رشاوى في الوقت الضائع!
شرارة الثورات العربية الحديثة كان دافعها الرئيسي كما هو معروف، الاحتجاج لسوء الاوضاع الاقتصادية ولكن نظرا لتداخلها مع العوامل السياسية المسببة لها وبخاصة الاستبداد والفساد،فأن الاحتجاجات تطورت بشكل مثير الى درجة المطالبة بأزالة الانظمة من جذورها واعادة بناء الدولة والمجتمع وفق اسس وطنية حرة جديدة قائمة على الدستور واحترام حقوق الانسان...
رعب مثير للانتباه!:
الانظمة العربية المرعوبة بشكل مثير للانتباه من الثورات القائمة وتأثيراتها المحتملة عليها وهي التي كانت تتباهى امام العالم بأستقرارها من جراء استخدامها المفرط للقوة والارهاب والعنف في الحكم،ارادت بطريقة اقرب للغباء الساذج! ان تبعد شبح الثورة او تؤجل وقوعه لحين التكيف معه او ترويضه لغرض البقاء في السلطة لاطول فترة ممكنة!...وغبائها المستحكم الخالي من اللياقات الادبية والدبلوماسية المهذبة اشار عليها ان تمنح رشاوى علنية لشعوبها في محاولة لشراء ذممها بغية اطفاء شعلة الثورة الكامنة في النفوس منذ فترة طويلة!.
والرشاوى العلنية هي منح كافة المنح والتسهيلات من خلال دفع منح مالية مستعجلة ورفع المرتبات او سقف الاجور الى توزيع الاراضي والمساكن ودعم السلع الاساسية او ابداء الرغبة في القضاء على الفساد الذي تسببت به! الخ من العروض السخية المستعجلة الفارغة من النية الصادقة.
الغريب في الامر ان تلك الرشاوى المهينة المقدمة للشعوب العربية! عرضت عليها وكأنها شعوبا باحثة عن سبب مادي بسيط لثورتها المفاجئة وليست بلا ذاكرة او احاسيس او مشاعر او رغبات في العيش بحرية وكرامة وانسانية كبقية الامم الحرة... لم تنطلق من بلد واحد فحسب،بل هي صدرت مجتمعة من اغلب نظمها التي نادرا ما تتفق على شيء وهي مثل الثورات التي انطلقت بصورة جماعية من الشعوب المقهورة،فأن ردة فعل الانظمة ايضا كان جماعيا للمناورة والاحتيال في منع قيام الثورات!...اي اننا امام مباراة واقعية تضم فريقين:الشعوب والانظمة!.
الوقت الضائع!:
التساؤلات الملحة: اين كانت تلك الحكومات من قبل في دفع تلك الرشاوى المهينة وبصورة دورية؟! هل كانت مستهينة بقدرات وردات فعل شعوبها الى هذا المستوى الوضيع من الاحتقار والتجاهل المثير؟!...وهل ان الثورات اذا لم تحدث فأن الوضع يبقى كما هو عليه؟!...
الوقت الان هو بدل الضائع بالنسبة للانظمة العربية في هذه المباراة التاريخية!...ولا ينفع في هذا الوقت بالذات الا التنازل عن السلطة اما بصورة نهائية وهو امر مستبعد لان الطريقة الوحيدة لذلك الاجراء هي الضربة بحذاء الشعب في مؤخرة النظام!...
او التنازل بصورة شبه جزئية على طريقة النظم الدستورية وهو امر مستبعد ايضا لانه سوف يفقدها صلاحياتها وامتيازاتها وبالتالي سوف يكشف عوراتها وعليه فأن الامر الثاني ايضا مستبعد دون اللجوء الى القوة والعنف لانها اللغة الوحيدة التي تعرفها تلك الانظمة واجهزتها الارهابية الفاسدة!...
الوعي الجماهيري الان في اعلى مراحله!...ولم يكن في هذا المستوى من قبل...ابدا! بل ان الرشاوى المهينة التي صدرت في الوقت الضائع لم يجعلها تتوقف عن المطالبة!...كلا فالعكس هو الصحيح! اي ان تلك الرشاوى اصبحت وسيلة دافعة كبرى للجمهور كي ينهض من كبوته ويرفض بيع ضميره وانسانيته من اجل حفنة من المال او المناصب وهي اساسا من املاكه المستباحة!...وعليه فأننا لو نظرنا الى تاريخ بدأ الرشاوى فأنها صدرت مباشرة بعد قيام الثورة التونسية من جانب نظام المخلوع بن علي ورأينا ان الرفض الشعبي كان حاسما لها واستمر في ثورته حتى هروبه الشهير!...وكان التالي هو القذافي السفيه الذي اعلن رشوته والمقدرة بحوالي 24 مليار من اموال الشعب الليبي المتراكمة على شكل منح ومساعدات عينية وغيرها،وهي الاخرى ايضا لم تؤدي الغرض المنشود،فكان اندلاع الثورة الشعبية هو الرد الطبيعي لها.
وكانت الرشوة التي بعدها هي مقدمة من نظام المخلوع حسني مبارك! الا ان الوعي المتميز للشعب المصري رفض وبحزم تلك الرشوة المهينة التي تدل على تجاهل حقيقي لمطالب الشعب الاساسية في الحرية والعدالة والمساواة وازالة الفساد والاستبداد من جذوره...
لم يتأخر النظام السوري عن بقية الانظمة العربية في طرح الرشوة المؤقتة لتهدئة النفوس بغية منع حدوث الشرارة المتسببة منها!...وتلاه النظام الاردني الذي استطاع بسرعة ونتيجة لضعف مطالب المعارضة عند حدود ضيقة في ايقاف الثورة ومنح بعض الرشاوى لغرض اسكات الاصوات المعارضة...
