سلام عليك وعلى الوطن. وعبرك للأهل من المحيط إلى الخليج أحر السلام.
أطمئنك يا عزيزي وأطمئن من حولك, وكل من يمت لك بصلة, إني لا أطالبك برد. فأنت ولو حاولت لا تملك حقه. وان رددت فليس بلسانك, ولا بقلمك, عوّدوك الصمت فاعتدته وأتقنت فنونه. باسمك يتحدثون وبلسانك يعبرون. وعنك يقررون. فما أنت إلا مجرد مقيم في الوطن, دون درجة مواطن. إقامة ليست دائمة ولا مؤقتة, ليست جبرية ولا اختيارية, عصية على التصنيف, وليس لها مثيل في أوطان الآخرين. ومع ذلك تؤهلك لئن تكون, مشروع مغترب, يترقب فرصة سعيدة, أو مشكوك بسعادتها. فجذورك عندهم غير عميقة. يحفرون حولها ليسهل اقتلاعها أو إسقاطها, ولتصبح دون أصل. أو لتخضعه لأصولهم. قد يسهلون لك النزوح, معذرة من كل النازحين, أو السفر للمجهول, لتُدخل لجيوبهم العملة الصعبة, الصعبة عليك السهلة عليهم. فأوطان الآخرين مازالت بحاجة لخدم, ولأيد عاملة رخيصة, يسترخصون كل شيء فيها. قد تصبح مستثمرا من يدري. فتدفع المعلوم ويتقاسم معك المُتنفذون ريع أتعابك لقاء الاستثمار في ملكيتهم, وطنك !!!. ولأنك ستدفع لهم كذلك الرسوم حيث كنت ــ فأنت, مع الفارق الكبير الكبير, كسحابة هارون الرشيد التي خاطبها بقوله اذهبي وأمطري حيث شئت فريعك سيعود لبيت مال المسلمين ـــ لقاء حمايتك في الخارج ورعايتك التي لم تتح لهم الفرصة ليوفروها لك حين كنت بينهم في بلدك, بلدهم, ومن يدري قد يرعونك رعاية فائقة إذا توفرت بك الشروط وعدت يوما زائرا.
عزيزي المقيم مُمتهن الصمت ومُدمنه, أنت لست بعيدا عنا في هذا العالم الذي أصبح كقرية صغيرة. نراك في المحطات الفضائية ــ فالأرضية لا تصلنا ولا ندري الفرق بينهما ــ سعيدا في كل المناسبات, وحتى التي لا يحق لك معرفة مناسبتها. رغم سوقك إليها سوقا أصبحت من مدمنيها وروادها ومتقنا لآلياتها. تفتقدها أن تأخر تنظيمها. تصفق. تهتف. تردد الشعارات المقتضبة, ولكن الغنية بالمعاني (بلاغة). محتقن الوجه. "مرفوع الهامة تمشي". تلوح بالإعلام والصور تلويح الخارج لتوه من معارك التحرير والنصر المبين, والمتحفز لأخرى قادمة اشد ضراوة وأكثر مصيرية. ثم تعود بعد جهدك, غير المأجور, إلى صمتك لتلتزمه. و إلى بيتك وذويك وأولادك, مدمى الكفين والكعبين, بعد رهنك لروحك ودمك هناك, وفقدانك لكل شيء, ليس لفداء الوطن وإنما لفداء أسياده وحماته.
نراك حامدا شاكرا إذا ما أريد فك الصمت عنك, ثانية, لاستطلاع رأيك, استنطاقك, فنحسبك في اليمن السعيد, حين كان سعيدا, تدعو لمن نزّلوا عليك النعم بطول العمر والخلود. ولمن صفعوك بان يقدرهم الله دائما على الصفع. ففي الصفع تثبيت للأمن, وقطع لدابر التآمر. ولان ليس لديك , أو لم يبق لديك, ما تهدية لهم نسمعك تهديهم الأغنيات في برامج ما يطلبه المستعمون, فالجود من الموجود.
عزيزي المقيم ممتهن الصمت, سنسوق لك بهذا الصدد مثاليين احدهما ديني والأخر دنيوي من التاريخ البعيد,( فالقريب ممنوع عليك, ومستعص فهمه, لكثرة الشروح على الحواشي, والتفسير حسب الطلب, وإرضاء الأذواق والأهواء’ وإصرار كل طاغية على دخوله وتسجيل نفسه بسطور من ذهب) متعلقان بالخروج عن الصمت والإصرار على قول الحق.
تصور إلى أي اتجاه كانت ستذهب الإنسانية, وكيف كانت ستكون, لو أن الأنبياء بقوا صامتين حينما كان يُراد تكميم أفواههم. هُددوا بالقتل وعُذبوا ورُجموا, فصُلب عيسى عليه السلام. وضُرب وهُجّر محمد عليه الصلاة والسلام, وأبوا إلا قول الحق وإيصال الرسالة. الم يقل الرسول الكريم وفي أقسى ظروف حياته لعمه: " والله يا عم لو وضعوا الشمس على يميني والقمر على يساري على أن اترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أموت دونه".
