رسالة كتبت قبل الثورات العربية بأكثر من عامين.
قبل أن يستيقظ المارد بشكل ثورات شعوب أطاحت ببعض الطغاة, وتهز, حتى السقوط, ما تبقى منهم. قبل أن تخرج الملايين في تونس, وفي ميادين التحرير في مصر, وفي اليمن وقبل أن يخرج أحرار سوريا, يا لأحرار سوريا, يتحدون الموت بالصدور العارية, وقبل أن يسقط آلاف الشهداء, ويتهيأ غيرهم للشهادة من اجل الحرية والكرامة الإنسانية وبناء الدولة الديمقراطية. ما أعظم هذه المطالب, إنها تستحق مثل هذه التضحيات. قبل أن يتحرر الوطن العربي كله من الخوف, ويتحرر بعضه من طغاته. أين كنا وأين أصبحنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"سلام عليك, من محيطك إلى خليجك.
سلام على برك وبحرك, شواطئك وصحرائك, سهولك وجبالك, والسلام موصول لعربك وبربرك وأكرادك, لكل قومياتك. لكل طوائفك ومذاهبك ودياناتك.
لا أريد أن اكتب فيك شعرا ـ فانا لست بشاعر ـ و قد أغرقك الشعراء في بحور أشعارهم, الموزون منها, وفاقد الوزن. المقفى, والمنفلت من كل قافية وقاعدة وناظم, فطغى كاذبه على صادقه. ولم يعد ديوان العرب.
ولا قصة أو مقالة أدبية. فقد جعلك العديد من أدبائك قصصا وحكايات, و روايات, واقعية أو خيالية, متداخلة الحبكات و العقد, حلولها مستعصية حتى على مؤلفيها.
ولا رسمك صورة أو بطاقة مزوقة. فرسّاموك اختصروك بلوحات كلاسيكية, أو حداثية, أو عبثية, أو منسابة خارج كل مألوف وخارج الأطر, لا تُظهر ملامحك الواقعية, لتخالط وتنافر الألوان فيها إلى حدود الصراع والكراهية, مستعيرة سماتها وخلطاتها من صور طغاة بلا سمات, معلقة منذ عقود في الزوايا وعلى كل جدران مدنك وأريافك. فلم تعد تشبه أي وطن أو كيان.
ولا بطريقة ممثليك ونجومك, بتوزيعك, على حلقات, في مسلسلات استعراضية, ومسرحيات عبثية.
ولا بلغة أكاديمية, أو خشبية. تغرق في البحث والتحليل والاستنتاج, وتغوص في المجاهيل, غوصا دون خروج منه بمفيد من المعلومات. ومع ذلك يُكّرس قائليها وكتابها, من حملة الألقاب الجامعية, "مراجع", علم وأدب وفن, "للعبقرية".
ولا أخاطبك. معاذ الله, بشعارات حزبية, تختصرك بكلمات. وتحتكرك لبعض الفئات, وتُقصي الجميع عن الوطنية, فتنساك أنت وتهتف مجدا لحكامك بأمرهم, وليس بأمرك.
اكتب لك ببساطة المحب وصدقه, ومن القلب للقلب.
اختلفت فيك المفاهيم, أيها الوطن العزيز, إلى درجة أصبحت فيها بلا مفهوم. ومستعص على كل فهم سليم. فتارة حسب بعضها أنت دولة بعثية محيطية/خليجية. أو أمة إسلامية حسب غلاة متطرفيها, في طور التكوين, وجزءا منها يسعى إلى الكمال والذوبان فيها. أو قطرا غير مكتمل النشوء قبل وحدة غامضة المعالم حتى في أذهان قومييها. و طورا كل دولك دول وطنية مستقلة ذات سيادة, في كل منها مقومات الدولة: إقليم. وشعب. وبشكل خاص سلطة حاكمة تملك الإقليم والشعب معا ملكية خاصة ودائمة, أو تستغلهما, في أحسن الأحوال, بعقود امتيازات شبيهة بعقود امتيازات شركات النفط في بدايات القرن الماضي, تقع على الأرض وما تحتها وما فوقها, وعلى امتداداتك الواسعة. ولمدد تصل إلى 99 عاما قابلة للتجديد.
لا أريد أن أطيل عليك, فقد يثور الرقيب وتذهب كلماتي أدراج الرياح. في رسالة سابقة أرسلتها تحت عنوان "من مغترب إلى مقيم امتهن الصمت" ـــ ومعذرة لمصارحتك, قلة من يتحملون نتائج المصارحة, ويصدقونك القول, ومعذرة لتسميتي الأشياء بأسمائها. مواطنوك أصبحوا مجرد مقيمين فيك دون رعاية أو حماية. وأنت لا تستطيع منحهم درجة المواطنة وحقوق المواطنية. فقدت هويتك فكيف يمكنك منح هوية؟ ـــ لم اطلب منه جوابا على سؤالي و لا حتى رد التحية. فالأجوبة ممن يملك الحق فيها. والقدرة عليها. و لمن له صفة. ولا يعتد بها إن جاءت من متحذلقين أو ناطقين بالسنة متلجلجة أعجمية.
وطني العزيز. يروي التاريخ, صحيحه, انك كنت, في فترة احتلالك واستعمارك, تعتز, أيما اعتزاز, بمواطنيك من أبنائك, بقدر اعتزازهم بك. فالصلة كانت صلة انتماء, وولاء, ومحبة متبادلة, ووفاء. علاقة بين مواطن ووطن. فلا عجب أن قدمت من أجلك الملايين أرواحها قرابين على مذبح حريتك واستقلالك. ألا تذكر المليون ونصف المليون شهيد في الجزائر وحدها؟ كان يعلو اسمك مع سقوط كل شهيد. وباسمك ترتفع الرايات والبيارق. وخوفا وخجلا منك تتخفى البيادق. كنت تمنح الهوية. وبها ترتفع الرؤوس عزة وكرامة . ووحدك تحدد معايير الرجولة والوطنية.
