رسالة أدبية من أ. عمر الغوراني أستاذ اللغة العربية في مدرسة ياصيد الثانوية إلى صديقه منذر الفاكهاني "الشــــامي"بعد فراق ربع قرن من الزمان ...وجمعتهما الصدفة !!!!!
كم كانت فرحة الزميل أ. عمر الغوراني كبيرة عندما أثلج صدره تعليق أحد زملاء الدراسة على مواضيعه الشيقة ، إنه أخ عزيزٌ كانت جامعة دمشق هي مكان التعارف والزمالة ، وافترق الخريجون إلى معترك الحياة، ومنذ عام 1984 لم يلتقيا ، إلا بمحض الصدفة عندما كان الأخ الكريم يتصفح مدونة مدرسة ياصيد الثانوية في ألمانيا فوجد اسم أخيه عمر على صفحات المدرسة، وأكيد كانت الفرحة بنفس فرحة زميلنا عمر ، وبادر الزميل أبو مصعب "عمر الغوراني" إلى الرد السريع بقلب متلهفٍ شوقاً إلى أخيه الفاكهاني واضعاً تعليق الفاكهاني في المقدمة قائلاً:
"
"حياك الله وأكرمك
تذكرت أياما خوالي فخطر على بالي الأحبة بعد طول غياب
أرجو أنك لا تزال تتذكر الأيام الغرر في جامعة دمشق
وتتذكر صحب تلك الأيام
أحلى تحية "
رسالة إلى الفاكهاني
وقال الغوراني لزميل دراسته:
آهٍ .. وأوّاه..وسقاه الله ورعاه، ذاك الزمان الذي في شام الأحبة عشناه..هل تتذكر يا منذر ..؟إنك -إذن- جاحد عاق..!أمّا أنا فلا أتذكر.. لأنني ما نسيت ..!
إنني و الله أرى صورتك الآن يا منذر كما لو أنك أمام ناظري .. و والله منذ أيام قليلة ، قلت في نفسي : لئن قـُدّر لي أن أذهب إلى الشام لأزورنّ بيت منذر . ولست بحاجة إلى أحد يدلني عليه .. إنه الآن -كذلك- أمام ناظريّ . و اعذرني لخاطر في هذا الشأن خطر لي .. قلت في نفسي : ولئن فُجعت بجواب عند الباب لا يسرني !.. واعذرني مرة أخرى إذ أبوح لك بهواجسي ، وما أهذي به في نفسي .. و إنما أبوح لك بها – فيما أظن – لتعلم كم هو سروري بسطرين تلقيتهما منك, بعدما عدمت وسائل الوصل ..
أمنذر , قد لقيتك بعد يأس// كأني قد لقيت بك الشبابا
,كما قال أمير الشعراء .ولعله من غريب الاتفاق ،أن يوم تحريرك لسطريك العزيزين ، في الأول من تشرين الأول ( 110 ) هو يوم مولدي ..! ومن يدري .. فلعل الساعة ( 8.53am) هي كذلك ساعة رؤيتي للنور أول مرة ..إنه والله يا منذر ليس كلام أدب, أو إنشاءٌ و حسن بيان أصوغه ، بل هي كلماتي تدّاعى ،و أدعها تجري في أعنّتها ، و على سجيتها . و لو أردت البيان – و لا فخر – لحبّرته لك تحبيرا ، و لكنّي لست على استعداد لأن أفسد بهجة اللقاء ببهرج الإنشاء ! ولا داعي عندي لأن أقول لك : (يا أخ منذر) فأنا لست مستعدا للقبول بما يحجز ندائي إياك .. أما أنت فناديتني بها ، لأدب جمّ عهدته فيك , وحياء أكبرته فيك يوم كنا معا ..
ربع قرن من الزمان , وفوقه سنة زيادة وبضعة أشهر.. !منذ غادرت ارض الشام الحبيب آخر مرة , في الثاني عشر من حزيران عام ألف وتسعمائة وأربعة وثمانين ...
