سيدي الرئيس،
يقدم ظهري لكرباجِك اعتذارَه الشديدَ فقد كان ينبغي له أنْ يلتهب قبل أن تنزل عليه بقوتك وجبروتِك!
ويقدم وجهي اعتذارَه لكفِّك الغليظة لأنني لم ألطمه قبل أنْ تقترب منه يدُك الكريمة.
أعرف جرائمَك كما أعرف أصابعَ يديً، ومع ذلك فأنا مستسلمٌ لمذلتِك إياي كما يستسلم أيُّ جبانٍ لضربات بلطجي أنزله عنّوَةً من ميكروباص، وجعل يهينه أمام فئرانٍ لم تـَعُدْ للكرامة قيمةٌ لديها.
شاهدتُ خالد سعيد وقد تهشَّم وجهُه، وتكسَّرت أسنانُه، وخرجت روحُه تلعن عهدَ الصمتِ المصري الجبان، واشتركتُ مع الغاضبين في مظاهرةٍ ضـَمَّتْ عدةَ مئاتٍ، وانتهتْ إلىَ تـَوَسُّل واستجداءٍ أنْ تتفضل، مشكورًا، بعمل لجنةِ تحقيق فيما حدث، رغم أنك، سيدي الرئيس، الحَكَمُ، والخَصْمُ، والجلادُ، والقاتلُ،والملوثةُ يداه بدماءِ الشاب الشهيد ومئاتٍ من المصريين الذين قضوا في عهدِك الأغبر، ولاتزال أرواحُهم تـُحَلـّق فوق مصر، وتلعن جـُبنـَنا، وخيـّبـَتنا.
كلنا نعرف أنك المجرمُ الأكبر، وأنك أحدُ أخطر طـُغاة العصر، ولو طلـَبـَتْكَ مـَحكمةُ العدل الدولية فستحتاج إلى عقدٍ من الزمان لكي تَـطـّلع على ملفاتـِك السوداء، ومع ذلك فأنا أثق بك، وأنضم إلىَ جمعيةِ التغيير لكي أطلب منك، وأنا المواطن المسالمُ الفأرُ، أنْ تتكرم بتغيير عدةِ مواد في الدستور تسمح لمصري مستقل أن يترشح في انتخاباتٍ ستنتهي حتمًا بفوزك أو ابنـِك، وتحصل بعدها علىَ شرعيةٍ شعبيةٍ ودستوريةٍ تزيدنا وجعًا، وقهرًا، وألمًا، وحُزنًا، وفقرًا ..
أنا جبانٌ، لذا سأرفض العصيانَ المدنيَّ، وأسخر من الانتفاضة الشعبية، وأكتفي بوضع اسمي في قائمة طويلة، عريضة، قد تضم مئات الآلاف، أو الملايين، ونضعها تحت قدميك لتدهسها، ثم تلقيها في سلة المهملات، فهي تفويضٌ لرجل آخر بالسماح له أن يقف نـِدًّا لكَ، ويطرح نفسَه بديلا، ولو انتخبه ثمانون مليونًا من المصريين، فالنتيجة النهائية لأسرتك الكريمة وربع قرن قادم من أقصى درجات المهانة والإذلال لنا.
أنا جبانٌ، وسأوهم نفسي بالنضال ضدك، وأبعثُ رسالةَ استغاثةٍ لك منك، وأطلب أن ترحمني من قسوتك، وأن تخفف من عمل لصوصك كما تخفف إسرائيلُ حصارَها عن قطاع غزة، وكما يستبدل البلطجي مطواة قرن الغزال بسيف حادٍّ يقطع قبل اللمس.
أنا جبان، فقد وقـَّعْتُ بالأمس على طلب توكيل لمكتب محاماة لمخاطبة وزيري الداخلية والخارجية للسماح لنا، في الخارج، بحق التصويت، وحالي هنا، سيدي الرئيس، كحال من يتم اغتصابه علانية في فناء السجن، ثم يطالب بحقه في الاغتسال بعدها، وبأن تسمح له إدارة السجن بتجديد الفراش!
أنا جبان، لأن ذاكرتي أضعف من ذاكرة ذبابة، وأن ثلاثين عامًا من قهرك إياي ستنتهي بمنحك شرعية كل جرائمك السابقة والحاضرة والمستقبلية عندما أطالبك أن تستمر ديكتاتورًا جاثمًا فوق صدري شريطة أن يترشح أحدنا في عام 2011، وحتى لو حصل على عدة ملايين من الأصوات، فالبقاء لك في القصر، والبقاء لله في الوطن.