عزيزي الوطن.
في أيام استقلالك الأولى كانت الملايين تخرج زاخرة إلى الشوارع لتحييك, تهتف باسمك بصدق وعفوية. وتلتهب الأكف والحناجر, منادية بوحدة عربية وكرامة وحرية. كانت الآمال والأحلام في عيون الكبار والكهول. وفي عيون الأبرياء من أطفالك. كان الأخ نصيرا لأخيه. وكان الجميع جسدا واحدا, متعاضدا كالبنيان المرصوص بفعله, رافضا كل رص من غيره.
كنت وطنا و مشروع بناء. تسعى بصدق لتأخذ بين الأوطان مكانة أنت جدير بها. فأنت لست دون تاريخ أو حضارة. على أرضك درجت أوائل البشرية. ومنها كانت المعابر لكل صوب واتجاه. واُخترت مهبط الديانات السماوية. ولو لم تكن أهلا وحام لها لوُئدت في المهد وأد بنات الجاهلية. تركت أسفارا, تركت أثارا, وأوابد اعجازية. لم تفاخر عبثا. ولم تُقم حولك الأساطير. ولا ادعيت ما يدعيه نزلاؤك الجدد من مغتصبي السلطة فيك, دون عميق ارتباط, والذين يكتبون عنك وباسمك, فيخزونك بكتاباتهم وتفسيراتهم واجتهاداتهم. ويُعلون "أمجادهم" على أمجادك, وكأنك الحفيد وهم أجدادك.
وطني, معذرة للتذكير بحالك. أنت اليوم خارج التاريخ, وخارج حيز مكانك. صادرك العاقون من أبنائك. قهروك بدبابة ومدفع. وادعوا ميراثك, على عين حياتك. استأصلوا, بكل الوسائل, الشرفاء والمخلصين. وسطوا على تاريخك يطلبون شرعية. وبعد دراسة وتمحيص, وتفسير وتركيب ,اختلف الجميع وتقاتلوا وتناحروا وتفرقوا. فهذا يريد خلافة أو إمارة, وذاك ملكية أو رئاسة أبدية. ومن قعد به الطموح لا يريد إلا اقتطاع مزرعة أو ضيعة أو ولاية. ولكن الجميع أجمعوا, بعد عميق تفكير وتحليل وروية, على تعميم تحليل سفك الدماء. وحجر وقهر النساء. وإلغاء كل معارض. وعلى شطب, من فصيح العربية, كلمات الشهامة والنبل والفروسية. والتسامح والتعايش والشراكة والتعاون , وخصوا, بالشطب واللعن كل اللعن لفظة التداول, واستبدلوها بكلمات من أصول بربرية.
أذكّرك وطني العزيز أن لك امتدادات بشرية في المهاجر. وبالملايين. حملوك ويحملونك في القلوب أينما حلوا. وتقلقهم أخبارك ومآلك. ولا يحمّلونك أسباب الهجر والطرد ومنع الدخول.لأنك أنت نفسك, عفوا, كدت أو تكاد أن تهاجر.
وطني الحبيب
بأم العين رأيت وأرى المئات,من مهاجريك سرا ودون وثائق إقامة أو سفر, يبكون أمام القضاء الفرنسي عند التأكد من ترحليهم وإعادتهم إليك. وأمام استغراب الحضور في المحاكم وتساؤلهم هل هي دموع الفرح بالعودة إليك؟ أم دموع الحزن والخوف وخيبة الأمل والعودة للإذلال والتحقير وغموض المصير؟ هل يبكى مواطن حزنا لعودته إلى وطنه؟ (ويحضرني عندها ما يقال بالعامية: اللي بيدري بيدري واللي ما بيدري بقول كف عدس). والقول: إن عُرف السبب بطل العجب. و أصدقك أيها الوطن, قبل أن تذهب بك بعيدا الظنون, أنها ليست كراهية لك, وإنما لمغتصبيك ممن يُفترض أنهم من بنيك. ودليلي, زيادة على أقوالهم, مطالبة الفلسطيني ومنذ عقود وعقود بعودة من اجلها ينزف الدم والدموع, ويرفض كل تعويضات الدنيا ومغرياتها مقابل التخلي عن تينك وزيتونك. أليست محبة الأوطان من الإيمان.
يلاحق مغتصبوك الجزء المهاجر منك إلى مهاجرهم, ليس لتوفير الحماية والرعاية لهم, وليس للتذكير بالعودة والإعداد لها. ولا لطلب خبرة أو مشورة. وإنما للتهديد وتوزيع التهم بالعمالة والخيانة والتطاول على ذاتهم المعصومة. تهم كتلك الملصقة داخلك بمواطنيك ممن لا يدينون لهم بالولاء كل الولاء. وممن يذكرون بان لهم هم أيضا حقوقا فيك وعليك, تحميها القوانين والشرائع. وبأن عالم اليوم لم يعد عهد السلاطين والقياصرة والعظماء والزعماء.
وان الحاكم خادم شعبه ينتخبه لخدمته, ويعزله ويحاسبه حين الإساءة له, ويطالبه بالتنحي فور انتهاء ولايته. وان القانون فوق الجميع. والوطن للجميع."
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اليوم أيها الوطن العزيز وأنت ترى الثوار من أبنائك في الميادين والشوارع والساحات يُنشدوك مجدا, ويصدقونك وعدا, لك أن تفخر بهم كما بك يفخرون. إنها ثورة وتحرير. ثورة لإعادة الوطن للوطن وللمواطنين.
د.هايل نصر.
التعليقات (0)