تقول لي: "تتذكر"..؟ وهل نسيت حتى أتذكر ..؟ هل أنسى أياما - سقاها الله - عشناها معا في الشام ، جنة الله في أرضه ، مع صديقي و أخي الشامي : منذر .. وكأنه قطعة من هذه الجنة ، أو هي قطعة منه .. أياما وشهورا .. عشتها و إياك , ما أحسست فيها بغربة , وأنا الذي كزاجل الحمام .. شديد الحنين _ عميق الحس , عبقري الألم ..
و ما زلت أذكر أيام (دُمّر ) حيث عشنا أياما لا تُنسى ، أيام كان يهجر ولد أهله في( البرامكة )غير قال ٍ ، ينشد الصفاء لدى صفيّه و خليله ، فأنسى خليله غربته .. ، و أنساه الأحبة و الوطن .. كما قال ذاك الشاعر . و ما زلت أذكر يوم كنّا نضحك كطفلين من الأعماق معا ، و نبكي – كذلك معا – من خشية الله يوم كانت تخالج نفسينا رقة الخشوع و لذة العبادة ..
مازلت أذكر – إذا أصررت على مفردة التذكـّر – يوم كنت تقترح عليّ – كأمّي – ما ألبس يوم نذهب إلى الجامعة معا ..
مازلت أذكر ( البرامكة) و (الصالحية) و( المزّة) و (الشيخ محيي الدين) و (ركن الدين) و (الميدان) و حتى (باب توما) و( باب مصلّى) و (الحميدية) و سوق (السروجية) و (السنانية) و شارع (بغداد) و (أبو رمانة) و (المرجة) و (الحجاز) و (المالكي) و (قاسيون) ... و ما زلت أذكر ( الغوطة ) و ( مضايا ) و ( الزبداني ) .. ما زلت أذكر تلك المنازل – سقاها الله و رعاها – أو مازلت غير ناس ٍ ..
و ما زلت أذكر أساتذتنا في آداب جامعة دمشق ، و لم تبرح صورهم عينيّ : محمد علي سلطاني و نور الدين العتر و شاكر الفحام و محمد شفيق البزرة و محمود الربداوي و فهد عكام و عزيزة مريدن و حسام الخطيب و وهب رومية و سهيل زكار و منى الياس و مسعود البوبو و أحلام الزعيم و عبد الحفيظ السطلي و ليلى الصباغ ...
و هل أنسى علماء الشام و مشايخها و وعّاظها الذين شرفنا الله بالتتلمذ على أيديهم سنين عددا ، أو بلقائهم : محمد سعيد رمضان البوطي و مصطفى البغا و وهبة الزحيلي ، و أحمد كفتارو و مروان شيخو ...
ما زلت أذكر زورة لبيت الفاكهاني الكريم ، و لم يزل الوالد الكريم حاضرا أمام ناظريّ ، و قد قدرت – حينها - سنّه في الستين ، أشيب الشعر و لكن غزيره من غير صلع .. فعرفت سرّ غزارة شعرك – أيامها – أما زلت غزير الشعر يا منذر أم صلعت و أخذت السنون ضريبتها ؟ كان الوالد ينظر في المرآة يسوّي شعره ، فداخلني – أصدقك – حينها الشعور – لحداثة السن و سذاجة تجربة الحياة - بالتعجب ؛ أن ّ المرء يبلغ هذا السن و هو يُعنى بمظهره ، أو هو نهج أسري و ميراث من التأنق لحظته فيك ..
و لا أدري أ أقول : ( يرحم الله والدك ) أم أدعو له بالحفظ و طول العمر مقرونا بالصحة و موفور العافية ..
فجاجة ٌ ،و جفاء قول .. من ابن الضيعة ! فلتحتملها يا ابن العاصمة .. ! شفيعي فيها سجية أبيت معها التكلف في خطاب من أحببت ..
و هل أنسى أخاك ماجدا ، أديب الشام و روائيها .. ؟ و هل أنسى هديته النفيسة إليّ ؛ رواية ( حصاد الأهداب ) يوم زرته بمعيتك في مكتبه في الطابق الأرضي .. كيف ذاكرتي بالله يا منذر ؟ و تقول لي بعد ذلك " تتذكر.. "
ما أخباره ، أديبنا ماجد ؟
و ما أخبارك أنت ؟ و ما الذي أوصلك يا ولد إلى (فرايبورغ-ألمانيا)؟ إياك أن تدّخر خبرا عنك لا تخبرني به ..