أنا جبان، لأنني فنان في إطالة حُكمك، وحتى عندما كاد العصيان المدني ينجح، قررتْ القوى المصرية المعارضة ظاهريًا، والمؤيدة لك من خلف ظهري، أن تجعله عصيانًا في البيت، ودعوة للمكوث أمام شاشة التلفزيون مع فنجان قهوة، فيخف الضغط ُعلى قوى الأمن، ويهدأ الشارع المصري، ثم نوهم أنفسنا بأننا عارضناك، لكننا في الواقع أنقذناك.
أنا جبان، وستجدني رهن إشارتك، صامتًا في البطالة، منافقًا في الصحافة، جبانًا في المصنع، أرنبًا في الشارع، متنازلاً عن كل حقوقي، غافلا عن كل مصاصي الدماء الذين لصـَقْتَ أنيابـَهم في رقبتي، وأينما تـُوَلـّي وجهـَك لن تلتقي عيناك بعينيّ، ولو طلبتَ مني، أنا الأستاذ الجامعي، والمثقف، والعالـِم، ورجل الدين المسلم والقبطي، والسياسي، والبرلماني، والمستشار، والقاضي، والمحامي، والمهندس، والطبيب، والعاطل عن العمل، والمريض بسبب سرطانات عهدك، والتائه في المحاكم باحثا عن حقه، وعضو الحزب، والمقيم، والمهاجر، والناشط على الفيسبوك، وصاحب المنتدى والموقع الفعـّال، والأديب، والشاعر، والضابط المتقاعد، وابن بطل العبور و .. أن أسجد لك من دون الله فلن أتردد لحظة واحدة!
عندما وافقت أنا أنْ أضع توقيعي على استمارة استجداءٍ، وتـَوَسُّل، واستغاثة، واسترحام، لإرسالها إليك، فقد وقعتُ في حفرةٍ لا خروج لي منها إلا إلىَ القبر أو مستشفى استثماري لسرقة ما بقيَ سليمًا في جسدي.
أنا جبانٌ لأنني أطلب من الذئبِ أنْ يرعى الماشية ريثما أعود، وأطلب ممن يأكل لحمي مـَيـّْـتًا أنْ لا يغوص بأنيابـِه، ويترفق بفريسته!
سيدي الرئيس حسني مبارك،
الآن يمكنك أن تأمر كلابـَك باغتصابنا جميعًا فأنت أشرف من أن تحكمنا، وأطهر من أن يتلوث لسانك بالحديث إلينا، وأرجوك أن تأمر زبانيتك أن يستخدموا الأوراق التي نرسلها إليك طالبين حقوقـَنا كورق محارم في دورات المياه، وأن تنام قريرَ العين، وأن تجمع في فمك بصقةً لم يجمعها لـُعابـُك لثلاثةِ عقودٍ، وتقف وابنـُك في شـُرفة القصر، وتقذفها في وجوهنا جميعًا.
أشعر باحتقار لنفسي لم أعرفه من قبل، فأنا أمسك القلمَ، وأضع توقيعي على طلبٍ بفتات خبز ممن سرقه من أفواه أولادي، وبأن تسمح لي ببطاقة انتخاب.
عندما لفـَّني صمتُ القبور وأنا أقرأ طلبًا مصريًا جماعيًا لك أنْ تفتح ملفَ التحقيق في استشهاد الشاب خالد شعرت بقرف شديد من نفسي، ومن كل مصري يحمل في نفسه ذرةَ أمل واحدة فيك أو في نظامـِك القذر، أو في سجونك ومعتقلاتك ورجال أمنك وكلاب قصرك.
أخجلُ من الوقوف أمام الله، ومن الابتسامة، ومن الصلاة للعلي القدير، ومن دخول المسجد والكنيسة، ومن الحديث في أي شيء آخر يجعلني أغفل لحظة واحدة عن الغضب لجرائمك، فكيف بي ممسكًا بالقلم، مُعـْتـَرفًا بشرعيتـِك، مُقِرًا بحقـِك الدستوري في حُكـْمـِنا رغم أنف كل مصري.