تصور لو بقي نواب الآخرون état tiers في فرنسا القرون الوسطى صامتين أمام جور الملوك واحتقارهم لهم, وهم يمثلون يومها 96 % من الشعب الفرنسي, ولوا صمتوا عندما أغلق الملك جمعيتهم الوطنية l’Assemblée و تأكدوا من نيته بحلها. ولو لم يجتمعوا فورا في صالة مجاورة ويقسموا, قسمهم المشهور, على أن لا يتفرقوا إلى حين تشكيل دستور للمملكة. ولو صمتوا عند علمهم بان وحدات عسكرية ملكية ستدخل باريس وتعتقلهم. ولو صمت الشعب عن مساندة نوابه ولم يقتحم سجن الباستيل ويسقط رمزا من رموز الظلم في العصور الوسطى. ويفجر ثورة 1789, ويبدع إعلان حقوق الإنسان والمواطن وما ترتب على ذلك لا حقا والى اليوم.
ونرجو أن لا تفهم من هذا مقيمنا العزيز إننا نريدك نبيا. فقد انتهى زمن النبوة. و لا ثوريا فرنسيا أو بلشفيا. وإنما إن أردت أن تبقى صامتا أن تتقن فن الصمت, السلبي منه والايجابي. الصمت المطلق ووحيد الصفة لا يكون إلا في المقابر وما حولها.
لا أريد التنظير في فلسفة الصمت والتعبير فأعانك الله على ما يُنظّر لك, وبك, وعليك. وإنما القول ببساطة , ولكن ليس دون جدوى, بالفارق بين الصمت عن المرتشي والدفع له , و الصمت عليه ولكن دون دفع, فهذا قد يغير الشيء الكثير مستقبلا. الفارق بين الصمت عن استئساد الموظف عليك حين تطالبه بانجاز معاملة لك, والصمت عند خروجك دون أن تقول له أمرك سيدي. بين الصمت السلبي عندما تسمع نشرات الأخبار التي لانهاية لها مع التعاليق المنفرة والمتخلفة, والصمت الايجابي بالقيام لقضاء حاجتك عند بدئها. الصمت عن المسلسلات المسماة زورا تاريخية, والتي تغزوك من كل المحطات الفضائية ليلا نهارا, وبحلقات لا تنتهي, مازجة الماضي بالحاضر مع تنبؤات المستقبل, والصمت الايجابي المتمثل بإخماد صوت ناقلها.
عزيزي المقيم لا أريد الإطالة عليك, فكل ما هو عندك يبدو لا نهائي. وإنما أريد أن أطمئنك بان غالبية من أخوة لك مغتربون , وباقامات دائمة, قادمون من وطننا العربي الكبير هم أيضا يمتهنون الصمت, ويجيدونه, منقولا معهم في الرؤوس والحقائب من الوطن الأم. الصمت في السياسة فقط. وحين ينطقون يخلطون بين الحاكم والمحكوم والوطن.
يرفضون النطق حين وجوبه, و الحديث عن الغربة وأحوال المغتربين. فيُختار عنهم ناطقون معرفون بذلاقة اللسان, وفن التدليس," وتمسيح الجوخ" والتزلف لذوي الشأن, ليمثلوهم في الوطن ويقدموا صورة عنهم. فتعقد لهم عندكم المؤتمرات والندوات والحفلات. لينقلوا لكم صورة عن الاغتراب والمغتربين, على إنهم جميعا, ودون استثناء, أساتذة جامعات مبرزون, وعلماء مبدعون, وأطباء لا يجارون في طبهم. ورجال أعمال خلاقون. وباحثون طوروا علوم الغرب , وأضافوا على المتطور منها تطويرا على تطوير. وان كل هذا لم يكن ليحدث لولا توجيهات أصحاب السيادة والسعادة من رؤساء وملوك وأمراء عندكم.
لا شك أن هناك أقلية من المغتربين وصلت إلى مستويات مرموقة ومحترمة في ميادين عديدة في بلدان الاغتراب بفضل جهودها الشريفة والجبارة, دون توجيهات من أحد, هذه الأقلية لا تداهن ولا تصمت. تسمى الأشياء بأسمائها. وعليه فهي لا تدخل في عداد وفود المغتربين القادمين إليكم. وحتى لا يقبل دخولها لزيارة الوطن والأهل, والحديث إليكم أخي المقيم. قد يجوز لكم الاستماع فهو لا يتعارض مع الصمت. النطق وحده والملعون.
