب بنينا وبناتنا؟العلماء العاملون والدعاء المخلصون الذين يقول فيهم الله جل شأنه(وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)
بقى لنا بابٌ كنا نود أن نضعه في هذا الكتاب حتى يكمل في بابه وهو نَظْرَةٌ في المناهج التعليمية الحديثة لإضافة اللمسات الإيمانية عليها خاصة وأن ديننا لا يعارض العلم بل يحضُّ عليه ويرغب فيه ومن إعجاز هذا الدين أن كل ما يستجد من نظريات علمية يقينيَّة تجدها مسطرة في صفحات كتابه المكنون أو مذكورة بدقة بالغة في سنَّة النَّبيِّ الكريم أما الفروض والتخمينات التي مازالت في مرحلة الظنِّ أو التجربة ولم تتأكد مصداقيتها فلا حاجة لنا بها الآن فنحن نحتاج إلى مراجعة المواد الدراسية التي تُدَرَّسُ في الأزهر الشريف لحذف الحشو منها وصياعتها بأسلوب عصري ونحتاج لمراجعة جميع العلوم التى تدرس بالمدارس من العلوم الإنسانية والأدبية، والإجتماعية والعلمية - حتى التاريخية لوضعها على منهج استقرائي علمي وإخراج ما اندسَّ فيها بسبب الأهواء والأغراض والصراعات والعصبيات والتنافس بين الأمم والشعوب أو بين الأحزاب السياسية والفرق الدينية ثم نحن بحاجة بعد ذلك إلى إضافة اللمسات الإيمانية بربط الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بالمناهج العصرية بطريقة تربوية مع التركيز على القيم والأخلاق والمثل والمبادىءالتي تتماشى مع الشريعة الإسلامية وإزاحة الآراء العلمية التي تبث زيفها وما زالت تدرس بمدارسنا على أنها نظرية ثابتة ليس هناك من العلم ما يدحضها كنظرية دارون مع أنها لا تُدَرَّسُ في مدارس أوروبا إلاَّ على أنها كانت نظرية علمية في حقبة الزمن ثم ثبت خطأها كذلك إزالة ما علق بأبطالنا وزعمائنا من أباطيل اندست في كُتبنا أثناء وجود الإستعمار ببلدنا أو بعد ذلك هذا إلى جانب كثير من الآراء والمقترحات التي تتعلق بهذا الموضوع
تم نقل الموضوع من كتاب (تربية القرآن لجيل الإيمان)
http://www.fawzyabuzeid.com/table_bo...ان&id=73&cat=2
التعليقات (0)