منذ فترة طويلة وأنا أحاول ما وسعني الجهد العثور على تبريرات قد تنفعني عندما أقف أمام العزيز الجبار، فربما أقول بأنني لم أكن أعرف، أو أنني كنت ضعيفًا فصككت وجهي والتزمت الصمت، أو أنني توسمت فيك وفي كلابك خيرا بعدما شبعتم إذلالًا لنا، ونهبا لأموالنا، وتخريبا في وطننا، وتدميرًا في مصرنا الحبيبة!
هل صحيح أن الله، تعالى، خلقني مصريًا، ثم نزع مني البصر والسمع وأمات فؤادي وجعل مشاعري كجلمود صخر، والفئرانَ والأرانبَ تتفوّق عليَّ في شجاعتها، وجرأتـِها؟
قرأتُ ملفات الاستجداء في حق التصويت للمصريين، وتابعت كلمةَ الدكتور محمد البرادعي وهو يقول بأنك إنْ لم توافق على تغيير مواد الدستور لتفسح له المجال للترشح فسيطلب من الشعب أن لا يذهب إلى صناديق الإقتراع، فكدت أسقط بالسكتة الدماغية، وبدا الأمر كسجين في زنزانة منفردة، وقريب من الموت يؤكد بأنه سيطلب من الزملاء الآخرين أن يـُضربوا عن الطعام إن لم تسمح إدارة السجن له أن يقدم أوراق ترشحه منافسًا للسيد اللواء المدير!
توكيلات، تفويضات، مطالب، رسائل.. كلها تـَصُبّ في خانةٍ واحدة وهي أقصى درجات الخنوع، وتبرئة ساحتك كمجرم طاغية، ومستبدٍ لم تعرف مصرُ له مثيلاً.
المصريون يعارضونك بنصف لسان، ويناهضونك بعد استئذانك، ويتذللون إليك بعد موافقة الأمن!
أحتقر نفسي وقومي إنْ راودني أملٌ خفيُّ فيك وفي أي من الذين أحاطوا بك لحمايتك، ومع ذلك فاللهثُ خلف الوهم أضحى سمة مصرية، والدكتور محمد البرادعي غير مقتنع بالمرة بأن ترشيح نفسه أمامك أو أمام ابنك هو صكّ غفران لخطاياك، وتبرئة لمذابحك، وتقنين لتزويراتك الانتخابية في الولايات الخمس السوداء لحُكمك العفن.
أريد أن استبق بصقتك على وجهي ببصقتي في مرآتي، فأنا أخجل أمام كل شعوب الأرض، ولا أستطيع أن أبرر مشهدًا واحدًا من مشاهد الجـُبن التي تعتريني في يومي، وليلي، ويقظتي، وحواراتي، وحتى في صلواتي لله العزيز المتعال.
هل تصدق، سيدي الرئيس، أنني أخجل حتى من رشفةِ مياه من نيلنا الخالد الذي فرّطنا فيه، ومن يونيفورم جيشِنا الذي قمت أنت بحقنه لينام في ثكناته، أو يحمي إسرائيل من غضب سكان غزة، أو يقوم بنقل الغاز والبترول لآلة الحرب الصهيونية لكي تدكّ عظامـَنا، أو تبني سورًا عازلا، أو تهدم الأقصى الشريف.
أنا مصري في عهدك تعني أنني في نظر العالم بـِرُمـَته حشرة يدهسها حذاؤك،وأنا لم أعرف للفرح يومًا أو نصفَ يومٍ في عهدك، ولو تمنيّت شيئا الآن لما كان أكثر من وقوفي على أبواب كل مساجد وكنائس مصر وأصفع كلَّ الخارجين منها، فالتطهرُ قبل الصلاةِ يجوز فقط بوقف التأييد لك، ولا صلاة لمن لم يغضب عليك، ولا جـَنّة لمسلم أو قبطي فرَّط في كرامته، وصَـمـَتَ بعد معرفةٍ موثقةٍ ويقينية بنـَتـَن حُكمك الأكثر قسوة من كل المستبدين في العصر الحديث.