أخي المقيم قد لا تعلم أن إخوانك المغتربين في أصقاع هذا الكون الفسيح يعدون بالملايين. بينهم ممن لا اقامات لهم. مطاردون من الشرطة. مستغلون من المتسترين على أوضاعهم. موقفون في الحجز ومراكز استقبال الأجانب قيد التسفير. تتدخل لصالحهم منظمات حقوق الإنسان. وتصم عنهم أذانها سفارات وقنصليات بلدانهم. و لا تذكرهم الوفود التي تحدثت لك عنها, فهم غير جديرين بالمفاخرة بهم ويشوهوا سمعة البلد والقائمين عليه.
هناك أخي المقيم أطباء, وحملة شهادات عليا قدموا للعمل في المهاجر، يعملون مع طلاب ممنوحين, وغير ممنوحين ـ رفضوا العودة إلى بلادهم, بعد انتهاء دراستهم بالفوز آو بالفشل ــ بأسواق الخضار. وأعمال التنظيف, وفي دهن الأبنية وكساء الجدران... يصرّح من اقتيد منهم أمام القضاة للمحاكمة بجنحة خرق قانون الهجرة, لعدم حيازتهم على أوراق الإقامة المطلوبة, بأنهم يفضلون السجن على الترحيل. وحين يخبرهم القضاة أن بعد السجن لا بد من الترحيل, يهزون رؤوسهم موافقين, وبهمس يجيبون " لحينها يفرجها رب العالمين".
لاشك انك سمعت بقوارب الموت ــ وأرجو أن لا تكون قد فكرت يوما بركوبها ــ وبغرق غالبية مستقليها مع أحلامهم. أحلام بعمل شريف وكرامة محفوظة, افتقداهما عندكم. لا تنتهي مأساة الناجين بنجاتهم من الغرق, وإنما تبدأ مآسيهم في التخفي, ومطاردة الشرطة لهم, واستغلالهم, والتوقيف في المراكز المخصصة لحجز المهاجرين غير الشرعيين. والمحاكمة. وأخيرا الترحيل إلى البلدان التي قدموا منها.
أسألك أخي المقيم ( وانأ اعلم سلفا انك سوف لا تجيب وتخرق التزاما قطعته على نفسك, ولا قواعد مهنتك, ولا التنكر للنصيحة التي صما حفظتها : إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب).
ــ هل لم تعد بلداننا قادرة على معيشة أبنائها؟.
ــ الم تكن تفعله سابقا وطيلة تاريخها؟.
ـ ألم تكن هدفا للاحتلال لوفرة خيراتها ؟ .
ـ هل لا يصدقنا الخبر السوّاح الأجانب الذين يزورنكم ويتحدثون عن فنادق ومطاعم نادرة الوجود في أماكن أخرى من العالم, و عن مراقص, وملاه, وبذخ أثريائنا أصحاب الملايين من الدولارات وغيرها من العملات الصعبة؟. وعن سيارات لم يروا مثيلا لها في بلدانهم يسوقها أحيانا مراهقون من أولاد هؤلاء الأثرياء حديثي النعمة, وأبناء عظمائنا؟ .
ـ هل حديث بعض الصحف الغربية عن ثروات الأثرياء العرب وعن وبذخهم في الغرب, وعن المتسوقين من أشهر محلات الأزياء والمجوهرات في أوروبا, صباحا, العائدين للديار بطائراتهم الخاصة مساء, مجرد افتراء وهراء؟
ـ أم الأمر متعلق ببدء شح المصادر والثروات الطبيعية والبشرية ؟
ـ أم بفقر في الحس الوطني والأخلاقي والمسؤولية والتخطيط والكفاءة السياسية والإدارية؟.
أليس عجيب هذا السؤال الأخير وغالبية شاغلي الوزارات والإدارات إن لم يكن جميعهم, من أصحاب الكفاءات العليا !!: دكاترة . مهندسون. خبراء. رجال علم. متخصصون في العلوم الدقيقة, والعلوم الاقتصادية, والسياسية, والإنسانية. والدينية. وبشكل خاص من رجال أمن لا مثيل لكفاءاتهم؟.
ـ وأخيرا عزيزي المقيم وأمام هذا كله, الم يحن الوقت بعد للخروج شيئا فشيئا عن آداب مهنة الصمت المطبق؟.
ـ ألا تعتقد معي أن كل مهنة إن لم يتم تطويرها تتخشب وتتكلس, ويتعداها الزمن فتعطي عكس ما يراد منها؟.
ـ أليس اعادة التمرس على قول الحق وتسمية الأشياء بأسمائها, مع فداحة الثمن ــ الذي لا نعتقده أكثر فداحة مما تدفعه يوميا ــ هو الأفضل من الالتزام بقواعد لعبة أكثر راحة للطغاة من راحتها لك؟.
د. هايل نصر.
التعليقات (0)