أما أنا ، فقد انتظمت في سلك التعليم في المدارس الحكومية منذ السنة التي فارقتك فيها الـ ( 84) و لم أزل على حالي ؛ ست و عشرون سنة ، و زيادة .. يا الله كيف تمر السنون يا منذر .. ! كنا نسمعها من الكبار و لا يستوقفنا قولهم إلا ّ قليلا ..
عندي – بحمد الله – خمس بنات و ولد .. منهم من أوشك على التخرج في الجامعة في مثل سننا – تقريبا – يوم افترقنا .. !و آخرهم ( صَبا ) ملكة قلبَي أبويها و الأسرة ، في روضة الأطفال .
منذر ، ألا تزور فلسطين ، إذا كنت تحمل الجنسية (الألمانية) ؟ ألا تزور أخاك عمر ، المشوق إلى لقائك ؟ أما قريتي ( الضيعة ) فهي الفارعة ، التي – إن كنت تذكر .. – حدثتك عنها كثيرا ، و نحن جالسان في (دمّر ) على ضفة بردى ، و كنت أقول لك : إنني أجد في (دمّر ) بعضا من العِوَض عن (الفارعة ) بطبيعتها المشابهة و بمائها و جداولها و خضرتها و صفصافها و أطيارها ..
هل هيّجت وجدك إلى الشام.. ؟
و هل لي شفيع أو عذير مما تقدم .. ؟ !
فإن لم تشتق لأخيك عمر ، فلا يعقل أنّك لا تشتاق للأقصى المبارك حوله .. ، فما أجمل زورة للأقصى بمعية منذر ، إنها – إذن - تجمع خيري الدين و الدنيا ..
و إذا أردت مزيدا من الفحص لذاكرتي ، يا من تقول : " تتذكر .." فهل أذكرك ببعض من الدعابات و الملح كانت بيننا .. ؟
يوم كنت تقرأ أنت ما كتب على الحافلة : ( دمّر – الهامة ) بالتصحيف المضحك : ( دَمّرَ إلهامهُ) ..
و يوم كنت أخترع لك أسماء مشابهة لما هو في البلدان ، و أصوغ منها خبرا : أمسية شعرية يحييها الشاعران الكبيران : السعودي فقيش بن قحطان آل المقيطي ، و الشاعر الشامي : صياح القناقيزي ..
يوم كنا نتلو القرآن الكريم ، و كنت أنت أقرأ مني له و أكثر إجادة لأحكامه ، فقرأت أنا : ( و لا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا...) بفتح ( التاء ) في ( تنكحوا ) فصوّبتني أنت و كان الحرج شديدا من فساد المعنى كليا في الآية .. !
يوم كنا في المطبخ ، و طبخنا أنا و أنت مقلي البندورة مع البيض ، فقلت لي : ماذا تسمونها في فلسطين ؟ فأجبتك : بندورة و بيض مقلي ، فقلت لي : نحن نسميها : ( الشز- مز ) بتفخيم الزاي في المقطعين ، فقلت لك على الفور: سأكتب في ( الشز- مز ) قصيدة ، هذا مطلعها :
يا شز يا مز قد جُننتُ بحبّكا // البيض و البَنَدُورة استوتْ من فوقكا
و لم تزل هذه القصيدة ، منذ ستة و عشرين عاما ، و حتى الآن ببيت يتيم واحد .. فهلا ّ أتممت .. ؟
سلامي إليك ،و إلى لأسرة الكريمة ، و أشواقي و خالص أمنياتي .
ملحوظة :
أرجو أن تدع لي ( الـ e-mail) الخاص بك على صفحة مدونتنا هذه ، و بالطريقة التي كتبت فيها سطريك إلي ، و سأستلمه من زميلي محرر مدونتنا ، دون ظهوره على الملأ إن شئت .. و دمت سالما .
أخوك
عمر عبد الخالق غوراني
في السادس من تشرين الأول – 2010 م
التعليقات (0)