اما النظام البحريني فقد اعلن رشوته في نفس يوم سقوط النظام المصري الفاسد وبطريقة مضحكة لغرض ايقاف الثورة الشعبية التي بدأت ضد نظامه الطائفي المتخلف،وايضا لم تنفع تلك الرشوة المصاحبة لبعض الشكليات الهزلية المتمثلة بأسقاط بعض اذناب النظام في السلطة وتحميلها المسؤولية وكان الاسرة الحاكمة بعيدة عن الحكم وملتزمة بدستور مثالي يحدد صلاحياتها!...واثبت شعب البحرين انه صبر على كذب وظلم دام عقد من الزمن هو استمرار لعقود سابقة ولكنه لن يبقى الى الابد على تلك الحالة حتى لو اعلن النظام السعودي استعداده لارسال جيشه الهمجي او امواله لقمع الثورة المجاورة!.
ولم تنفع رشاوى النظام اليمني الفاسد ايضا في ايقاف الثورة ضده،بل العكس حصل معه مثلما حدث في بلاد اخرى لان طريقة دفع تلك الرشوة لا يمكن قبولها بأي طريقة كانت بسبب المهانة التي تتبعها لو حصل القبول فعلا!.
وبعد قيام المظاهرات في عمان فأن النظام لم يتردد ايضا في استخدام طريقة الرشوة لغرض سحب البساط من تحت ارجل المتظاهرين! من خلال استعداده لتوظيف العاطلين او زيادة الاجور.
القائمة لم تنتهي بعد!...فالنظام الجزائري هو الاخر لحق بالركب! فهو يملك اموالا ضخمة متراكمة من جراء تصدير النفط والغاز ووصلت الى ارقام فلكية الا ان الشعب بقي يعاني من البطالة والفقر دون ان يرى ايجابيات ارتفاع اسعار الطاقة او زيادة الكميات المصدرة،وبقي ينتظر لفترة طويلة تحقيق الوعود الفارغة في استثمارها لخدمة البلاد بدلا من حجزها في البنوك المركزية!مع بقاء حالة الطوارئ وغيرها...ولكن لم يحدث شيئا جديدا حتى انطلاق مارد الثورات المرعب وحينها لم يكن امامها من بد من استخدام خديعة رفع المصاحف المتمثلة بتلك الرشاوى المهينة لتهدئة النفوس الثائرة!.
ثم حط ركب الرشاوى في المغرب والسودان والعراق وبمستويات مختلفة حتى وصلت اخر المطاف الى الكويت ثم الى السعودية! التي كانت رشوتها ضخمة (36مليار) بسبب امتلاكها لفوائض مالية ضخمة ناتجة من تراكم تصدير النفط المرتفع السعر لفترة طويلة! والرغبة في احداث بعض التعديلات على الادارة،الا ان ذلك الاجراء لن يؤدي الى ارضاء الفئات الغاضبة لان للنظام تاريخ طويل في المناورة...وكانت طريقة رجوع الملك المريض بسرعة ومنحه تلك الرشوة مثيرة للانتباه بالرغم من ان المسببات الرئيسية للازمات العربية ليست فقط متعلقة بالواقع الاقتصادي فحسب وان كان امرا مهما بل ان الامر اكبر من ذلك بكثير ويدخل في كافة فروع الدولة والمجتمع!.
مؤتمرات القمة الاقتصادية هي مثل رديفتها المؤتمرات السياسية!...فاشلة ولاشيء جديد منها، والمؤتمر الاخير في الكويت في كانون ثاني(يناير)2009 ليس فقط لم يحقق شيئا مؤثرا على مجمل الاوضاع الاقتصادية بل ان انشغال الجميع فيه كان حول تبرير مواقفهم المهينة من حصار وحرب غزة في حينها!.
والثورات الاخيرة بينت للجميع ان الاوضاع لم تتغير او يمكن توقع تغيرها بعد تلك المؤتمرات بالرغم من ارتفاع اسعار النفط وهو مازال الممول الرئيسي للميزانيات العربية العامة،بل ان الاساليب والطرق القائمة بقيت على حالها بينما وبالمقارنة مع المؤتمرات الاوروبية فأن الفارق كبير جدا لكون الاخيرة تحقق نتائج ملموسة على ارض الواقع وبطرق واساليب مستحدثة!.
ان الامر اكبر بكثير من ان يتم ايقاف عجلة التاريخ بتلك الطريقة البالية التي عفى الزمن عنها...فواقع الحياة وحراكها المستمر لن يخضع او يرحم من هو خارج حاضره بل انه سوف يسحقه عاجلا ام آجلا!...وعليه فأن المطالب الشعبية هي ارفع بكثير من تلك الرشاوى المقدمة من نظم اصبحت خارج مدار التاريخ المعاصر المتمثل الان بالعولمة الحرة...بل هي تعيش في كهوف التاريخ وتستمد منه الوسائل القديمة البالية لايقاف عجلة التطور في كافة المجالات...
ان التغيير الحقيقي ارفع وانزه من طريقة الرشاوى المهينة التي يتم تقديمها وكأنها منة من النظام لشعبه!...ووعي الشعوب اصبح كافيا للتمييز بين التنازلات الحقيقية من تلك الموسومة بالمناورات الشكلية...
الفوز في النهاية سوف يكون لفريق الشعوب بلا شك...ولكن بفارق كبير!.
التعليقات (0)