سيدي الرئيس،
أعتذر لك لأنني تخيلت للحظات أنني إنسانٌ له حقوق وعليه واجبات، وأنني من نسل آدم، عليه السلام، وأنني مصري انصهرت فيه حضارات الأرض لتـُكـَوّن ذلك الكائنَ الفريدَ من نوعه، والثائر على من ينزع كرامته، والغاضب على فرعونه، والعاشق لوطنه، والذي يدفع حياته ثمنًا لحماية ترابه، ومستقبل أولاده، فإذا بي أمسك استمارةً لجمعية التغيير، أو تحالف المصريين الأمريكيين، أو مظاهرة الإسكندرية من أجل القصاص للشهيد خالد محمد سعيد، ثم أوقـّع أدناه طالبا منك أو من وزير داخليتك أو من وزير خارجيتك السماحَ لي بالتصويت أو الترشُّح أو أن أفرح بتقديم ثلاثة مخبرين وضابط للعدالة.
لا أعترف بعدالة القضاء في مصر، ولا بأبناء أبطال العبور، ولا بشرف المعارضة، ولا بشباب الفيس فبوك، ولا بالمثقفين والإعلاميين والكـُتـّاب والشعراء، ولا بشرعية مجلس الشعب أو مجلس الشورى، ولا بالانتخابات القادمة لو نجوتَ برقبتك من محكمة الشعب قبل أن يذهب المصريون لصناديق الإقتراع.
إنني خجل .. خجل .. خجل من الله، ومن نفسي، ومن أهلي وأولادي وأحبابي وأقاربي، ومن كل من عرف أنني أمارس حياتي اليومية.
نسيت أن أقول لك أيضا بأنني أريد أن أبصق في وجوه كل الذين يجوسون في أدمغتهم المتورمة ليعثروا على تبريرات لجرائمك، فمن كان مؤيّدًا لك عن جهل فلا حاجة لنا به، ومن كان يؤيدك وهو يعرف مقطعاً واحدا من المشهد المصري الجحيمي فلن ينجو من حساب عسير يوم لا ينفع مال ولا بنون.
سيدي الرئيس،
لا تتردد إنْ أردت التخلصَ من الشعب كله مرة واحدة، فالروحُ قد فارقتنا منذ زمن بعيد، ولو أردتَ أنْ تحفر لنا حـُفرة تتسع لثمانين مليونا من عبيدك فستجدنا رهن الإشارة، واضعين رقابنا تحت حذائك قبل أن تطلب مـِنـّا ذلك.
شاهدتُ جلسة لمجلس الشعب، وأقسم لك بأننا لو انتخبنا قرودًا مستوردة من غابات الأمازون لكانوا أكثر رُقيـّا، وتحضـُرا، وتمـَدُّنا من ممثلي المصريين تحت قـُبـّة الحرم الديمقراطي. هذا ليس مجلسَ شعبٍ، لكنه غرزة لتـُجـّار الكيف، أو تجَمـُّع لنشالين ولصوص ومعاقين ذهنيا!
كادت تقتلني سلحفائية الدكتور محمد البرادعي فهو يظن أنه يصنع سفينة نوح، وقد ينتظر عدة مئات من الأعوام حتى يكتمل بناؤها، ويأخذ فيها من كل زوج اثنين، ومصريوك، سيدي الرئيس، على مرمى سهم من الانتحار الجماعي بعدما وصلت نسبة الانتحار الفردي إلى رقم قياسي لم تشهد له مصر مثيلا في خمسمئة عام!
لم أسحب تأييدي بَعْدُ للدكتور البرادعي، لكن مشاعرَ من التوجُسّ والخيفة وبعض اليأس وتسلـُل الأمل هاربًا من أحلام يقظتي ومنامي قد تقتلني قبل اعتذاري لك لظني، سابقًا، أنك مستبدٌّ من ورق، فإذا بي أمام معارضين من ورق!
سيدي الرئيس،
كم تمنيت لسنوات طويلة أن أراك مطأطيْ الرأس في قفص حديدي بمحكمة الشعب، وأستمع بعد أسابيع مرهقة من الشهود والمداولات وقراءة وثائق جرائم العصر إلى أعدل حُكـْم ينطق به أحد شرفاء مصر فيتدلى بعدها حبل مشنقة بعد إحالة الأوراق إلى فضيلة مفتي الجمهورية.
أما الآن فرحلة المهانة الثلاثينية تنتهي إلى طلبات، واستغاثة، واستجداء، وتوسل، لتسمح لنا بحق الانتخاب، ولو في ظل قانون الطواريء، وتغيّر بعض مواد الدستور، وتتفضل على مصري آخر أن ينافسك وابنك!
لا أعتذر لك فقط لأنني جبان، ولكن لأنني مصري!
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو في 22 يونيو 2010
Taeralshmal@gmail.com
التعليقات (0)